د. عبد الرضا الفائز
&
&
&

ولد يتيم الأب، مرفوضا مقتاتا من عطايا الأقارب بين الأقنان والزرائب0 ولم يكن كفاقدي الأب الآخرين، فأمه كانت زوجة لآخرين بعد أبيه (وقبله)0 وأمضى طفولته يبات جوعانا يقتل القطط ويخنق الدجاج وصبيا مشردا يشاكسه الفتيان0 في ذلك الجو الموسوس بالتوجس والترقب والخطر نشأ قاسيا قبل ان يأويه خاله المأزوم0 وتمنى حاقدا، أن يجعل الآخرين يقاسوا ما قاساه من بؤس اليتم والتشرد والعوز والجوع0
صباح يوم حار في تموز عام 1968 تلقى رئيس القصر "الجمهوري" هاتفا يطلب منه التنازل عن السلطة والرحيل0 أجاب الرئيس الذي أتى الى الكرسي مصادفة بأنه سيقلب الدنيا على الرؤوس0 طلب الهاتف منه التطلع الى خارج نافذة غرفته0 وكانت مدافع الحرس مصوبة بأتجاه القصر0 فهم الرئيس النهاية وطلب السلامة0 هكذا كانت حادثة 17 تموز مؤامرة قصر لم يطلق فيها رصاصة واحدة ولم تفجر فيها حتى عجلة سيارة، وأستغرقت أجزاء من ساعة0 وسميت بعد ذلك "ثورة" في تلاعب فج وأدمان عربي شائع بالألفاظ والمسميات0 ولأنهم متأمرين، فقد كان يجب ان يغلب الطبع التطبع، ففي 30 تموز منه أيضا تعاد الكرة بأسلوب آخر ويفرز رجال آخرون لتكون ما سمي بعد ذلك "ثورة 17-30 تموز العظيمة"0
تظافرت الجهود من أجلب كسب الرأي وطبقات الشعب ما دام الهدف قد تحقق وأصبح البلد في جيب "الثوار" ولأن الحزب الذي قاد مؤامرة "الثورة" ليس كبيرا بحساب البيدر والحقل في أحزاب وحركات البلاد، فقد كان لابد ان يتبع أسلوب جديد قديم في تمتين السلطة مثلثه الكذب والرشوة والحربة0 فخرجت الوعود ومنحت الهبات وجردت الحراب0 وكتبت أتفاقيات وبيانات (بعد أغتيالات وتصفيات)، وكانت تلك الأتفاقيات تخرق قبل أن تجف0 وبهدوء لكن بسرعة ظهر رجل بين أؤلئك زلق اللسان كث الشارب طويل أسمر، في عينيه بريق وذو وجه صبوح، لكن في قلبه قساوة جامحة وفي ضميره نذاله مباحة أستطاع أن يخفيهما في جهاز له حنين، وكان يعرف ما يريد0 وأصبح سريعا نائبا للرئيس بعزم في دهاء ومكر في حيلة، لا يعرف المباديء ولا يحترم الشرف ولا يقدر الصدق أو الوعد عند الأمتحان0 وقيلت الحكايات حول ذلك الرجل وعيشه في عاصمة عربية ومهارته في أسلوب سياسي معروف أسمه التخادم (شيلني وأشيلك) في تعامل مع جهات و"هيئات"0
وبعد ان هزم مثلث الكذب والرشوة والحربة أحزاب البلاد وجيشها (ضفدعة هزمت الأفيال)، حدث أنقلاب آخر كان السيناريو فيه تآمر مدير الأمن العام الخطير على الدولة0 في ذلك السيناريو أزيح أشخاص ذوي أهمية في صنع تلك الثورة المؤامرة وكانوا بالأضافة الى مدير الأمن، وزراء آخرون0 وسلم الأمن العام الى صديق مؤتمن وشاكر وسلمت وزارة الدفاع (التي كانت قطب الرحى في صناعة كوارث العراق وبعض من مآسي العرب) الى قريب عزيز من آل ذلك السيد النائب وذهبت الداخلية الى صنيعة أخرى 0 وعطل الدستور (المؤقت أصلا) وألغيت ميزانية الدولة (المسروقة أصلا) وسار المشروع يراوح في مثلثه بمكرمات الكذب والرشوة الحربة ويناور هنا وينزلق هناك0
عام 1979 حدث تغير أستراتيجي في المنطقة وسقط عرش الطاووس وما كان به يرتبط0 وفي نفس الفترة يخطو بعض من العرب الى صلح مع دولة عدوة0 وتتحرك العواصم خشية وحيطة من الحدث الأول والأهتزاز الثاني، والشعوب مسذجة مغيبة0 وتكاد ان تكون هناك وحدة بين بلدين بينهما نسابة الفكرة ووحدة "العقيدة"0 وكان ذلك خطرا أكيدا على المشروع الذي أختطه ذلك الرجل فتحاك أطياف مؤامرة هدفها صناعة الوحدة مع البلد الشقيق (المؤامرة: هي الوحدة !!)0 وتحدث المجزرة لباقي رجال الثورة المؤامرة، وآخرون لم يقتلوا في نفس ذلك اليوم الذي قتل فيه الرفاق الرفاق، لكنهم قتلوا بعد ذلك بشهور أو سنوات قليلة بأغتيالات صامتة أو سموم فتاكة0 وحين تبين هشاشة التنظيم الذي طمع بالمكاسب والعطايا الشخصية تفريطا بالمباديء، ظهرت الامور على طبيعتها وبانت نوايا المشروع من سترها0 وتسلطت سلالة الجهلة والسفلة الأميين من القتلة على أعرق شعب في تأريخ المنطقة، ورفع بعض من سلالة أؤلئك السفلة زورا وكذبا الى أعلى الرتب في العسكرية والمهن وأرقى شهادات الآداب والعلوم0 وأعلن البلد مزرعة خالصة فيها طبقات ثلاثة (طبقة السادة) من سلالة آل الرئيس النائب سابقا و(طبقة الخدم) من الحاشية الكبار في الدولة والحزب، ثم السواد الأعظم من الشعب المغلوب (طبقة العبيد) المملوك لآل السيد المهاب القائد الرمز وضرورة التأريخ0
