كامل السعدون
&
مع الاعتزاز الكبير باليسار الماركسي العراقي، ودوره التاريخي في تعميق الوعي السياسي للأجيال العراقية، وتضحياته الجسام في سبيل الوطن العراقي، والأمة العراقية، بكل عمقها التاريخي وتنوعها الأثني، ومع تميزه الكبير في إغناء الثقافة العراقية، فأن له للأسف في هذه المرحلة الخطيرة والعسيرة للغاية، والفقيرة في خياراتها، له وللأسف رأيٌ في الأحداث والتطورات المتلاحقة، غريبٌ عجيبٌ، لا تدعمه وقائع ولا تسنده حقائق، وما هو إلا كم متناقض من الأوهام..!
وعجيب ٌ أن يتحول العلماني الأمين لعلمانيته والمؤمن بقراءة الأحداث بالقلم والمسطرة والمشاهدة والاستقراء والرصد، أن تضيعه الأوهام والأمنيات، وتختلط لديه الأزمنة والعصور، وتتداخل العواطف مع الحقائق، فتحل تلك محلُ هذه..!
اليسار الماركسي ضد الحرب وضد الدكتاتورية معاً، جميل فكل العراقيين ضد الحرب وضد الدكتاتورية، لكن كيف بالقضاء على الدكتاتورية بغير حرب، أو على الأقل التهديد بحربٍ جديةٍ تزيح ابشع نظامٍ عرفه تاريخ البشرية؟
كيف وصدام حسين، أحرق كل خطوط التراجع، وأصر على العدوان، وصار استئصاله ضرورة دولية، حماية للجنس البشري كله من أسلحة الدمار والقتل الجماعي التي يمكن أن يستعملها في أي لحظةٍ وضد كائن من كان من الشعوب وأولها شعب العراق ذاته، حيث إنه إنسانٌ غير مسؤول وغير منضبط ولا تردعه أي قيم أخلاقية أو مبادئ ولا تلجمه عن الجريمة أي سلطة دستورية أو قانونية محليةٍ كانت أم دولية، ولا يؤثر فيه ضغطٌ إلا ضغط القوة الموجهة لرأسه حسب؟
كيف وصدام من تعرفون من قسوةٍ لا حدود لها، ويمتلك كل أدوات الاستمرار، من احتياطات وموارد وجيشٍ عنصريٍ طائفي، وله إمتدادات ومخالب في أغلب التنظيمات والنقابات والعصابات وأحزاب اليسار واليمين معاً؟
كيف تسقطوه أيها الأحبة بغير قبضة القانون الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة، والذراع الأمريكية...!
حسناً....يقول أهل اليسار، بإرادة الجماهير العراقية، ودعم الأشقاء العرب....هه... وكأنكم لم تعايشوا ولو من بعيد، ما فعله حرس صدام حسين بالشعب العراقي إبان انتفاضة آذار المجيدة، وكيف ضربت الحوامات أهلنا بالأسلحة الكيماوية، وكيف استعملت المدافع والصواريخ لتدمير مدن العراق وقتل عشرات إن لم نقل مئات الآلاف بلا رحمةٍ، هل تتوقعون في يومنا هذا انتفاضة مثل تلك التي حصلت وقمعت بقسوة، من ينتفض يا ترى؟ وحتى لو انتفضوا فإلى أين يصلوا، وبأي سلاحٍ سينتفضون، ومن سيدعمهم في الداخل، جنرالات الجيش الماركسيون والقوميون الوطنيون الليبراليون؟ وأنتم تعلمون أنه لم يعد في جيش العراق وصفي طاهر أو عبد الكريم قاسم أو الطبقجلي أو حتى عبد السلام عارف، بل كم هائل من الجنرالات المزيفين الذين بالكاد يفكوا الخط..!! أما الشعب ذاته، الشعب الجائع، المحروم من اللقمة والماء الصافي والكهرباء، بل وحتى الهواء النقي، الذي هو أرخص النعم وأكثرها توفراً، يحرم العراقي منه، إذا ما بدرت منه كلمةٍ أو نكتةٍ معارضة للنظام، فكيف تتوقعون منه أن يثور؟ من أجل ماذا؟ وما الدافع الفكري أو المادي للثورة، وأنتم تعلمون أن شعبنا في هذه المرحلة في أشد حالات الإحباط والإفلاس الفكري والنظري، وفي أسوأ مراحل تدهوره القيمي.
أما أشقائكم العرب، فها هي جماهير الشعب الأردني والفلسطيني والمصري، والتي تنعمت بهبات صدام حسين، وتغذت على أوهام التحرير المريضة الزائفة، ها هي تتهيأ لبناء سدود بشريةٍ لحماية صدام وبراميل الكيماوي والقصور التي بنيت على جماجم عشرات الآلاف من مناصريكم وجماهيركم الذين ماتوا مجاناً، دون أن يسمع بهم حتى جيران الواحد منهم..!!
