يحي أبوزكريا
&
على الرغم من أنّ القضيّة الكرديّة تقع ضمن النسيج الجغرافي والتاريخي والحضاري للعالم العربي والاسلامي, الاّ أنّ هذا الأخير لم يول القضيّة الكردية الاهتمام الفعلي الذي تستحقه, علما أنّ الأكراد ساهموا على مدى حقب تاريخيّة عديدة في ارفاد الحضارة العربيّة والاسلامية بكل أسباب القوة والتنوّع. وعندما نتحدّث عن العالم العربي والاسلامي لا نقصد بتاتا الشعوب العربيّة والاسلاميّة المغلوبة على أمرها التي لم تساهم قطّ في رسم أيّ سياسة داخليّة أو خارجيّة, كما لم تستشر في أي قضية جوهريّة أو ثانويّة أقدمت عليها الأنظمة العربيّة الرسميّة. ودائما كانت هذه الأنظمة محكومة بالفرار الى مواقع جغرافيّة تنأى عن مواقعنا بعشرات الأميال الفكريّة والحضاريّة لترتبّ علاقة مع هذه القضيّة أو تلك و يتضح بعد سنين أنّها لم تكن القضيّة التي كان يجب أن تراهن عليها هذه الأنظمة. ومن الأسباب المركزيّة التي حالت دون اهتمام العالم العربي الرسمي بالقضيّة الكردية أنّ هذه الأنظمة لم تنصف الأقليّات وحتى الأثنيات الموجودة في دوائرها الجغرافيّة, فكانت دوائر القرار ترى أنّ الاهتمام بهذا الملف الكردي وايلائه الاهتمام السياسي والاعلامي اللازم سيؤول الى فطنة الأقليات في هذا الأقليم أو ذاك وبداية مطالبتها بالحقوق السياسية والثقافيّة, بالاضافة الى أنّ الأنظمة العربيّة توافقت ضمنيّا على ضرورة عدم اثارة الملفات الداخليّة لكل دولة, وتحت عنوان عدم التدخل في الشؤون الداخلية ضاعت حقوق عديدة وأزهقت أرواح ودمرّت جماعات وأبيدت مجموعات بشريّة عن بكرة أبيها. وقد ساهم توزّع الأكراد بين دول وأنظمة سياسية لها تاريخ عريق في المنطقة العربيّة الى عدم سعي الدول العربيّة في احراج الدول التي تمسك بالملف الكردي, فعلى سبيل المثال كانت دولة العراق قبل أزمة الخليج الأولى والثانيّة تتمتّع بعلاقات ايجابية مع معظم الدول العربيّة اللهمّ الاّ سوريا في تلك الحقبة التاريخية, وبالتالي كان يصعب على الدول العربيّة أن تفاتح العراق في الملف الكردي رغم المحن الكبيرة التي تعرضّ لها الأكراد منذ شروعهم في المطالبة بأبسط حقوقهم في العراق. كما أنّ العديد من الدول العربية المحسوبة على الخط الأمريكي في المنطقة كانت ترى حرجا في مفاتحة ايران الشاه التي كانت تعتبر شرطي أمريكا في الخليج فيما يتعرّض له الأكراد في ايران من تجاوزات خطيرة وسحق مطلق لهويتهم وفرض التفريس عليهم بقوة الدبّابة والقوانين الصارمة. والأمر عينه ينطبق على تركيا. انّ اللامبالاة التي أبداها العالم العربي الرسمي تجاه الملف الكردي وعدم المساهمة في حلحلته رتبّ على القضيّة الكرديّة مجموعة أمور منها : التوجّه الى العنف كحلّ وحيد لاقرار الحقوق السيّاسية والثقافيّة المشروعة والتوجّه الى الارادات الدوليّة وعواصم القرار الغربي في محاولة لشدّ الاهتمام للملف الكردي, والأخطر من ذلك بناء جدار برلين بين التيارات التحرريّة العربية والقوى التحرريّة الكرديّة التي استجابت لردّة فعل تجاه الصمت العربي المطبق من القضيّة الكرديّة. ورغم أنّ الشعوب العربيّة من المحيط والى الخليج والشعوب الكردية في المربّع الجغرافي الذي تواجدت ومازالت فيه قد تعرضّت الى الاضطهاد والاستبداد والظلم والمصادرة الاّ أنّ الساحة السيّاسية في العالم العربي أو مناطق تواجد الأكراد أو في المنافي لم تشهد ميلاد حركة تنسيقية عربية - كردية تحمل شعار مقاومة الظلم واسترجاع الحقوق المهضومة. بل على العكس من ذلك فانّ الشارع العربي بات يشكك في الشارع الكردي في أدائه السياسي و الشارع الكردي بات هو الأخر مستاءا من الشارع العربي الذي يتأخّر في نظره في نصرته, وبهذه الطريقة نجحت الأنظمة الاستبداديّة في تمزيق عرى التواصل بين القوى الحيّة في واقعنا العربي والاسلامي.
