كاد فيلمه "يد إلهية" أن يفوز بالسعفة الذهبية" في مهرجان كان الماضي، غير أن إرادة لجنة التحكيم اختارت فيلما آخر، فأنصفه النقد وحصل على جائزته. قبل ذلك حاز ايليا سليمان على جائزة أحسن أول فيلم في مهرجان البندقية عام 1996، رغم هذه الجوائز التي يحلم بها كل مخرج عالمي يبدو ايليا سليمان هادئا ومتواضعا، طريقة حكيه تجعله محبوبا إلى من يجالسه.
&
تسافر معه "إيلاف" في تفاصيل فيلم "يد إلهية" الذي بدأ عرضه في كبريات القاعات السينمائية بأوربا وأمريكا. تحدث ايليا سليمان عن السينما بحب وعشق وأثار "أصوليته السينمائية"، دون أن ينسى إثارة تصوره للسينما وأهم المرجعيات التي أثرت في مساره السينمائي. في حديثه تحس بذلك العشق للفن السابع، بتلك الأحاسيس التي تربطه بالصورة، إنه مبدع الصورة.
- ايليا سليمان عرفت أفلام سينمائية فلسطينية حضورا قويا على المستوى الدولي هل هناك صناعة سينمائية فلسطينية؟
- لا توجد صناعة سينمائية فلسطينية، لأنه لا توجد فلسطين أصلا، فهي ما زالت تقاوم الاحتلال رغبة في التحرر، أعتقد أن هناك محاولات كثيرة في السينما، ظهرت مع أجيال جديدة، وهي محاولات تستعمل الكاميرا الرقمية، هذه الموجة بدأت مع الانتفاضة، ونظرا لسهولة استعمالها، فهي تسمح بسرقة الصور دون إثارة انتباه الإسرائيليين، من هذه المحاولات هناك محاولات نجد تجارب نسائية. هذا هو النوع من الأفلام الموجودة في فلسطين أما السينما باستعمال 35ملم فهي تتطلب إمكانيات كبيرة، لا قبل للفلسطينيين بها، فنحن لا نملك وزارة ثقافة فلسطينية لدعم المشاريع السينمائية.
المشكل ليس حكرا على فلسطين بل يمتد إلى كل الأفلام العالمية، في المغرب هناك مركز سينمائي مغربي وهناك صندوق دعم، تساعد الإبداع وسينما المؤلف كتلك التي يقوم بها المخرج المغربي فوزي بنسعيدي.
- هناك صفات فنية مشتركة بينك وبين فوزي بنسعيدي، منها الاهتمام أكثر بجمالية الصورة بالإضافة إلى الحساسية المرهفة كما لا حظناها في فيلم "يد إلهية" حيث التركيز على الصورة لملء الصمت والفراغ؟
- بالنسبة لي السينما صورة في المقام الأول، إذا لم تستغل إمكنيات التي تتيحها الصور وركزت على الحوار فإنك تخسر أهم سيمة في السينما وهي الصورة، وهذا يدخلك في نوع من الخطاب الأحادي، فالصورة تعطي إمكانيات هائلة للسينمائي.
الصمت ألجأ إلى تكسيره بكوريغرافيا، كما فعلت في "يد إلهية".
أنا أستعمل حوارا لكنه في حقيقة الأمر انكسارا للحوار، هو أقرب إلى المونولوغات. لأنه في نظري الحوار الأحادي يغلق الصورة.
الحوارات بالنسبة لي تخلق واقعا سيكولوجيا، فعندما تشاهد فيلمي "يد إلهية" تلاحظ أن أبطاله& من سائق الطاكسي إلى صاحب القصر ...يعيشون حالات نفسية ولهم ذكاء معين، وأظن أن هذا الذكاء مرده إلى كاتب الخطاب الرئيسي، أي المخرج ،وبالتالي هناك شيء مزيف في الأمر، كلهم يعيشون تلك الحالات النفسية التي قلتها لك.
- ألا تعتبر ذلك انفصاما ف يالشخصية؟
- تركيزي في السينما يحتفل أساسا بالصورة وترك مساحة كبيرة للمشاهد كي يقترب أكثر من الشخصيات.
- هناك نقطة أخرى تلتقي فيها مع فوزي بنسعيدي أي تلك الرغبة في العودة إلى السينما الأصل، من خلال توظيف كاميرا ثابتة ومشهد عام، لماذا هذه الأصولية السينمائية؟
- أنا سينمائي أصولي، وهذا عنوان جيد، لا أملك جوابا على هذا، وأظن أن& لهذا علاقة بتكويني، فأنا لم أتعلم السينما في معاهد أكاديمية، ولم أتمكن بالتالي من الدخول في تلك النظريات السينمائية.