أي محيط عربيٍ سيدعم أوهامكم، والجماهير العربية، مغيبةٍ منذ عشرات السنين، ولا دور لها إلا في الرقص على إيقاع حكامها، وحيث تميل ريح الحاكم العربي، يوجه الأوامر لصحافته ووعاظه وأقلامه وقنوات إعلامه، ليحركوا الجماهير بهذا الاتجاه أو ذاك، وقد خبرتم جميعاً عزلة الفكر السياسي العربي عن الجماهير، ولحظتم وعبر عشرات السنين غياب الحياة الدستورية والبرلمانية والحزبية بالكامل في عالمنا العربي، وها هي على سبيل المثال أحزاب اليسار العربي، ومنذ ولادتها في أوائل القرن السابق، وحتى يومنا هذا، لا وجود لها ولا دور، ولم تنشط حتى إبان الفترة الذهبية للماركسية أيام الاتحاد السوفييتي، فهل تضنوها، قادرةٍ اليوم، وفي عصر انتشار الديموقراطية والعولمة، على أن تفعل المستحيل، وتجند مئات الآلاف من الأنصار في مظاهرات صاخبةٍ عارمةٍ، لتدعم الشعب العراقي في ثورته الموهومة ضد صدام حسين...!!
ثم أي حكومات عربية مستعدة للتضحية بصدام حسين، وصدام حسين هو الربيب والصنيع والممثل اللائق للثقافة الفاشية، الأبوية، القبلية، السلفية، العشائرية العربية، ثقافة الرأي الواحد والفكر الواحد والحاكم الذي لا يستبدل ولا يتغير إلا بالموت، الذي يفضي لخليفةٍ من أهل بيته، أو من حجابّه وخدمه الأمناء على سياسة التجهيل والتغييب والعنصرية والتخلف المتوارث أبا عن جد..!!
أما تذكرون تجربة الشعب الإيراني ولاحقاً الشعب الكويتي، وكيف أنحاز العرب جميعاً لعروشهم، لا لشعوبهم، ولا لدينٍ أو ذمةٍ، وكيف دعموا في الأولى وبقوة، صدام حسين، ضد الشعب الإيراني، وكيف تحالف نصفهم مع صدام في الثانية، من أجل مصالح رخيصةٍ، وأحقاد مريضة، هل تذكرون أحداً تحالف معكم أو مع الشعب العراقي، أو مع مصالح شعوبهم ذاتها، وقالوا لصدام حسين كفى إجراماً وتهديداً للسلام العالمي ولأمن المنطقة، وكفى تقتيلاً وبطشاً بشعبك...!!
الحكام العرب، وهذا ما تعرفوه جيداً، يعيشون بفضل المضلة الأمريكية، والمضلة الأمريكية وحدها هي التي أمدتهم بفرص البقاء في السلطة منذ عشرات السنين، وحتى أولئك الذين يدعون الاختلاف مع أمريكا، بل حتى أولئك الذين كانوا يوماً ما ثوريون، ما أمكن لهم الاستمرار بالسلطة حتى وافتهم المنية، وأورثوا الحكم لأبنائهم، لولا التغاضي الأمريكي عنهم، والتسامح معهم...!!
والحكام العرب، لا تحركهم إلا العصا الأمريكية، أو الجزرة الأمريكية، أما أن تتوقعوا منهم موقفاً ضد صدام، خارج عن الإرادة الأمريكية فهذا غاية الوهم...!!
إن غياب اليسار العراقي عن مؤتمر المعارضة الأخير، أضعف للأسف الشديد هذا المؤتمر، وأضعف العمل المعارض برمته، ولعب دوراً في ضعف النتائج التي جاءت أقل من مستوى الطموح، كما غيب أصوات وعناصر وأقليات عراقية، كان اليسار يحتضنها بقوةٍ ومنذ أكثر من نصف قرن..
كان يمكن لحضورٍ يساريٍ واسع، أن يسرع من الوحدة الوطنية العراقية، ويشد الداخل بقوةٍ أكبر للخارج الذي أجتمع في لندن، وبالتالي، لكان ممكناً للعمل أو حتى التهديد الأمريكي بشن الحرب، كان ممكناً له أن يحقق نتائج أسرع، بكلفة من الدم العراقي أقل... وأقل بكثير، لو عرف العراقيون وبالذات أولئك الذين في السلطة أو على ضفافها، أن اليسار، كما اليمين العراقي، متفقين على التغيير، وبالممكن والوحيد والواقعي الآن وهو... الضربة الأمريكية...!!