نزار حيدر
&
أن تؤيد أو تعارض المشروع الاميركي لتغيير النظام في العراق، فذلك رأي، أما أن تنتصر للشعب العراقي في صراعه المرير ضد الاستبداد و الديكتاتورية و النظام الشمولي الذي لا زال يحكم العراق منذ قرابة ( 35 ) عاما، فهذا موقف، وكم كنت أتمنى أن اقرأ في مقالات النخب العربية المثقفة، أو جلها، موقفا وليس رأيا.
لقد استغرقت هذه النخب بالكتابة في أعمدة الرأي - وإن نشرت مقالاتها على صفحات كاملة - إلا أنها نسيت أو ربما تناست أن تكتب في (موقف ) ولو لمرة واحدة، حتى لا نشكك في حرصها على العراق كأرض و شعب و حضارة و حاضر ومستقبل وليس كنظام .
كم كنت أتمنى - ومعي الكثير من العراقيين - أن اقرأ ولو لمرة واحدة- حلا للأزمة تتقدم به هذه النخب يأخذ بنظر الاعتبار مصلحة الشعب في العراق و ليس النظام، أما أن تتجاهل كل شيء يخص هذا البلد و لا تستذكر إلا النظام فتلك مصيبة ما بعدها مصيبة، و في ظلها يكون من الصعب جدا أن اقنع نفسي بان هذه النخب هي المنشودة فعلا لصياغة مستقبل جديد لنا وللأجيال القادمة من الأمة العربية، تهمها الشعوب أكثر من الأنظمة، والبلدان أكثر من الدولار.
كان من المفترض على هذه النخب أن تتذكر أولا، وفي كل مرة تمسك فيها القلم لتكتب ( رأيا )، أنها الشريحة المثقفة التي يتجلى دورها في الرصد الدقيق لمسار الخط البياني للأمة، و بالتالي البدا بالتنظير العلمي الصحيح لما هو مطلوب إنجازه لانتشال الأمة من هذا الحضيض المخجل إلى مصاف الأمم المتحضرة والشعوب المتقدمة، من دون خوف من نظام أو وجل من ديكتاتور، أو طمع في دولار .
إلا أن ما يؤسف له حقا، هو أن جل عناصر هذه النخب، انغمست في مستنقع واحدة من اعتى الأنظمة الديكتاتورية الشمولية في العالم ألا وهو نظام بغداد الذي نجح و لشديد الأسف في استدراج هذه النخب للانضواء تحت خيمة شعاراته البراقة التي ما قتلت حتى الآن ذبابة - ولن تفعل - إلا أنها في نفس الوقت قتلت أو سجنت أو طاردت أو اغتالت الملايين من أبناء العراق وأهدرت خيرات البلاد وطاقاتها وأمنها في نزوات عابرة وأحلام وهمية وطموحات مريضة وشعارات زائفة ومشاريع مشبوهة، جرت العراق حتى الآن إلى ثلاثة حروب مدمرة، انتهت بالثالثة إلى اغتيال قرار العراق وسيادته، بل قرار الأمة وسيادتها، فمكنت منها الأعداء بعد أن دقت إسفينا خطيرا في جسدها المصاب .
تحرص هذه النخب على تكرار مقولة أن المشروع الأمريكي يستهدف المنطقة برمتها كما يستهدف ثروات الأمة، من دون الإشارة، ولو بشكل عابر، إلى السبب الذي منح ( الإمبريالية الأمريكية ) كل هذه الذرائع لتقدم على تنفيذ مخططها( المشبوه).
إن كل عقلاء العالم يعرفون جيدا إن الأزمة الحالية ليست نتاج لحظتها وإنما هي وليدة كم هائل من الأخطاء التي ارتكبها نظام بغداد تحديدا تراكمت على مدى نيف و ثلاثين عاما ساعده في ذلك الدولار العربي وصمت المثقفين و تأييدهم، حشرت المنطقة بل كل الأمة في زاوية حرجة لا يعلم إلا الله ما هو الثمن الذي سندفعه للخروج منها نلعق الجراح ولا أقول سالمين.
