طلال معلا
&
&

عندما يختلف الدارسون حول مفهوم الهوية، فإن ذلك يشير مباشرة إلى خلل في التعبير أو التبليغ مؤداه أن حوامل عناصر هذه الهوية ومشّكلاتها الأساسية بما فيها وجوه الإبداع والابتكار والخلق تعيش حالة من الاختناق، أو أنها قد بدأت تنزاح عن الأهداف والمرامي التي تنشدها. قد يكون ذلك بفعل الظروف والمتغيرات الثقافية والصراعات المستجدة حول المفاهيم الفلسفة التي بخلخلتها للمفاهيم السائدة إنما تؤسس لمعارف وعلوم تطال الموقف من الزمان والتحديات التي تواجهه قياسا بالمتغيرات التي تطال المكان وجمالياته التي يتهدد كيانها بمجرد الانزياح الفلسفي الذي يؤثر على مجمل العلاقات المرتبطة بهذا المكان سواء اللغة أو الحضارة أو التاريخ والوظائف الناتجة عنها.
ودون أن نسعى لما سعى إليه النقد التشكيلي منذ سبعينيات القرن الماضي حين جد البحث في مفاهيم الهوية وضرورة التأكيد عليها بتأصيلها في إطار النظرة الاستبدادية للمشهد الرسمي آنذاك باعتباره فضاء التحول إلى قيم مجتمع الحداثة، فإننا لابد نذكر النزعة الفطرية لدى هؤلاء النقاد لمقاومة الدعوات للعودة إلى الذات باعتبار الهموم القومية أولوية على الفنان أن ينخرط فيها بالتعبير عن مطامحها التي هي مطامح كل الناس، وباعتبار الفنان أحد الأشكال المميزة للمثقف العربي بما يمكن أن يشير اليه من طليعية اجتماعية وسياسية تعكس الدور المهم الذي سيلعبه الفن للتعبير عن هذه القضايا.
لقد ارتبط الفنان منذ ستينيات القرن الماضي بالمؤسسة الثقافية أولا وبالمؤسسة السياسية ثانياً، منخرطاً في لعب دور لم يرض ـ تاريخيا ـ أهمية الفن، قدر ما خدم وأرضى الفئات السياسية التي كانت في جوهرها تقود التطور التشكيلي إلى مجالات مغلقة بدعوى الجماهيرية أحيانا وبما حددته بعض هذه المؤسسات بالمنطلقات النظرية والفكرية والأيديولوجية التي ضيقت كل مجال لينقلب العارف بحجة التطوير والتحديث إلى جاهل بما يجري حوله في العالم وبما كان يعلي من وتيرة خضوعه لهذه الأيديولوجيات معتبراً أن الإقدام والشجاعة في إسار الهموم الوطنية والقومية هو في الخروج من التاريخ إلى المستقبل حيث لم يكن بانتظارهم سوى الجدران المصمتة التي تغلق الدروب إلى الوراء والأمام معاً.
أبرز ما لفت انتباهي في زيارة قمت بها إلى رومانيا منذ أعوام ما أكده كل فنان زرته هناك أو ناقد التقيت به حول الشرخ العميق الذي عاشه المبدع طيلة فترة الأيديولوجيا، أخص ما اصطلح على ترديده (الهوة العميقة بين الممارسة والفكر) أو ما يمكن أن نشير اليه تحت مسمى الفصل المحكم بين العمل والفلسفة، فالفنانون التشكيليون كمجموعة مثقفة عاشت حالة نفي عن ذاتها طيلة سنوات، وقد شاهدت أعمالا فنية لدى رواد في هذه الفنون في مختلف المدن لم يكونوا يستطيعون أن يطلعوا عليها حتى أصدقاءهم الفنانين، وبمجرد التحول النقدي والسياسي في جوهر الواقع لذاك البلد انتصرت وظيفة الفن الشاملة لتاريخ الذات الإنسان على القوالب الخدمية التي كان يدور في فلكها كل من السياسي والفنان بآن معاً، وحيث لايمكن أن نحاكم الطفرة فإننا لابد أن نحدد مدى الانسجام الذي تحققه الحرية ما بين سحر العطاء والدافع له سواء أكان هذا الدافع عقليا أو روحيا.
إن الإنسانية التي ملت مقولات التثقيف المجتمعي بعد هذا التراكم الخطابي على مدى الحضارات تقف اليوم غير منضبطة في اعتباراتها التنبؤية إزاء النموذج الجديد لنصوص الثقافة المرئية، حيث أضحت الصورة المادية التي قوامها المادة والشكل والدلالة، من كلاسيكيات التعبير بمواجهة الصورة الوهمية التي تعيد صياغة الأفكار وصياغة العالم من حوله في إطاراللغة الجديدة التي تقسر الآفاق على استيعاب ابتكارات الذهن الإيحائي والمجازي.. وبكل الأحوال فإن الصورة التي أصبحت من علامات الدلالة، تحولت في الإطار التشكيلي إلى وسيط أو حامل يختبر كل ما يضاهي الواقع ويتعالى عليه لإنتاج المعاني.
