ليث الحمداني&
&
&
1
لا ترسل البرقية إنهم سيعدمونه

&
لأننا "كلنا في الهم شرق" كما قالوا، فسأستأذن الزميل يحيى أبو زكريا لاستخدام عنوان مقالته لـ (إيلاف) الثلاثاء 24 ديسمبر 2002 (أن تكون صحفياً في الوطن العربي) فقد أعادت إلى ذاكرتي بعضا من المواقف التي تؤشر همومنا المهنية.
أذكر أنني حين دخلت عالم الصحافة عام 1965 التقيت رجلاً من الجيل القديم كان يتردد على دور الصحف وكانوا يقولون إنه صحفي قديم، رغم أنني لم أقرأ له شيئاً لا في تلك السنوات ولا بعدها، ولكني - وبمرور الزمن - عرفته عن قرب رجلاً بسيطاً متواضعاً طيب القلب يحب المجاملات ويعطيها الكثير من وقته..
في الثمانينات أحيل صحفي محترف كان يعمل مراسلاً لجريدة (الشرق الأوسط) هو الزميل قاسم السماوي إلى (محكمة الثورة) ذات الأحكام القاطعة غير القابلة للاستئناف، وبموجب المادة 147 (الاتهام بالتستر)، وكانت التهمة (تستر) الزميل السماوي على ذلك الصحفي العجوز نجم السعدون الذي اتهم يومها بالتجسس بسبب تردده على السفارة السعودية في بغداد بحكم كونه مراسلاً لإحدى الصحف السعودية.
دخل الزميل السماوي - كما يروي - إلى قاعة المحكمة وهو مذهول من التهمة، فلا الرجل (جاسوس) ولا هو (متستر)، كل ما في الأمر أنه كان يتردد على مجالس السياسيين القدامى بحكم عمله الصحفي وعلاقاته الواسعة، ويبدو أن هذا الأمر لم يرق لمن لهم الأمر فقرروا زجه في هذه القضية..
يقول: وقفت أمام رئيس المحكمة عواد البندر الذي كان يعرف جيداً أن نجم السعدون ليس جاسوساً لأنه ابن عمه، كما كان يعرف أيضاً بأنني لا أعرف شيئاً (أتستر) عليه، وجاءت مرافعة المحامي الذي عينته المحكمة، لصالحي.& فقد قال الرجل بأنه لم يجد في ملفي أي دليل على الاتهام.
المهم حكم الصحفي العجوز بالإعدام واختفى في السجن إلى الأبد وحكم الزميل السماوي بالسجن خمس سنوات.
في تلك الفترة كان الهمس يدور في الأوساط الصحفية العراقية عن موقف جريدة (الشرق الأوسط) التي كان يراسلها الزميل قاسم والتي كانت تفرد صفحاتها لنشر أنباء (انتصارات) الجيش العراقي في معاركه ضد إيران، وبعد ذلك بسنوات حدثني زميل عن موقف الجريدة فقال:
"حين أحيل قاسم إلى المحكمة أعد رئيس التحرير يومها الزميل عثمان العمير برقية احتجاج للرئيس العراقي، ولكنه ارتأى أن يعرضها على الزميل الراحل بلند الحيدري قبل إرسالها لمعرفة بلند الواسعة بالوضع العراقي وما أن أطلعه عليها حتى قال له الراحل باللهجة العراقية الدارجة: "يا مْعَوّدْ إذا دزيت هذه البرقية رح يعدموه رأسا".
وعذراً من الزميل رئيس تحرير (إيلاف) لإيراد هذه الحادثة التي هو أحد أطرافها أرويها كما سمعتها.... وللموضوع صلة.
&
2
إهمال بالواجب