كم تمنيت وأمثالي، أن تشير هذه النخب، ولو لمرة واحدة بإصبعها إلى نظام صدام حسين، وتقول له لقد أخطأت في هذا التصرف أو ذاك القرار، ثم تطالبه بتصحيح الخطوة أو التراجع عنها حتى لا يسترسل مع الخطأ إلى ما لا نهاية فيرتسم الانحراف في آخر المطاف، وهي ترى الأمة - كل الأمة - تدفع الثمن غاليا في كل مرة بعد أن اعتقلها النظام في زنزانة أخطائه الكبيرة والكثيرة .
كم تمنيت وأمثالي أن تردع هذه النخب نظام بغداد مثلا عندما اجتاح جارته الشرقية إيران عام 1980 ولا تردد كالببغاء ما كانت تقوله بغداد من أن هذه الحرب هي بين الفرس المجوس وعرب القادسية وأن طريق القدس يمر عبر طهران .
كم تمنيت و أمثالي أن تصرخ هذه النخب بوجه نظام بغداد مثلا عندما استخدم السلام الكيماوي ضد شعبه في مدينة حلبجة ( شمال ) فقتل على الفور( 5 آلاف ) من البشر وجرح أكثر من ( 10 آلاف آخرين)، وأن لا تطمر رأسها في التراب وتصمت صمت أهل القبور وكأنها لم تسمع ولم تر ولم تقرأ عن قصة الموت في حلبجة أبدا.
كم تمنيت وأمثالي أن تستنكر هذه النخب عمليات الإعدام والاغتيال والمطاردة التي نفذها نظام بغداد مثلا ضد المئات من الفقهاء والعلماء و مراجع الدين& فيهم المفكر الفيلسوف كالسيد محمد باقر الصدر والعالم الموسوعة كالسيد محمد الحسيني الشيرازي والأديبة الكاتبة كالعلوية آمنة الصدر ( بنت الهدى) وكبار أساتذة الحوزة العلمية كالسيد عبد الصاحب الحكيم والسيد محمد صادق الصدر والمفكرين الاستراتيجيين كالسيد حسن الشيرازي والسيد مهدي الحكيم وغيرهم .
كم تمنيت وأمثالي أن تطالب هذه النخب نظام بغداد بالخروج الفوري ومن دون قيد أو شرط من الجارة الشقيقة الكويت عندما اجتاحتها قواته المسلحة في 2 آب 1990 ولا تتأرجح بين موقف المتفرج أو المدافع أو المبرر وهي تكرر ما كانت تقوله بغداد من شعارات بلهاء و جوفاء بما كانت تصفه من عودة ( الفرع إلى الأصل).
وكم تمنيت وأمثالي أن تستنكر هذه النخب تلك المذابح التي ارتكبها نظام بغداد ضد شعب العراق إبان تمرده عليه اثر حرب تحرير الكويت، ولا تتبنى شعاراته التي أطلقها ضده عندما انتفض ضد سياسات النظام وحرر (14 محافظة من مجموع 18) من قبضته البوليسية وسطوته الحديدية ووصفه لما جرى بـ ( صفحة الغدر و الخيانة) فقتل أو اعدم عشرات بل مئات الآلاف وقصف الأماكن المقدسة في مدينتي كربلاء والنجف بالمدفعية الثقيلة وأطلق على عدد من المدن العراقية صواريخ ارض - ارض بعيدة المدى فيما رش مدينة كربلاء بالسلاح الكيماوي إلى جانب تدميره لآلاف المساجد و الحسينيات و المباني العامة و الممتلكات الخاصة.
وكم تمنيت، وكم تمنيت وأمثالي، أن تقول هذه النخب ولو لمرة واحدة، كلمة حق عند سلطان جائر كصدام حسين ولا تبرر له جرائمه .
فلو كانت قد قالت ذلك أو فعلت، لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه اليوم، أزمة خانقة لا تملك فيها الأمة أي خيارات للخروج منها إلا الذل والهوان .
