فاضل الخياط
&
&
" ما نعرفه يجب ان نعرف اننا نعرفه، وما لا نعرفه يجب ان نعرف اننا لا نعرفه"
كونفيشيوس

&
&تقوم المصادر المعرفة بتكوين الفرد وتحديد ملامح شخصيته، وعلى قدر تكثر منابع المعرفة تتنوع هوية الكائن الانساني وتتعدد لتصبح فضاءً رحبا من الهويات المتحولة والمتغيرة من وقت الى اخر. قبل اكتشاف الكتابة كانت المعرفة تتوارث شفاها من جيل الى اخر محكومة بالثبوتية والسكون والتكرار، حيث كل جيل يعيد انتاج المعرفة ذاتها التي يرثها عن اسلافه، حين كانت الالسن هي الوسيط الوحيد لانتقال المعرفة من جيل الى اخر، وكانت الصدور هي الالواح الوحيدة المتوفرة انذاك، مع الانتباه الى ان الثقافة الشفاهية- بسبب من غيابها بصريا - لا تيسر أي امكان لتفحص النص لغرض تفكيك محمولاته الثقافية او تأويلها او اخراجها من اطارها اليقيني الاحادي الى فضاء المعرفة المتكاثرة. ان فضاء الالسن ليس اكثر من جدران منيعة من المرايا التي تكرر الصورة في شكل لانهائي.
الثورة التي احدثها اختراع الكتابة في بلاد سومر الرافدينية، ربما بسبب من وفرة الطين والعيدان، قلبت احادية المعرفة، واخرجت المرء من جدران عزلته الابوية الى مناخ رحب للمعرفة المتراكمة التي من علاماتها الابرز غياب الكاتب الذي يهيئ للقارئ فرصة ان يتمعن طويلا او ان يتعامل مع القول الثقافي المكتوب بحرية اكبر ممزوجة بخيانة الدلالة الحتمية للقول الشفاهي، بكلمة اخرى كان للكتابة ذلك الدور القدسي الذي هشّم مرايا المعرفة التكرارية المحبوسة في فضاء اللسان واخرجها الى فضاءات اكثر رحابة وحرية في تحديد نمط العلاقة بين النص وقارئه التي يغيب فيها أي حضور او هيمنة عِلوية لصانع النص او كاتبه، على خلاف العلاقة بين القول و"متلقيه" والتي من علاماتها الجمود والتبعية والانشداه او الانخطاف الذي يصاب به المتلقي لحظة الاستماع الى سحر الالسن وعذوبة الكلام. لقد شكل اختراع الكتابة الثورة المعرفية الاولى التي حققت طفرات هائلة في التاريخ البشري سواء على مستوى تراكم المعلومات او لتفاوت مساحة الحرية وتحقق الذات بين فعل القراءة كممارسة حوارية مع النص، تمنح القارئ هيمنته عليه مقارنة بعملية "الاستماع " التي لا تمنح المستمع فرصة الحوار او اتخاذ دور الند مع النص الشفاهي الذي يذوب بين طيات الهواء حال الانتهاء من القائه على الاذان.
لكن ما حدث لاحقا من احتكار للالواح المعرفية لفئة او طبقة من كهنة العلم ومريديه قاد الى ظهور زعامات " مقدسة" مارست فعل احتكار " الحقيقة" وتلقينها الى العامة التي ليس في وسعها الولوج الى كهف المعلومات بسبب من عدم امتلاكها لهبة القراءة او لتعذر حصولها على "اسفار العلم" لندرتها او لكلفتها المادية الباهظة انذاك في الفترة التي يمكن ان ندعوها فترة زعامات النبوة التي امتلكت كلمة الله وصفاته واسمائه وخططه المدنية والعسكرية التي رسمها للبشرية جمعاء في سياق عابر للزمان والمكان.
