نبيل عمر
أحسست بألم ممض رهيب في قلبي كما لو أن ثعبانا خبيثا لدغني فيه، بينما عيني تلاحق سطور خبر نشرته جرائد الصباح في صفحات الجريمة والقضايا، الخبر السام يتحدث عن محاولة انتحار أقدم عليها رجل في الخامسة والثلاثين بعد أن ضبط متلبسا بسرقة تليفون محمول، ومحاولات الانتحار لأسباب الفقر والحرمان من الأمل وخنق أبواب الحياة باتت شائعة لا تنقطع من الجريان في أيامنا الرديئة تلك، توارت محاولات الانتحار لأسباب أخلاقية مفسحة الساحة أمام الأسباب الاقتصادية، لم نعد نسمع عن أمثال نفيسة بطلة رائعة العبقري نجيب محفوظ "بداية ونهاية" التي جرجرها العوز من نصفها الأسفل إلى عالم الرزيلة، فألقت بنفسها في جوف النهر لعله يدفن في قاعه البارد خطيئتها، ويكون بها أرحم من البشر
صار دعاة الهروب من الحياة مختلفين إلى حد كبير، شاب متعلم عاطل، زوج جيوبه خاوية وتطاردها بإلحاح طلبات بسيطة من عائلته، رب عائلة أحيل إلى المعاش مبكرا، زوجة فشلت ألاعيبها في التوفيق بين مرتب الزوج واحتياجات الأولاد، لم يعد "الشرف" المسال هو أهم دوافع قطع تذكرة مستعجلة إلي العالم الآخر..بل باتت " الحاجة"، والحاجة كما يقول العلم هي أم الاختراع حتى لو كان طريقا للموت السريع
أذن ما المثير في الخبر ذي اللدغة الثعبانية؟
الإثارة هنا في صاحب محاولة الانتحار، وهو محام في مقتبل العمر، يتردد على كشك من الأكشاك المتناثرة في وسط البلد القريبة من مجمع المحاكم ومحكمة الجنايات ونقابة المحامين، تعرف على صاحبه و وأصبح زبونا عنده، يشترى منه السجائر، ومناديل الورق، يستخدم تليفونه العادي أو المحمول، لكن في هذه المرة وهو واقف أمام الكشك& برقت فجأة في ذهنه فكرة شريرة كما يبرق الموت على شاطئ البحر ويختطف أحد المصطفين في ساعة اطمئنان، كانت الفكرة الهابطة كملاك أسود هي: لماذا لا "تسرق" تليفون صاحب الكشك المحمول؟
&وراح المحامي يحدث صاحب الكشك في عملية إلهاء وخداع معتادة في هذا النوع من السرقات، والفكرة تختمر في رأسه وتلح عليه كرغبة مجنونة أمسكت بمراهق يقف خلف امرأة بضة في أتوبيس مكدس، وفي لحظة خاطفة تخلى فيها صاحب الكشك عن حذره المشرع دائما، وضع الشاب الموبايل في جيبه، وسار لا يلوي على شئ
هذه هو الجزء الأول من الخبر، ولا يمكن أن نأخذه على علاته بلا أسئلة كاشفة، فالسارق ليس مشبوها أو منحرفا، والمسروق لا ينطبق عليه القانون المسيطر الآن: إن سرقت أسرق جملا، فهو ليس جملا ولا حتى ماعز، بل هو مجرد تليفون محمول لن يباع في عالم المسروقات بأكثر من مائة أو مائتي جنيه
باختصار..لا الضحية محترف..ولا المسروق ملايين من البنوك تستحق الجرسة والفضيحة
والسؤال الافتتاحي: ما الذي يمكن أن يدفع هذا المحامي الشاب إلى هذا الفعل المجرم؟
وحتى نتخلص من بعض الأفكار التقليدية، علينا أن ندرك أن المحامي الشاب ليس من الأثرياء المصابين بـ"فوبيا" لطش البضائع من المحلات، مثل الممثلة الأمريكية الشهيرة واينانا رايدر التي ضبطت داخل مول شهير في لوس أنجلوس وهي تدس عقدا من الماس قيمته خمسة آلاف دولار في حقيبتها، وحكمت عليها المحكمة بالعمل من أجل المجتمع ما يقرب من عام ونصف العالم نقصد أن سرقة الموبايل لم تكن هواية أو مرضا أو نكاية أو انتقام..