والأعجب من كل ذلك، هو هذا الدفاع المستميت و اللامحدود الذي تبديه هذه النخب عن نظام صدام حسين الذي ورط العراق والمنطقة بسلسلة من القرارات الخاطئة والمتسرعة حتى من دون استشارته لهذه النخب، فلماذا لا تتركه لوحده يلاقي مصيره الأسود المحتوم؟ ومنذ متى ارتبط مصير الأمة والمنطقة والعراق بمصير هذا الطاغوت الأرعن؟
وأتساءل، هل استشار صدام حسين هذه النخب عندما قرر اجتياح الكويت مثلا ؟ وهل استشارها عندما وقع في خيمة صفوان على كل الشروط الأمريكية لوقف الحرب من دون نقاش أو اعتراض أو حتى تمنع ظاهري حتى اسماه العراقيون تندرا ( بصام حسين )؟ و هل استشارها عندما خصص، و على مدى ربع قرن تقريبا، (70% ) من الدخل القومي للعراق لبناء جيشه و أجهزة الأمن و المخابرات و ترسانته التسليحية الضخمة التي تحتوي فيما تحتوي على كم هائل من أسلحة الدمار الشامل بكل أشكالها و أحجامها ؟ و هل استشارها عندما قرر (الصمود البطولي) بوجه التهديدات الأمريكية مثلا عام 1998، حتى إذا أحس بحرارة السكين على رقبته كما يقولون، سارع إلى ( تنفيس) ضغط ( الصمود) ليعود من جديد إلى نقطة الصفر و يعود إلى حجمه الطبيعي ( جرذا أجربا) و لكن، و للأسف بعد فوات الأوان إذ تلقى وقتها العراق ضربة عسكرية أمريكية موجعة.
و قبل ذلك هل استشارها صدام حسين عندما قرر التوقيع مع شاه إيران على اتفاقية الجزائر عام 1975، تنازل بموجبها عن سيادة العراق على حدود برية و مائية هامة لصالح إيران كما تنازل عن كرامته التي يدعيها عندما قبل يدي الشاه ؟ وهل استشارها عندما قرر تمزيق هذه الاتفاقية - التي وقعها هو دون سواه - و إعلان الحرب على إيران الخميني ؟ وهل استشارها عندما قرر مرة أخرى رد الاعتبار إلى الاتفاقية الممزقة و الاعتراف بها داعيا إيران إلى إعادة صياغة علاقات البلدين على أساس بنودها ؟.
إذا لم يستشر صدام حسين هذه النخب ولا مرة واحدة فلماذا إذا كل هذا الدفاع عنه وهو ليس دفاع عن العراق البتة ولو كان كذلك لشجبوا على الأقل أمريكا والنظام في آن واحد؟ ولماذا لا تدعه يتحمل المسؤولية كاملا دون أن تقاسمه الوزر؟ ولماذا - بالتالي - لا تدعه يلقى حتفه الأكيد (السقوط ) كأبسط ثمن يجب أن يدفعه هذا النظام المتفرعن جراء كل هذه الأخطاء القاتلة؟
كنا نتمنى أن تساعد هذه النخب الشعب العراقي للتخلص من هذا الدكتاتور الأرعن ولو بالكلمة الطيبة و(الكلمة الطيبة صدقة) كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (ص)، حتى لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم، كما كنا نتمنى ألا تدعم هذه النخب النظام في مساعيه التي كانت تصب بمجملها ومنذ اليوم الأول، باتجاه تفرعنه واستئساده على الشعب وإحكام سطوته وسيطرته على البلاد وما فيها دون غيره أولا، ثم على دول المنطقة وشعوبها دون غيرها ثانيا؟.
طيب، الآن وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه اليوم، نقترح على هذه النخب، وحتى تثبت لنا أنها حريصة بالفعل على العراق وشعبه وليس على صدام ونظامه، أن تقترح هي بدورها على هذا الأخير ليبادر حالا إلى تبني موقف الخليفة علي بن أبي طالب (ع) والذي يقول صدام انه من نسله وسلالته، فيتنازل عن السلطة ويدع الشعب العراقي يختار من يريده حاكما عليه .
أولم يفسر كبار المؤرخين موقف الإمام علي (ع) عندما تنازل عن الخلافة التي كان يراها من حقه وانه الأولى بها من بين كل المهاجرين والأنصار، وقبل بما اتفق عليه المسلمون في سقيفة بني ساعدة حرصا على المصلحة العليا للامة عندما رأى الروم وجيشهم يتربصون بها و بدينها وبدولتها الدوائر للانقضاض عليها وتمزيقها وبالتالي التهامها وإلى الأبد؟.