لكن مع اكتشاف الورق ولا حقا الطباعة شهد العالم ظهور زعامات جديدة من طبقات متباينة من المجتمع، الامر الذي سلب من الفئة الدينية المهيمنة امكان احتكارالوصايا وحق تلقينها" للعامة". كان لاختراع ا لطباعة ان يمثل ما يمكن ان ندعوه الثورة المعرفية الثانية والتي اتاحت لعامل البناء مثلا ان يمتلك وسائل المعرفة ذاتها التي بحوزة رجال الدين نقصد "الاسفار" التي ظلت راقدة في ظلمات حوزة فقهاء العلم وقساوسة الثمرة المحرمة على العالمين.
الثورة المعرفية الثالثة تمثلت بالمعجزة الحديثة الانترنيت. فالمساحة الكونية الهائلة التي ترقد في الصندوق السحري تعد بقلب الاسس التي نشأت عليها الانظمة المتعددة للبشرية والمسؤولة عن تشكيل& هوية الكائن ومواقفه من العالم والمجتمع الذي ينتمي اليه. وبقدر ما تتماثل المستندات المعرفية لمجتمع ما بقدر ما يخلق ذلك المجتمع متخيَّله الجماعي الموحَّد ومواصفاته التي تميزه عن مجتمع اخر. ان الفضاء العقلي الذي يتحرك فيه المجتمع يتم تشكيله في مساحة مغلقة تستمد وجودها واستمرارها من مياه متشابه، لكن مع توافر الفضاءات المتغايرة والمتباعدة التي يسهم الانترنيت في اباحتها للاجيال القادمة فان اليقينيات الاحادية التي اعتادت البشرية ان تؤسس عليها منظومتها الدينية والاجتماعية سرعان ما سيتم اذابتها او زحزحتها لصالح احتماليات متكثرة تأخذ بمبدأ الاختلاف وحق كل جماعة في امتلاك يقينها الخاص الذي لا يتناقض او يلغي يقين الاخر وخصوصيته النابعة من طبيعة تلك الجماعة ومنظوماتها التي تنتمي اليها. الامر الذي ينذر بانهيار امبراطوريات العقل الواحد او الدين الواحد وغياب النزعات التقديسية ذات التوجهات الارثوذكسية المغلقة.
لا تقوم الوسائط المعرفية هنا بدور الناقل المحايد، بل انها تمارس فرض الياتها على التفكير البشري، واذ نحن مقبلون على انتاج وسائط جديدة ومغايرة يتيحها التطور الهائل في حقل النيت العظيمة ما دعوناه "الثورة المعرفية الثالثة" الذي يعد في ايامنا هذه وسيطا بارعا وامينا بامتياز ومع ما سنشهده من انقراض لوسائط تاريخية تولت صياغة العالم على ما هو عليه الان وكلفته هدرا كاسحا للاشجار والطبيعة (المواد الاولية لصناعة ادوات الكتابة كالاقلام والصحف)، فان الثورة القادمة- كما هو حال كل الثورات ستتولى مهمة تحطيم اصنام ومتحجرات كثيرة فقدت القدرة على اللحاق بهذا الزمن المعرفي المتسارع في النمو بشكل فلكي مرعب. سيتهيأ لكل فرد من الاجيال القادمة امتلاك القدرة على استحضار المعرفة وقتما يشاء واينما يريد بعد ان امتلك جميع "مفاتيح العلوم" وابوابها الراقدة في قنديل علاء الدين الانترنيت الذي لا يتطلب من المرء سوى دعكة صغيرة على لوحة الازرار ليتجلى امامه مارد المعرفة الكوني، ناشرا شبكته الضوئية او نافذته المشرعة على مجمل التاريخ البشري ومعارفة واديانه دفعة واحدة، مما يهدد بتهشم اية امكانية للمؤثرات البيئية الضيقة في ان تشكل وعي الفرد الذي سيجد نفسه امام بنى ومنظومات فكرية يحار في ان يفاضل بينها