&بغداد ـ ادموند ساندرز (لوس انجلوس تايمز): خلف الأسلاك الشائكة والحواجز، وفي الطابق الأعلى للمكاتب الحكومية المؤقتة، وعبر القاعة الخاصة بالمؤتمرات الصحفية التي يلتقي فيها الجنرالات مع المراسلين، هناك ركن صغير في المقر الرئيسي للادارة المدنية يتحول ثلاث مرات في الأسبوع الى جزيرة تعبر عن الرقي والمدنية.
فهنا يجتمع حوالي ستين عراقياً كل اثنين واربعاء وسبت يحملون معهم آلات الكمان والنفخ في صناديق عتيقة تحتاج الى قطع غيار، وذلك لاجراء تدريبات الاوكسترا السيمفوني الوطني العراقي.
وفي احدى الغرف الصغيرة كان هناك ثلاثي من عازفي آلة التشيللو يضبطون آلاتهم. وفي الغرفة المجاورة كان عازفو الكلارنيت والأبواق يجلسون حول طاولة للمؤتمرات يتدربون على عزف مقطوعة «فوق النخل»، موسيقى احدى الاغاني الفلكلورية المشهورة والمحبوبة. وعلى خشبة المسرح، في قاعة المؤتمرات الضخمة، جلس عازفو الكمان في حلقات صغيرة على كراسي بلاستيكية يتدربون على مقطوعة من تأليف قائد الاوركسترا. وهمست المجندة ربيكا بيرت (24 عاماً) وكانت قد تسللت الى القاعة ذات مساء أخيراً «انهم جيدون للغاية مما يجعلك تختنق بالعبرات». ووضعت بندقيتها على السجاد، وأغلقت عينيها، وقالت «انهم يمزجون عواطفهم بالموسيقى، ان أي تجربة مروا بها تجد ترجمة في عزفهم».

رمز العراق
وبالنسبة لأعضاء الاوركسترا السيمفوني يعتبر هذا المكان ملاذاً من الحر والغبار ومن القلق، جراء الجريمة والعطالة والاضطرابات السياسية اليومية. ويقول لؤي حبيب (24 عاماً) وهو عازف كمان «لا شيء يزعجنا هنا». غير ان الاوركسترا تعد رمزاً لاستعادة العراق لصحته وحيويته، كما انه يذكرنا ان الحياة لم تعد الى طبيعتها بعد.
كان على الاوركسترا ان تنقل تدريباته من قاعة الرباط في مركز المدينة الى قاعة المؤتمرات بسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي كان يضطر افراده للتدريب في الظلام وفي قاعة ضيقة.
وبعد الحفل الموسيقي الذي اقيم في يونيو الماضي، لم تحدد أي مواعيد لحفلات أخرى في العاصمة. فحتى محبو الموسيقى المتحمسون قد يخشون المغامرة بالخروج ليلاً لحضور الحفلات. كما ان الاوركسترا مترددة في تقديم عرض في ديسمبر المقبل في مركز كنيدي في واشنطن وذلك بسبب الانتقادات العديدة في الصحف المحلية التي تقول ان الموسيقيين يتعاونون مع قوة الاحتلال.
وقال هشام شرف (37 عاماً) الذي ألمح الى ان دبابة اميركية قصفت بيته اثناء الحرب «انني لا افهم، نحن لن نذهب للعزف أمام الجنود الاميركيين، بل أمام المواطنين الأميركيين». واضاف «نود ان نكون قدوة لأن أفرادنا من الأكراد، والتركمان، والشيعة والسنة والمسيحيين. ونحن عائلة لا توجد بيننا مشاكل عندما نعزف مع بعضنا البعض».

الحروب والقمع.. والفرار
وكان الاوركسترا قد تأسس عام 1959 ويعد من أقدم الفرق في العالم العربي، وظلت تقدم عروضها عبر اربعين عاماً من الحروب والاضطرابات السياسية، وقد اكتسبت شهرة دولية من خلال تقديم عروضها في الخارج، في روسيا ولبنان والاردن. ولكن في العقد الأخير فر العديد من أعضائها أو أرغموا على مغادرة البلاد. وقد اضطرت الاوركسترا الى عدم تلبية دعوات لتقديم عروض في فرنسا والولايات المتحدة بسبب شح التمويل.

إعادة الحياة إلى الفرقة
وبعد سقوط بغداد تم نهب كلية الموسيقى والباليه حيث توجد آلات ومعدات الاوركسترا التي نهب العديد منها. وبعد بضعة اسابيع بدأ هشام شرف في زيارة اعضاء الفرقة في بيوتهم لحثهم للعودة الى التدريب، وقال «أكدت لهم يجب ان نقيم حفلاً موسيقياً حتى يعرف العالم ما لدينا من ثقافة، يجب ان نبلغ العالم بوجه العراق الجديد، الوجه الجيد». وفي 27 يونيو قدمت الاوركسترا حفلاً موسيقياً في قاعة المؤتمرات عزفت فيه سيمفونية موزارت رقم 40، ومقطوعة من «كارمن» للموسيقار بيزيه، واغنية «فوق النخل» الشهيرة. كما قدمت توزيعاً جديداً لنشيد «بلادي» الذي كان النشيد الوطني للبلاد حتى أمر صدام بتغييره في الثمانينات.
وقال شرف «تذكر الناس حياتهم القديمة، وبدأوا في البكاء. كان كل نزاع خلال السنوات الماضية يتم حله عن طريق الحرب والسلاح. والآن الناس يرغبون في السلام والاستماع الى الموسيقى. والعراقيون يحبون الموسيقى». وفي اكتوبر صوّت مجلس الحكم العراقي بإعادة استخدام نشيد «بلادي» كنشيد وطني.
.. وبدأت عروض المساعدات تنهال على الاوركسترا، فقد قدم موسيقيون من اميركا والنرويج قطع غيار لاصلاح الآلات الموسيقية كما تبرع آخرون بالمال لشراء الآلات والمعدات. وقال شرف قائد الاوركسترا منذ 1997 «انني أتلقى ما بين خمس الى ست رسائل الكترونية كل يوم من اناس يرغبون في تقديم يد المساعدة».