- هذا أحسن؟
- لا أعرف إذا كان ذلك أحسن أو أسوأ، المهم أنني لم أتعلم السينما أكاديميا، بل على السليقة، لذا لا أملك مرجعيات كثيرة. ربما أن مجيئي إلى السينما بهذه الطريقة وبدون ذلك الرصيد الأكاديمي ترك لي فرصة كبيرة للإبداع، وأريد أن أوضح أن تلك البساطة التي لاحظتها في اللقطات الثابتة ليست إيديولوجية، ما تشاهده له علاقة حميمية بي، فعلو وانحدار الكاميرا له تأثير على الطريقة التي أرى بها العالم،هذا بالإضافة، أن هذه التقنية يخلق نوعا من البعد بيني وبين ما هو متصور، وهذا يسمح لي بخلق مساحات حرة، إنها نوع من الديمقرطة في مشاهدة الصورة.
وأضيف إلى ذلك أن العالم مركب والدمج بين البساطة وهذا التعقيد والتركيب خلقت علاقة فأنتجت ما شاهدته، والذي يحتوي على مرجعيات الأفلام الصامتة، وهو ما يسمى بالممتنع السهل.
-&& كيف تحس عندما يعرض فيلم فلسطيني في مناطق مختلفة، هل ترى أن رسالة الفلسطيني وصلت؟
- سأعكس الآية، إذا أخرجت فيلما محليا عن فلسطين فإنه سيبقى هناك، أما إذا ما قدمت سينما كما هو متعارف عليه فستأخذ بعدا عالميا..
العبء الموجود على السينمائي الفلسطيني هو أنه في كثير من المرات يتحمل& مسؤولية تمثيلية الشعب الفلسطيني وهو ما أرفضه لأنني لا أمثل إلا نفسي، وحتى إذا ما مثلت هذا الشعب فهذا صعب، لأنه مؤرجح بين الشتات وبين أرضه. وأظن أن لا وجود لقصة قادرة على التعبير عن الشعب الفلسطيني بشكل أحادي.
- هل هناك خطوط حمراء تحد من قدرتك كمخرج سينمائي؟
- لا توجد عندي خطوط حمراء بل عند الذين يأتون لمشاهدة الفيلم وهم يتوقعون صورة معينة للفلسطيني، ومهمة المخرج هو اختراق هذه الأفكار المسبقة عن الفلسطينيين، كثير من الناس عندما يجدون نكتا في الفيلم الفلسطيني يستغربون، لأن هناك صورة مسبقة، هم يعتقدون أن الفلسطيني لا يمكن إنتاج إلا الأفلام التراجيدية، تلك الأفلام التي تعالج مأساة الفلسطينيين.
مثلا فيلم "يد إلهية" تضمن بعض النكت في البداية فأثار ذلك استغراب الحاضرين، لأن هناك صورة مسبقة عن فلسطين. أظن أنه سيخرج هؤلاء المشاهدون بفكرة مغايرة أن الفلسطينين يستطيعون إخراج أفلام سينمائية.
هناك خطوط حمراء يبدو لي حاضرة، كمشهد النينجا، فكلما حكى الفيلم عن الاحتلال فهو مقبول، لكن عندما صار العدو، حتى في الخيال، صار في الممنوعات، لأن النينجا يقتل الإسرائيليين، والغريب في الموضوع سينمائيا، وهذا كلام مصور الفيلم، لأول مرة في تاريخ السينما يكون نينجا بطلا وامرأة في الآن نفسه، حيث يتحدى رصاص خمسة إسرائيليين.
الرقابة الذاتية موجودة عند كل المخرجين، وهناك حالات مخرجين مغاربة ينتجون أفلامهم كي يقبلها الغرب، وهو عكس ما يقوم به مثلا فوزي بنسعيدي.
- لأنه يقوم بسينما لذاته أولا؟
- السينما تعمل للنفس وللذات وبعد ذلك يصير ذلك التواصل مع الآخر.
- تحدثم عن الطابع السياسي، في "يد إلهية" يحضر هذا الطابع، من خلال مشهد "البالون"، الذي كان فيه توظيف هذا الجانب، لم هذا التوظيف؟
- نعم كان هناك توظيف سياسي في هذا المشهد، ولكن في الدرجة الثانية، فالبالون الذي يحمل صورة، هي ليست لعرفات الشخص بل للرمز.
أفتح قوسا لأقول إنني لا أتعاطف مع عرفات بعد اتفاقيات أوسلو، ولكنه سيظل ، مع كل أخطائه ومع همجية أوسلو، رمزا للشعب الفلسطيني، وظفت ذلك لأن العالم بعد أوسلو صار يهمش الرمز الفلسطيني، وإسرائيل كانت ذكية في هذه النقطة.