بطل الموبايل، شاب من الطبقة الوسطي، التعليم هو مصدر قوته - كما يظن - إلي الصعود الاجتماعي، بالتأكيد هو لم يحصل على مجموع كبير في الثانوية العامة، يمنحه بطاقة ترشيح لإحدى كليات القمة: الاقتصاد والعلوم السياسية أو الإعلام أو الآداب قسم إنجليزي، فرضي بالحقوق على مضض، وتخرج مثل عشرات الآلاف إلى سوق عمل لا تحتاجهم ولا تريدهم، فيمكثون بعشرات السنين بلا عمل أو يتدربون في أعمال سكرتارية في مكاتب محامين آخرين بمائة جنيه في الشهر أو يقترضون من الصندوق الاجتماعي لصناعة عربة لبيع الخبز، أو يمرون على البيوت لتسويق أكياس القمامة أو أدوات مستوردة من الصين أو يلتحقون بشركات الأمن الجديدة كحراس بمرتبات مهينة
وبالقطع هو ليس من عائلة "واصلة"، وألا كان عين في النيابة مهما كان تقدير تخرجه في الليسانس..وفتحت له قاعات المحاكم ليحكم بين الناس بالعدل، وهو أصلا لم ينل منصبه بأي قدر من العدل والمساواة..أو قد دفع إلى وظيفة دافئة في القطاع الخاص أو في هيئة عامة لها وضع خاص لم يعد ثمة مكان أو مهنة أو مؤسسة في مصر لا تطولها أيدي "الواسطة والمحسوبية"، ولا تطويها أجنحة النفوذ تحت إبطها أذن بطلنا من أفراد الطبقة الوسطى العادية التي بلا ظهر، محصور بين قوة فقر تشده إلى أسفل و"قوة فساد" تدفعه أيضا إلى أسفل
لكن هذا لا يبرر أبدا ما حدث أو يجد له عذرا..نحن فقط نحلل ما حدث بطريقة إنسانية بعيدا عن معايير مثالية والسؤال الثاني التلقائي: ما هو الدافع للسرقة؟
باختصار هي الحاجة والعوز والفاقة..
وهي دوافع لا تكفي..ويجب أن ترتبط بدافع أخطر وأقوى وهو غياب أي أمل أو احتمال لكسر هذه الدائرة الثلاثية الخانقة، لا الآن ولا في الأيام المقبلة& باختصار كان المحامي الشاب يعيش حاضرا صعبا، دون أدني بادرة أمل في المستقبل القريب ولأنه غير محترف..وربما هذه أول مرة في حياته..كان من الطبيعي أن يفشل في تصريف البضاعة المسروقة، وأتصور أنه فكر كثيرا في بيع الموبايل لأحد معارفه، صديق قديم أو جار أو زميل، لكنه خاف من التساؤلات الشقية: من أين لك بهذا الجهاز؟ ..ولماذا تريد أن تبيعه بأي سعر؟
وهداه تفكيره إلى شارع عبد العزيز بالعتبة، وشارع عبد العزيز هو عنوان مصر الحديثة، صورة بالنيون والصخب والفوضى لما يجرى في المحروسة وما آل إليه حالها في أول القرن الحادي والعشرين، أجهزة من الإبرة إلى الصاروخ، مشروعة ومهربة ومسروقة، بيع وبلطجة وفهلوة تحت أعين القانون وآذانه، زحام وأشغال طريق وضوضاء، فالتجار بفلوسهم وهداياهم أقوي من القانون حتى ولو كان قسم الشرطة على بعد خطوات
وذهب المحامي الشاب إلى شارع عبد العزيز ووقف ممسكا بالتليفون المحمول في يديه يعرضه على المارة، لم ينتبه أبدا إلى قانون المصادفة، وهو قانون فعال خاصة في المجتمعات المتخلفة، يعمل في أوقات تلائمه وبشروط لا يدركها البشر ولا يفهمونها، قانون لا يعنيه سوي "العرض الشيق المثير"، حيث يتحول الناس إلى عرائس مربوطة بخيوط خفية تقودها إلى نقطة الاشتعال، وهذا ما حدث لصاحبنا، إذ فوجئ بصاحب الكشك أمامه يسأله: ممكن أشوف الموبايل؟
مد يده به دون أن ينطق بحرف، فعرف صاحب الكشك تليفونه المحمول فورا وصرخ فيه: يا حرامي يا أبن...