لكنّ الاشكاليّة التي يحلو للباحثين ترديدها هيّ أنّ الأواصر بين القوى العربيّة التحرريّة والتنويرية مقطوعة, والعلاقات بين القوى الكرديّة معدومة ووصلت في أحيان كثيرة الى حدّ الصدام فكيف يمكن التوفيق بين القوى العربية التنويرية والقوى الكردية الطليعيّة!!
* العرب والأكراد : المصير الواحد
مبدئيّا يجب أن نشير الى أنّ العرب والأكراد يشتركون في مساحات تاريخيّة وجغرافيّة وحضاريّة ودينية واسعة للغاية, ويقّر الأكراد كما العرب على أنّ الاسلام أردف شخصيتهم ووجودهم بكثير من المفردات والمعاني ولذلك يمكن جعله قاسما محوريّا بين العرب والأكراد. ولازال العرب يتذكرّون بكثير من الاعتزاز والسمو ماقدمّه صلاح الدين الأيّوبي - الكردي - للعرب والمسلمين عندما نافح عن بيضة الدين وردّ هجمات الصليبيين عن العالم العربي والاسلامي. ويعتبر الاسلام أهم صائغ للرؤية الكونيّة والعقائديّة التي من خلالها ينظر الأكراد والعرب على السواء الى الكون وماهيّة الوجود وصيرورة هذا الوجود, وفي ذلك خلفيّة مركزيّة يجب أن يبنى عليها أيّ خطاب سياسي أو فكري لصياغة أي علاقة كرديّة - عربيّة. وغير الاسلام فانّ عامل الزمن قد ساهم الى أبعد الحدود في تلاقي وتمازج الأكراد بالعرب والعكس, وقد تكرس هذا التمازج من خلال التداخل الجغرافي لمواقع الأكراد ومواقع العرب المكانيّة, فالأكراد وجودهم تاريخي في المنطقة التي نصطلح على تسميتها بالعالم العربي والاسلامي والعرب وجودهم تاريخي, وحتى اذا تمكنّ الأكراد من اقامة مشروعهم القومي والسياسي فانّ أقرب حلفائهم المركزيين سيكونون العرب والمسلمين لأنّه من غير المنطقي اهمال حقائق التاريخ والجغرافيّا في مجال المشاريع السياسيّة الكبرى, ولا يمكن أن تكون واشنطن على سبيل المثال هي الحليفة المرتقبة للمشروع القومي الكردي وهي التي جيرّت القضية الكردية لصالح حساباتها السيّاسيّة والاستراتيجية وساهمت مع حلفائها في العالم العربي في وأد القضية الكرديّة وملاحقة رموزها بأثمان باهظة مدفوعة من قبل عواصم المحور الأمريكي في خطّ طنجة - جاكرتا ( خطّ عرض العالم الاسلامي ). كما لا يمكن تصوّر أن يقيم الأكراد في حال تحقيق مشروعهم القومي علاقة استراتيجية مع عواصم القرار الدولي المتورطة في وأد القضيّة الكرديّة والمزودّة الأساسيّة للأسلحة للمحاور الجغرافيّة التي يتمركز الأكراد في نطاقها. ويبقى القول أنّ الحليف الطبيعي للمشروع الكردي هي الشعوب العربيّة والاسلامية, وعلى هذا الأساس يجب أن تعيد الحركة الكرديّة بكل شقوقها بناء خطابها السياسي والفكري بما ينسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيّا, كما أنّ هذه الحركة عليها أن تعيد الاعتبار للاسلام الذي أعطى الأكراد الكثير وليس كمّا روجّ له يساريو الحركة الكردية من أنّ الاسلام استأصل الأكراد من واقعهم الجغرافي والتاريخي والشخصاني. كما أنّ العرب عليهم أن يتخلّوا عن عصبيتهم القوميّة والتي تحول بينهم وبين الاقرار بحقوق الثقافات الأخرى التي كانت متجذرّة في الواقع العربي والاسلامي.