والم تقل هذه النخب بأن جيش الروم الجديد (الإمبريالية الأمريكية ) يستهدف اليوم بمشروعه، الأمة ودينها وحضارتها ومستقبلها و خيراتها، وحجته في تنفيذ كل ذلك هو وجود صدام حسين في السلطة في بغداد؟ فليتنازل إذا عنها من خلال المبادرة الفورية لاتخاذ القرار الصحيح، هذه المرة، - ولو لمرة واحدة في حياته - فيتنحى عن السلطة و يمنح الشعب العراقي حرية اختيار من يريد من حاكم وما يريد من نظام حرصا على المصلحة العليا للامة وللعراق، إذ سيجنبها كل المخاطر وينتزع المبرر بالكامل من يد عدوها .
اجزم القول - وأنا به زعيم - انه لا النخب العربية المثقفة متسلحة بما يكفي من الشجاعة لتقترح على صدام حسين مثل ذلك، ولا الأخير تخطر بباله المصلحة العليا للامة وللعراق ولو للحظة واحدة ليفكر بمثل هذا الاقتراح، وهو القائل عندما نزا على السلطة في بغداد عام 1968 على ظهر تلك الدبابة الانجلو- الأمريكية ( لقد جئنا لنبقى، ومن أراد العراق فليأخذه قاعا صفصفا) و في أخرى قوله ( من أراد العراق فسنسلمه أرضا بلا شعب ) .
عجيب أمر هؤلاء البعض من هذه النخب، كيف يحرصون اشد الحرص على دفع الشارع العربي للتظاهر فقط عندما تتعرض الأمة للتحديات الخارجية، و لا تبدي أي حماس أو حتى عشر هذا الحرص لمواجهة التحديات الداخلية كالديكتاتورية و تكميم الأفواه و إلغاء دور الشعوب في الحياة السياسية، و- في كل الحياة - والأمية والتخلف والفقر وتمزق الصف العربي والتلاعب بمقدرات الأمة كيف يشاء الحاكم من دون حسيب أو رقيب، وسوق الشعوب إلى أتون حروب عبثية مع الجيران والأشقاء والأصدقاء ليس لها فيها ناقة ولا جمل، و التداول الدموي للسلطة عبر لعبة الانقلابات العسكرية ( السرقات المسلحة) وهي كلها وأمثالها أسباب حقيقية ومباشرة تقف وراء التحديات الخارجية .
إلى متى تظل هذه النخب تركض وراء ذيل الحية تتبعه خطوة خطوة لبتره، ولا تسعى ولو لمرة واحدة إلى الوصول إلى رأسها للامساك به وقطعه، لإنهاء لعبة الاستنزاف التي ظلت الأمة تمارسها جيلا بعد جيل، إما جهلا أو خوفا، وذلك منذ تأسيس الدولة العربية الحديثة مطلع القرن الماضي ولحد الآن؟.
إن صح ما قيل من استحالة جمع المتناقضات في آن واحد وفي إطار واحد، فيستحيل مثلا جمع الماء والنار والحار والبارد والظلام والنور والحق والباطل، فالصحيح كذلك، استحالة جمع الثقافة والديكتاتورية والمثقف مع النظام الشمولي المستبد، إلا أن يكونا من علقة واحدة ونطف متماثلة ( ولكنكم لا تفقهون).
أيتها النخب العربية المثقفة، يا أمل الأمة وشعوبها، كفاكم دفاعا عن صدام حسين ونظامه، فبما ذا ستجيبون قراءكم إذا تنازل صاحبكم عن كل شيء واستسلم للضغط الأمريكي وسلم المفاتيح والدار والعيال لنزيل البيت الأبيض.
أرى لو تبادروا إلى تسجيل موقف تاريخي، ولو لمرة واحدة قبل فوات الأوان، وإلا ( ولا ت حين مندم ) والعاقبة للمتقين.
&
باحث وكاتب عراقي مقيم في واشنطن&
[email protected]