وأمسكه من ملابسه قائلا: لازم أسلمك للبوليس
تجمع المارة والباعة المماثلون وصبيان المحلات كالعادة، فهذه النوعية من الخناقات دائمة الحدوث لأتفه الأسباب، وخاف المحامي الشاب من أن تمتد الأيدي عليه، فسار مع صاحب الكشك إلى قسم عابدين مذهول العقل فاقد الإحساس في المحضر أنكر السرقة وأدعى من فرط البلاهة أنه عثر على الموبايل في الطريق وأراد بيعه
ولأسباب غير معروفة لم يتعرض للضرب والإهانات في القسم ليس من بينها أنه عضو في نقابة المحامين، فمثل هذه الاعتبارات لا قيمة لها، وأحيل إلى النيابة في النيابة بدأ عقل المحامي الشاب يعود إليه وإحساسه بالعار والفضيحة يتضخم إلى مارد يسد عليه منافذ الشمس والهواء، وأخذت الأسئلة اللعينة تنخزه: ماذا ستقول لأهلك؟..ماذا سيحدث عندما تخبر النيابة نقابة المحامين وترسل لها صورة من أوراق التحقيق؟..كيف ستتعامل مع الناس وأنت موصوم بسرقة موبايل؟
يبدو أن هذا المحامي الشاب لم يكن قد تمكن بعد من تعديل جهازه العصبي أو تغيير معني الأخلاق، فلم يصبح مثل أغلب لصوص هذه الأيام من البهوات ورجال الأعمال ورجال الإدارة العليا وأصحاب المراكز الحساسة والمناصب الرفيعة، أكثر وقاحة وجرأة واقتحام، لا يخجلون مما يرتكبون من خطايا وجرائم، يسرقون ويرشون ويزورون ويستغلون ويفسدون، ويتحدثون أيضا عن الشرف والنزاهة والطهارة ونظافة اليد، يلقون على أجسادهم العطور الغالية المشتراة بأموال الناس المنهوبة لعلها تخفي الروائح العفنة المنبعثة من سلوكهم، يقابلونك في الطريق العام وعيون مفتوحة "على الواسع"، يصرحون للصحف وألسنتهم منطلقة على البحري وكأنهم ليسوا لصوصا وناهبين أو مختلسين أو مرتشين أو متعثرين بعد تهريب أموال البنوك إلى الخارج لم يقدر على أن يكون وقحا، ولم يستطيع أن يتحمل وزر تهمة سرقة، وبدلا من أن يجيب على سؤال كمال بحر وكيل نيابة عابدين: لماذا سرقت الموبايل؟
جري نحو الشرفة الواقعة في الدور الثاني وصعد إليها، وألقى بنفسه إلى الشارع وسقط مضرجا في دمائه كان يبحث عن الموت يغسل به عاره، لكن الموت لم يكن في انتظاره..كان بدلا منه الكسور في القدمين والضلوع وارتجاج في المخ والغيبوبة نوع آخر من الموت..أضطر المحامي العام لنيابات وسط البد أمامه المستشار أحمد السرجاني أن يخلي سبيله بضمان سكنه، فالرحمة دائما قرينة العدل
لكن المحامي الشاب راح في غيبوبة دون أن يجيب لنا على سؤال بسيط، قد يفتح لنا شباكا في النفق الذي نعيش فيه: كيف فكر في سرقة الموبايل؟ ..وكيف أقنع نفسه بالفعل الرهيب؟ ..ولماذا لم يوجه المجتمع ويفضحه: كيف لشاب تعلم 16 عاما وتخرج للحياة منذ عشرة سنوات ويضطر إلى سرقة موبايل لن يأتي له بأكثر من مائتي جنيه؟
نعم هو جاني..لكنه أيضا ضحية جاني في لحظة جنون ويأس وفشل..وضحية نظام سياسي بكل جوانبه من تعليم وتنمية وقيم وعمل هو جاني بالإكراه..في نظام جاني مع سبق الإصرار والترصد& نعم هو جاني لكن في نظام عام قادر على صناعة المنحرفين أكثر من قدرته على صناعة التنمية