&
عرفته عام 1966، جمع بيننا عمل صحفي واحد، كان شاباً في مثل سننا في تلك الأيام، مندفعا، يحب العمل الصحفي، ويقدم للمجلة مواد مبتكرة جعلت معلمنا الراحل شاكر حسن يتنبأ له بمستقبل صحفي مرموق.
ومرت الأيام والسنوات واستطاع الزميل (...) إكمال دراسته الجامعية وترك الوظيفة السابقة التي كان يعمل بها ليتفرغ للصحافة تماماً ويستقر في وكالة الأنباء العراقية.& تزوج الرجل، ولصعوبة الحياة لمن يبدأ حياته في العاصمة بسبب أزمة السكن وافق على الذهاب مراسلاً للوكالة في إحدى محافظات العراق الجنوبية (للتمتع) بالسكن الحكومي المنخفض التكاليف. وسعى - ومنذ تسلم عمله - لأداء مهمته على أكمل وجه، ولكنه فوجئ ذات يوم بمحافظ جديد لا تعرف البسمة طريقها إلى وجهه، يعامل الجميع، بمن فيهم مراسل الوكالة، وكأنهم جنود في فصيل عسكري.& حاول الزميل تجنبه قدر الإمكان إلى أن فوجئ يوماً باتصال هاتفي من مدير مكتبه يقول له: "تكلم مع السيد المحافظ".& وبأدبه الجم قال له: "نعم سيادة المحافظ.." ويروي الزميل ما حصل..
لم يترك لي فرصة إكمال عبارتي وصرخ في الهاتف: "اسمع.. إجمع أغراضك وغادر المحافظة وإلا فسأرميك في السجن."
-&&&&&& ولكني لم أفعل شيئاً..
أغلق الهاتف بوجهي، فلجأت إلى أحد كبار موظفي المحافظة لأسأله ما المشكلة فقال لي:
-&&&&&& إهمال في أداء الواجب.
-&&&&&& أي واجب؟ سألته
-&&&&&& قال: أنت لم تغطِّ نشاط السيد المحافظ يوم أمس!
-&&&&&& ولكنه لم يقم بأي نشاط.
-&&&&&& كيف؟ ألم يزر السيد المحافظ مدرسة ...؟
-&&&&&& نعم ولكنه زارها لأن زوجته هي مديرتها ولا يمكن تغطية ذلك إعلامياً.. هكذا علمونا في الدراسة، وهكذا تعلمنا بالممارسة.
واضطر الزميل أن يغادر المحافظة.& وفي العاصمة بغداد، وبدلاً من أن يدعم وزيره موقفه أمام المحافظ تم نقله إلى دائرة إعلامية أخرى إرضاء للسيد المحافظ (عضو القيادة)، ولأنه - أي الزميل - أهمل في أداء الواجب!!
وللموضوع صلة..
&
&
3
حين يتهم (البعثي) بالشيوعية

&
لعلها آخر المعارك الصحفية التي شهدتها الصحافة العراقية، تلك التي خاضتها يومية (طريق الشعب) التي أصدرها الحزب الشيوعي العراقي في السبعينات، يوم خاضت الجريدة معركة مع وزارة الصناعة حول مشكلة الكهرباء وأسباب الانقطاع المستمر في التيار.& بدأت المعركة بسلسلة دراسات استعرضت فيها الجريدة الإمكانيات المتوفرة في محطات التوليد والمشاريع الجديدة التي تم توقيع عقودها وحجم الاستهلاك وواقع شبكات توزيع الكهرباء في بغداد والمحافظات، وفور صدور المقالات عقدت الوزارة سلسلة اجتماعات وكلف فريق بإعداد رد موسع كان الهدف منه (تفنيد) كل ما جاء بدراسات الجريدة، واتهامها بأنها تلجأ للمزايدة بهذف الكسب الحزبي، وأن أزمة الكهرباء ستنتهي خلال عام واحد.
في ذلك الوقت كان هنالك صحفي محترف يعمل في وكالة الأنباء العراقية مسؤولاً عن القطاع الصناعي، قام (بأرشفة) مقالات الجريدة وردود الوزارة عليها، وظل يتابعها.& ومرت السنة بسرعة واستمرت أزمة الكهرباء وازدادت انقطاعات التيار فأعد الزميل تقريراً محلياً ضمنه تفاصيل القضية واختتمه بسؤال:
ها قد مرت سنة على تصريحات وزارة الصناعة ومسؤول الكهرباء والأزمة تراوح مكانها.
وتأزم الوضع بين الصحفي ووزارة الصناعة وتضامن الوزير عضو القيادة مع موظفيه ووجد الصحفي نفسه وحيداً في معركة غير متكافئة، اتهمه فيها المسؤول الأول عن الكهرباء - وبحضور الوزير -& بأنه (مندسّ) وأنه (يروج أفكار الشيوعيين). وأجابه الصحفي منفعلاً: ها أنت تلجأ لسلاح الفاشلين، يعرف السيد الوزير جيداً أنني بعثي حتى قبل أن تسمع أنت باسم الحزب الذي أوصلك لموقعك، لذا فإن اتهامك لي لن يخيفني أبداً.
بعد هذه الحادثة بسنوات قليلة وجد الزميل نفسه (يغرد خارج السرب)، فالدولة تريد (نشرات إعلانية) ولا تريد صحافة.. وهو لا يستطيع أن يمارس (الإعلان) بدل (الإعلام)..& فترك العمل باختياره متقاعداً وانتقل إلى مهنة ذات علاقة بـ (المعدة) ولا علاقة لها بـ (العقل).
وأخيرا عذرا من هيئة تحرير (إيلاف)، لأنني إن استطردت فسأشغل مساحتها على الشبكة لعدة أيام.
&
صحفي عراقي - كندا
[email protected]