انّ الاسلام من أكثر العناصر قدرة على اجراء مصالحة تاريخيّة بين العرب والأكراد ومثلما جمعهم في حقب تاريخيّة سابقة في ساحات جهاد واحدة وفي ساحات بناء حضاري واحدة قادر اليوم أن يصيغهم في مشروع متكامل, ولهذا وجب على الأكراد كما العرب اجراء مصالحة مع النفس ومع الذات, واجراء مراجعة شاملة لمفردات الخطاب الفكري والسياسي الذي صاغ المسلكيّة السياسية للعرب أو للاكراد ومن ثمّ الانطلاق نحو خطاب انفتاحي يستوحي مقومات الموروت الحضاري الاسلامي القائم على مبدأ العدل والمساواة في الحقوق والواجبات من أجل رؤية مستقبليّة أكثر اشراقا. وفي هذا السيّاق قد يبادر بعض الأكراد الى طرح اشكاليّة من قبيل أنّ العرب أولى بصناعة خطاب جديد يستوعب الأكراد كأمة ذات استقلاليّة في الخصوصيّة على اعتبار أنّ العرب في مرحلة الدولة والأكراد في مرحلة النضال من أجل الدولة أو من أجل المشروع المستقّل!
وهذه الاشكاليّة وان كانت وجيهة الى حدّ ما الاّ أنّه لا ينبغي المزج بين حركة الأنظمة والشعوب وتحديدا عندما يتعلّق الأمر بالعالم العربي والاسلامي, لأنّ النظم العربية والاسلاميّة كانت على الدوام في الاتجاه المعاكس لتطلعّات الأمة وآمالها ومشروعها الحضاري, ومثلما ينافح الأكراد عن مشروعهم السياسي والثقافي وهذا من حقّهم, تناضل الشعوب العربيّة والاسلاميّة من أجل حقوقها في الديموقراطيّة ومبدأ التداول على السلطة وحريّة التعبير وغير ذلك من الحقوق التي باتت في الألفيّة الثالثة من البديهيات لكنّها في العالم العربي والاسلامي من المحرمّات. وبدل الدخول في جدل عقيم حول من أولى بانصاف من! وفتح ملفات الماضي, فانّه من الضرورة بمكان اعادة رسم معالم استراتيجيّة كرديّة - عربيّة في الفكر والسياسة والحركة وكل ذلك من أجل الأجيال القادمة التي يراد لها أن تنسى خصوصيتها في زمن العولمة والكوكبيّة.
ولن يتأتّى احقاق هذه الخطوة بدون فتح حوار موسّع بين الأنتليجانسيا العربيّة والكرديّة والتي بيدها القدرة على نسج هذه الاستراتيجية في ضوء تراكمات التجارب السابقة.
وعلى الانتليجانسيا العربيّة أن تقرّ بأنّ الشعب الكردي قد تعرضّ الى مظلوميّة عزّ نظيرها وأنّ المثقف الذي يرفض الظلم في كمبوديّا والفيتنام والجزائر والصومال عليه أن يرفضه في كردستان, حتى لو كان الذي يمارس لعبة ابادة الشعب الكردي نظام يدّعي أنّه على صلة بالعروبة, فالظلم لا ايديولوجيا له ولا قاعدة فكريّة له, الظلم ظلم وهو مستنكر في كل كل الشرائع والأديان والفلسفات البشريّة. ومثلما اهتمّت الانتليجانسيا العربيّة بكبريات القضايا السيّاسية والفكرية في القارات الخمس, فمن باب أولى ايلاء القضيّة الكرديّة اهتماما من نوع خاص لما لهذه القضيّة من تداخل عميق بواقعنا العربي والاسلامي.
وفي الظرف الراهن لا يمكن المراهنة على الأنظمة العربيّة لايجاد حلول جذريّة للقضية الكرديّة باعتبار أنّ النظام العربي الرسمي يسجّل باضطرّاد انهيارات خطيرة في كافة المجالات, ولا يمكن منطقيّا المراهنة على المريض في تفعيل أيّ موقف. المراهنة الوحيدة يجب أن تكون على الانتليجانسيا العربيّة والكرديّة والتي بدورها يجب أن تتفاعل وفق الأسس السالفة الذكر وخلق خطاب منسجم ونشره بين الجماهير العريضة.
انّها خطوة كبيرة, ومغامرة غير مسبوقة, لكن يجب أن نبدأ!!!!