اوان يسلم قياده الى جهة ما. وان اول المتحجرات التي ستشملها قائمة الهدم هي اليقينيات الدينية التي تشكلت عبر التاريخ بسبب من غياب الكثرة المعرفية وهيمنة الاحادية التي يتلقاها المرء في طفولته عن محيطه العائلي. لذا فما نحاول قوله في هذا المقال السريع، اننا مقبلون على عصر ستنشأ فيه اديان جديدة هي مزيج من اديان البشرية المتعددة بتعدد الشعوب وطبائعها البيئية حيث الدين هو صدى لطبيعة المجتمع، اذ ان كل مجتمع يخلق دينه على مقاسه ووفق حاجاته الاجتماعية الى نوع من التعاقد المعيشي. ستفاجأ البشرية في ازمانها الاتية بأديان جديدة مشاكسة بمحبة واخوية عالميتين، تحتفظ من كل دين بشذراته ذات النزعة الانسانية الرحبة وتلقي بما هو صنمي ذي طابع احادي تبجيلي عدائي حطبا لنار التراحم الامومي، اديان وعقائد تأخذ من الطوطمية هارمونيتها مع الطبيعة ومن البوذية سماحتها ومن المانوية ازدواجية النفس الانسانية ومن الكونفيشيوسية حيرتها حول ما بعد الموت ومن اليهودية رجاءها ومن المسيحية ايثار المحبة وفداء الاخر ومن الاسلام هيكليته القانونية الدنيوية. اديان تكون فيها البقية الباقية من الطوفان باعراقها واجناسها مثل" قطرات ماء في بحر واحد" كما كان يحاول بهاء الله ببراءة ام تنتحب على ابائها الذين ماتوا برصاص بعضهم بعضا، ان يجمعهم بين امواجه المتلاطمة، في حين اندثر همسه ب "اله واحد ورسل عديدون" بين ضوضاء ابواق اهل اليقين المزمجرة. او كما اراد ابن اور ان يوحّد البشرية تحت خيمة "اب واحد وامهات شتى" ولكنه ترك لابنائه دون ان يعلم بنادقه محشوة وجاهزة للتصويب. اديان لن يكون فيها موضعا لمقولة" شعب الله " او "خير امة" او "لا طريق الى الله سواي" او " الفرقة الناجية" وليس فيها موضعا لنبوءات كالتي ترد في اسفار العهد القديم، مثالا :" تقوّضون جميع المواضع التي كانت الامم التي انتم وارثوها، يعبدون فيها الهتهم وتهدمون مذابحهم، وتكسرون انصابهم، وتحرقون غاباتهم بالنار، وتحطمون منقوشات الهتهم، وتمحون اسماءهم من ذلك الموضع".( القضاة 9-37). اديان تعيد فتح باب النبوة الواسع على مصراعيه، بعد ان اغلقه كل من الطبري والكليني ورميا مفتاحه في البحر، بل تقوم بتأسيس معاهد وكليات- على نمط كليات الطب والهندسة والعلوم التطبيقية - تفتح سبعة ايام في الاسبوع لتخريج دفعات جديدة من الانبياء والرسل حسب حاجة المجتمعات البشرية و بمواصفات اكثر عصرية واكثر قدرة في مواكبة ثقافات الاجيال القادمة وامزجتها النرجسية اللاسعة، اديان تدعو الاخر الى تأسيس دينه الخاص به- وفق قانون الاديان المدني المشابه لقانون الاحزاب السياسية- بدل دعوته الى الانضمام اليه، وعذرا عن أي التباس او تفاؤل رومانسي، فليس من باب مغلق يتعذر على جنيّ المعرفة فتحه بعد اليوم.
تنويه: رأينا ضرورة الاشارة الى وجوب التفريق بين الدين كممارسة تعبدية ذاتية، وبين الدين في بعده الايديولوجي التنظيمي الدنيوي والذي كما يبدو انه يواجه منازلة غير متكافئة في زمن الثورة المعلوماتية المخيف.&