فكل رموز المقاومة ماتت بعد أوسلو، لكن في مشهد البالون الذي يكسر الحواجز ويختراقها ليصل إلى الحرم عودة للرمز، هناك درجة ثانية من الدعاية في الموضوع، وأقول في مشهد النينجا كان هذا التوظيف أكثر حضورا، ولكن ليس على مستوى الدعاية من الدرجة الأولى، فأنا سيست المشهد، وسيست ماتريكس.
- قبل أن نعود إلى هذه النقطة، تقنيا كيف صورت مشهد النينجا، وهل هناك تأثير ايليا سليمان بماتريكس
- استعملت بعضا مما وظف في "ماتريكس" بشكل ثوري، وكان لهذا التوظيف أغراض سينمائية سياسية، أردت أن أكسر الفاصل الدائم الموجود في الإنتاج السينمائي، والذي يحاول أن ينشئ "كيتو" ما بين أفلام المؤلف والأفلام التجارية.
من الناحية الإنتاجية صعب أن يضع الأسد رفقة الغزال كما حدث في سفينة نوح، السبب هو أن مشهد النينجا كلف 25 في المائة من ميزانية الفيلم ككل.
والمنتج لا يريد أنصاف الحلول، إما أنه يريد أفلام حركية تجارية أو أفلام المؤلف. بالنسبة لي كنت أريد أن أدخل في تحد، أي أن أخرج فيلما يجمع بين الاثنين.
أريد من فيلمي أن يجني أرباحا كذلك، وإذا ما أبنت عن عضلاتي في هذا الفيلم، فكان من خلال مشهد النينجا. وهذا رسالة إلى المخرجين كي ينخرطوا في مثل هذه الأعمال ولينسوا تلك الرقابة الذاتية والمالية.
إذا أردت أن تقوم بسينما لها قيمتها وتريدها أن تصل إلى الجمهور، فإن ذلك ممكن، وفيلمي وزع عالميا وأحد موزعيه وارنر برادز، إنه يستجيب كما قلت لجمهور سينما المؤلف وجمهور السينما التجارية.
مع إشارة إلى أنني في هذا المشهد كسرت قاعدة ففتحت الصورة كما فتحتها في مشاهد أخرى، هناك نوع من كسر الخطاب الذي تتضمنه هذا المشهد
- في نفس المشهد وظفت الكوريغراف، هل الممثلون كوريغراف ومن صمم الرقصة؟
- لم يكونوا راقصين بل "كاسكادور، ممثلو المشاهد الصعبة، واخترت ذلك لأخلق عدم اتزان في تصميم الرقصة، هؤلاء اعتادوا على العمل مع أفلام أمريكية بإنتاجات ضخمة ولما علموا أنني سأفتح الكاميرا بذلك الشكل وافقوا على العمل معي، وأنا من علمهم الرقصة.
- بالنسبة لحضور المكان كيف تم اختياره؟
- كل الأزقة التي ظهرت في الفيلم لها علاقة بتاريخي الشخصي وتربطني بها علائق شخصية سيكولوجية، وبالتالي فاختياري لها كان لأسباب شخصية.
أما القصص التي شاهدتها في الفيلم قصص سمعتها من الجيران، ثم جاء بعد ذلك الكوريغرافيا وأخذ المشاهد والزمان ....السينما ليست موضوعا بل كيف تحكي الموضوع، والديكور الذي شاهدته حاجز كنت أمر منه يوميا.
في الانتفاضة الأولى، كنت مسافرا إلى هوليود وشاهدت صورة وضعها الإسرائيليون عن كيفية إطلاق النار على الفلسطينيين، وأخذت الصورة واحتفظت بها، وبعد أن كتبت السيناريو بدأت أطوره ووظفت هذه الصورة.
- هذا يعني أن السيناريو كان مفتوحا خلال التصوير؟
- لا أبدا أنا أتحدث عن تطور الفكرة، السيناريو كان مغلقا، ولا شيء مفتوح في السيناريو لا يمكن أن تصور مشهدا كمشهد "نينجا" بسيناريو مفتوح. لم أغير أي شيء أثناء التصوير، لأن الطاقم اشتغل 3 أشهر في التحضير، واستغرق التصوير عشرة أيام، كان معنا 14 يوما فقط للتصوير، وضاعت 4 أيام نتيجة الضباب، ولم يتبق إلا 10 أيام، لذا وضعت ثلاث كاميرات للتصوير في نفس الوقت، وعندما تفرض علي ضرورة فنية أضع الكاميرات الثلاث في مكان واحد.
- وأعود لاختيارك للتمثيل، هذه عودة للتمثيل؟
- لهذا علاقة بنوعية السينما التي أخرجها، إنها سينما خاصة بي، وهذا لا يعني أنني أقوم ببورتريه شخصي، وليس بيوغرافيا، لأن هذا يعطي إمكانية قراءة الصورة بدمقرطة معينة.
