حسين درويش
&
&

حملت الفضائيات العربية الى العالم وجهة نظر ذات خصوصية عربية ظهرت واضحة خلال الحرب الأميركية على العراق، وجهة النظر تلك رأتها أميركا من حيز ضيق بحيث أنها اعتبرت أن الصوت الرافض للاحتلال مناصر للنظام البائد واعتبرت المظاهرات التي عمت الشارع العربي تأييداً له. ومشكلة أميركا في ذلك أنها لا تفرق بين المشاعر الوطنية والاندفاعات العاطفية كما هو الحال بالنسبة للنضال المشروع ضد الاحتلال وبين الارهاب، وضمن مفهوم الحساب الأميركي فان شارل ديغول ارهابي لأنه حارب الغزاة الألمان وكذلك غاندي لأنه ناضل (سلمياً) ضد الاحتلال البريطاني، وفي نفس القائمة يمكن اضافة اسم سيمون بوليفار محرر أميركا اللاتينية من الاستعمار الاسباني وجميع الثائرين العرب من ابراهيم هنانو الى سعد زغلول الى سلطان باشا الأطرش كلهم في عرف أميركا ارهابيون لأنهم حاربوا الاحتلال. الفضائيات العربية لم تكن طرفاً في الحرب حتى تشن أميركا عليها الحرب. الفضائيات العربية كانت طرفاً في الحقيقة وحملت صوت الحقيقة (لأول مرة) إلى العالم ولكنها حقيقة مجروحة لأن الذين يظهرون على الفضائيات العربية والذين يتصلون لاعلان رأيهم لا يمثلون المشاعر الوطنية والعقائد القومية بل يمثلون اندفاعات عاطفية تمتزج فيها غوغاء السياسة بيأس المنكسرين.
والعربي منكسر منذ احتلال فلسطين حتى احتلال العراق لم يعش يوماً كبيراً يستحق النصر والاحتفال، وسيزداد الطين بلة عندما يُلاحق الوطنيون باسم الديمقراطية، والأسوأ عندما يتحول الوطنيون الى انتهازيين يحكمون البلاد ويتحكمون بالعباد، وهكذا حوّل صدام حسين البعث من حزب قومي وطني إلى مزرعة يعيث فيها الفساد وتفوح منها رائحة الدم.
عن الغوغاء العربي يمكن الحديث طويلاً، فهم الأعلى صوتاً اليوم وهم الذين لديهم الوقت والمال ليكونوا ناطقين باسم العرب فضائياً وأرضياً، فتراهم يتوعدون البشر بالقتل وهم ملثمون وخلفهم صور جلادي الشعوب، وقد أصبحوا ارثاً وطنياً وهذا ما نشاهده عبر الفضائيات عندما يقرأ هؤلاء بياناتهم بأصوات مرتجفة خلف أقنعتهم والى جانبهم اسلحة فردية تصلح لقتل الأبرياء قبل الاعداء ولا تفرق شخصاً عن آخر وخلفهم صور لصدام وابنيه عدي وقصي وكأنهم رموز يستمد منها المرء الشجاعة والقوة.
فضائياتنا العربية دأبت على نشر هذا النمط من الغوغاء الوطني مرة كتسجيلات صوتية ومرة كصور داكنة وحملتها الى العالم، حيث لم تر أميركا من كل الصوت العربي الرافض للاحتلال سوى تلك النماذج التي أخذت الجميع بجريرتها وصارت تعامل المنطقة (شعوباً وجغرافية) على خلفية هؤلاء. مشكلتنا اليوم ـ والتي فضحتها الفضائيات العربية ـ اننا نكثر من الحديث عن السياسة ونُفتي في كل شئون العالم دون أن يكون لدينا سياسة واننا نعدّ العدة للحرب ولا نعرف الطريق الى الجبهة، ولأن موضة الاستسهال ماشية اليومين دول، فان اسهل الطرق الى الحرب هو اللعلعة على الفضائيات التي نسجل نصرنا فيها، ونصدره غوغاء إلى العالم..& العالم الذي أصبح بيننا وبينه سنوات ضوئية.