الفنان العربي الذي أغضبته أحيانا أصوات النقاد وهم يحتجون على عطائه أو تبعيته أو انبهاره، يقف اليوم على حدود الجماهير المذهولة بممكنات العصر والذين لا يقوون على معرفة حقوقهم على الأقل أو متابعة المصطلحات التي باتت تكوكب كل شيء بما فيها الفنون، وما يجري اليوم في الانتقال من الحالة الفنية التي كانت سائدة إلى منتجات الثقافة العولمية إنما ينبه إلى الاختلاط الذي يستحق التحليل من قبل المفكرين فيما عليهم أن ينبهوا إليه من غياب للعقل وكل ما يجعل الأفكار عرضة لعبودية الرقابة الشاملة على تركاته من خلال التقنية المتطورة التي ستطال الذات بالإلغاء التام لتجعلها رهينة هذه السلطة الشاملة التي فقدت صلتها بالتاريخ وبمعاني التقدم بعد أن لاحت في فضائها شارات (التوحش) بدلا من التحرر.
لقد بات الفنان العربي يحس بالمخاوف التي تقصيه عن فعل الخلق الفني باعتبار الإلهام فعلاً سابقاً على الرؤية التقنية السائدة اليوم في فنون الأنظمة الحاسوبية و الإشعاعية، الأمر الذي يقصي الخبرة المعرفية، الفكرية والمهنية، وإن كان في الغالب مازال ينتج المحامل التقليدية التي لا تفصله نهائيا عن مواقع الخوف التي ذكرناها، إلا أن استمرار التجمعات التنشيطية لذهنية الفنان العربي كالبيناليات المحدودة في بعض البلدان دون غيرها، المنفتحة على تجارب غربية وشرقية طالتها آليات التغيير في الربع الأخير من القرن الآفل، هذه الفعاليات تلعب اليوم دوراً نموذجيا في تسهيل عمليات انتقال الولاء الجمالي من نموذج إلى آخر باعتبار (أن الفكر في آخر القرن يتخلص ببطء وبصعوبة من الحنين إلى الكائن، حنين لم يعد يسنده الرفض الصائب لحاضر لا يحتمل ينبغي التفكير في مجتمع حاضر، ونقده، وتحويله، مجتمع أكثر مرونة وتنوعاً).
ولعل المتابع لمسميات وثيمات بينالي القاهرة الدولي أو بينالي الشارقة الدولي يلحظ هذا الاهتمام ببحث القضايا المتعلقة بأزمة المبدع العربي بل والإسراف أحيانا في تجسيد القلق البادي على سحنة المنجز التشكيلي العربي، يلخص ذلك المشاركات النقدية العالية السوية في الندوات الفكرية الموازية التي جعلت الجدية عنوان الحساسية التنظيمية دون أن يعلو شعور على الشعور بإظهار الحقائق كما هي في إطار أزمة العدالة الجمالية التي يجري البحث عنها من قبل المبدعين عموماً.
ومع بداية هذا القرن، لن يستبعد النقد التشكيلي التنوع الذي بات يطال كل جوانب الفروع والأصول باعتبارها أنماطاً قد لا يتفق مع جوهرها إلا أنه لن يتجاهل التضخم الذي يطالها بفعل التسارع المجازي للصورة ومتتالياتها الإشارية الوهمية، البيئة المبتكرة لتناول جوهر الأفكار المدمر والمتحلل الذي يتخلى شيئا فشيئا عن حيويته وضميره وذاته لصالح ما يدعى بالتعددية التي تتجاوز المكان والزمان الأمر الذي ينعكس أيضا على متلقي الفنون وحيرته تجاه ما يجري بعد أن كان يستمتع بما يثير حساسيته ويمنحه الوحدة مع قيمه في كل مرحلة من المراحل التي يخطوها لبناء صورة العالم كما هي. محاولاً أن يطفو على أمواج الصراعات موضوع المتغيرات التي تجعل المتحف يأخذ شكلاً مغايراً لمهمته التربوية والصالة أيضا التي يتقلص تواجدها في الحياة الثقافية، وبعد أن لعبت دورها المتميز في مجتمعات الطبقات بدأت تختفي في مجتمعات الأمم الشمولية اللهم إلا ما تفعله بقايا الصالات للإشارة إلى تاريخية دورها والمبادىء التي حملتها في زمان من الأزمان.
إن السوق الذي يرسم الهوية الثقافية للمجتمعات هذه الأيام هو المنتصر باعتباره يمتلك أدوات الإنتاج الإيهامي، ولهذا فإن (آلان تورين) يرى: (إن عالم اليوم الذي ترى بعض العقول المستعجلة أنه يتوحد حول قيم غريبة انتصرت على الفاشية والشيوعية وقومية العالم الثالث، هو في الواقع ممزق بين العالم الموضوعي والعالم الذاتي، بين النظام والفاعلين.
ونحن نرى منطق السوق العالمي ينتصب في وجه منطق السلطات التي تتكلم باسم هوية ثقافية، فمن جهة يبدو العالم كلياً، ومن جهة أخرى تبدو التعددية الثقافية لا حدود لها. كيف لا نرى في هذه التمزقات التامة تهديداً مزدوجاً لكوكبنا؟. وبينما يسحق قانون السوق المجتمعات والثقافات والحركات الاجتماعية. يحبس وسواس الهوية في تعسف سياسي كلي بحيث أنه لا يمكن أن يستمر إلا بالقمع والتعصب. ليس التفكير في تاريخ الإشارة وحده هو الذي يحثنا على إعادة تعريف الحداثة، أنه المواجهة العادية بين ثقافتين ونموذجين للسلطة هي التي تجبرنا على جمع ما كان منفصلاً، لكن دون استسلام للحنين إلى وحدة الكون المفقودة.
يبدو أن العواصف التي ستطال التشكيل الغربي في العقد المقبل وما يليه ستكون أعنف من كل المواجهات التي خاضها الفكر الجمالي العربي لإسقاط أصنامه والاحتفاظ بروح حريته ومبرر وجوده.