حضوري في الفيلم لا يشبه حضور كلينيستود، إنه نوع من التذكير للمخرج في الفيلم، وهذا يعطي لهذا الحضور شفافية، فطريقة تمثيلي للفيلم تفريغ للشخص، وأقتصر على دور المرشد وأرفض أن يكون لي تعبير معين وواضح على وجهي.
- شخصيتك قد تنخرط في الحياد السلبي الذي يزعج المشاهد، نتيجة هذا الاختيار؟
- إذا تحرك البطل فهذا يقوم مقام الشغل الفكري للمشاهد. أريد أن أترك للمشاهد فضاء لإعمال الفكر، إنني ضد الحضور البطولي للممثل لأن الفيلم يسقط في الخطابة.
السينما لها قواسم مشتركة مع القصيدة الشعرية، وخاصة من حيث التلقي، وهما معا يرفضان الخطابة. وهذه التعددية في التلقي ضرورية جدا.
- تحدثم عن القصيدة الشعرية، فيلم "يد إلهية" بني على مقاطع تشبع المقاطع الشعرية، لماذا هذا الاختيار؟
- لا أعتبر ذلك اختيارا، فهي طريقة أعبر فيها عن نفسي، ففي كل "لوحة" في الفيلم قصة جديدة والمونتاج بين لوحة ولوحة يخلق قصة، وإمكانية المونتاج تخلق تعدد في قراءة الصورة، في النهاية كل ما تقوم به في السينما يستجيب لما قلته لك سلفا، وهي الرغبة الشخصية بكل تعقيداتها.
- هل كنت تنتظر نجاح فيلمك؟
- عندما تكون للمخرج فكرة مسبقة عن العمل يموت الإبداع، وأنا ضد هذه الأفلام.& فأنا أبدأ في كتابة السيناريو أبدأ بخربشات، من خلال أوراق، وهكذا تتطور الفكرة وتنضج بعد أن تنقح، فالسينما أسلوب حياة بالنسبة لي.
- سؤال حول المرجعية، الملاحظ تأثير السينما الأسيوية في طريقة إخراجك؟
- ما تقوله صحيح بخصوص السينما الأسيوية وخاصة التايوانية والصينية، فأول مرة شاهدت فيلما تايوانيا قلت باستغراب كبير هولاء يشبهون الفلسطينيين وخاصة في طريقة مشيهم ورؤيتهم للحياة، ويظهر ذلك في الفيلم من خلال مشهد "الفلسطينيان الجالسان على الشارع".
هناك من يقول إن فيلم باستر كيتن وجاك تاتي، ولم أر في حياتي هاذين المخرجين عندما صورت فيلمي الأول، أما السينما الآسيوية فأنا قريب منها كما قلت لك. كما أنني أحببت سينما أنطونيوني وأعجبت بها.
- سؤال أخير، هل مراكش أوحت لكم ببعض الخربشات عن مشروع الفيلم المقبل؟
- أحمل معي مذكرتي، وأنا لا أكتب سيناريو أي فيلم، وأنا بصدد جولة عالمية بترويج فيلمي "يد إلهية" الذي سيوزع في أوربا وأمريكا، وسأظل على هذا حتى نهاية يناير، بعد ذلك سأبدأ في كتابة سيناريو الفيلم المقبل.
- الفوز بجائزة مهرجان البندقية وجائزة النقد في مهرجان كان، فيلم آخر قد يعرض في برلين، ألا يؤثر هذا على كتابتهم للعمل المقبل؟
- إذا بدأت بالكتابة للجوائز فمن الأفضل أن تترك السينما.
- قد يجعل مسؤولية الكتابة صعبة؟
- كل مرة تصعب الكتابة، لكن هذا تحد تأخذه على نفسك، فبعد البندقية عانيت في كتابة السيناريو الثاني، ذلك أنني حصلت على عرض من شركة هوليودية لأعيد إخراج قسم من الفيلم لأنهم قالوا إنني أشبه باستر كيتون، وبعد فترة بدأت أكتب كما يريدون، غير أنني مزقت الأوراق وقلت إليهم لا أريد اتفاقيات ولا أموالا، وعرفت حياتي بعض الحوادث تركت على إثرها السينما، ثم مرض أبي، فصارت التجارب تتراكم وصارت هذه الأخيرة تحفز للعمل في سيناريو آخر، وهو ما حصل.
- اكتشفت في هذا الفيلم أن إخلاصك لفنك، واللحظة التي تضحك على المشاهد يفقد الفيلم قيمته.
- يجب أن تتجاوز الرقابة الخاصة، وهذا ما يخلق تواصل مع المشاهد، وهو ما أشتغل عليه، أتمنى أن أظل محافظا على نفسي بحيث لا أغتر بنجاح أفلامي.
&
ثقافة إيلاف