ولأنه أعتقد ان النصر سهلا فقد كتب الشروط مسبقا في حرب لم يتحقق فيها شرط واحد من شروطه دفع الشعب المستعبد فيها (لا السادة أوالخدم) ثمنا غاليا مرير ووضع العرب اقدامهم على أول عتبات التمزق الداخلي بعد الهزائم0 وفي تلك الحرب ماتت أو سقمت فكرة الوحدة العربية والمؤتمر الأسلامي وعدم الأنحياز والأوبك والأوابك وذهبت خزائن البلد والجيران والأقارب الى بدائل لملوثات بيئة في بلدان غريبة تركت فيها عبئا من الحرب العالمية الثانية، وحملت البواخر أعلام الدول الأخرى، وأنتصرت كامب ديفيد بعد أن كانت غريبة، وأستهجن (بضم التاء) العرب، وأحتل جنوب لبنان وبيروت وانتهت المنظمة نضالا، وأعترفت دول منها الهند واسبانيا وأغلب أفريقيا بالدولة المغتصبة العدوة بعد ان وجدوا كذب معركة المصير وكلام شعارات تحرير فلسطين0 المضحك والمخزي في تلك الحرب انها كانت من أجل تحرير فلسطين0 وتغنى المرتشون وتبجح المطبلون بالقائد نعمة التأريخ0 ولان الأولى كانت شرقا من أجل فلسطين أعقبتها أخرى غربا من أجل فلسطين أيضا0 وخرج الهاتفون الكذابون في عواصم أخرى تهتف للمعجزة وغدر الضم والتحرير، ومات النظام العربي السقيم وعاد من ذهبوا من المنطقة الى المنطقة وذهبت خيرات العرب، وكانت أوسلوا أنتصارا (!) من أجل فلسطين0 وفي أعقاب الحرب الثانية شنت حرب ثالثة أخرى ولتحرير فلسطين أيضا لكنها ضد شعب البلاد حفرت فيها المقابر الجماعية وهجرت الملايين وجوعت الأسر0 ومات من مات وقتل من قتل من الملايين، وتذكر: لم يكن واحد منهم في حرب من أجل فلسطين0 وخرج الهتافون والكذابون يؤيدون جلاد صنع الأفقار والتشرد والجوع والقتل والنذالة والأضطهاد، وشتموا الضحية: شعبه المسكين المقهور0 فما أنذلكم يا أيها المرتشون وما أقل النخوة والشهامة والصدق فيكم يا من صفقتم بالروح والدم نفديك حين تقتل وحين تجوَع وحين تشرد0 وكنتم الجاهليون، وللأسف لا تزالون0 فمتى تستأصلكم أمة العرب من بدنها الذي أدميتموه وعذبتموه بأنتسابكم الشائن له0
وحكمت البلاد بقوانين ثلاثة لكنها عظيمة الخطر ومدرسة لكل شرير يؤمن بتعاليم الشيطان0 وكانت تلك القوانين هي أولها قانون (القرابة) ينص على تنفيذ العقوبة بالجريمة السياسية ضد السلطة بالقريب الأول عند تعذر تنفيذها بمرتكبها، ثم تحميل باقي اقاربه عقوبات متدرجة حتى القريب الثالث0 وثانيها قانون (الأنتقاد) الذي ينص على تعرض منتقد الرئيس أو مجلسه أو حزبه لعقوبات تصل حد الأعدام0 وثالثها قانون (الأخبار) الذي ينص على معاقبة الذي يحجم عن اخبار السلطة عن نشاط ضدها (وأن لم يمارسه) بعقوبة تماثل مرتكبها0 وبتداخل تلك القوانين مع بعضها وأضافة كيمياء النذالة اللا محدودة والقسوة المباحة ومبدأ الجريمة كرديف للسلطة لها، أصبحت البلاد مزرعة خالصة يعيشها الناس بثلاثية لا أرى لا اسمع لا أقول الا ما يراه ويسمعه ويقوله قائد البلاد ورمزها الذي كتبت له أسماء بعدد أسماء ذي الجلالة تعالى وكتب القرآن بدمه وأصبح بعد هزيمة منكرة يسمى بعبد لله المؤمن ووضع الله أكبر في علمه الذي أرتكبت تحته شرور الجرائم وأقبح الأعمال0 وكان رصاصة قدمت من عهد همجي0 وشاء الكاذبون والدجالون والمطبلون من أعراب النفاق الذين أرتشوا أن يصدقوه، ولم تحركم نخوة أخوة ولم تهزهم صحة مباديء، ونسوا أؤلئك وغيرهم ان ذلك الكابوس زائل لأنه ضد الخير والأنسانية والتأريخ والعدل0 كما نسوا أن أعمار الطغاة قصار وما يبقى هو الشعب الذي ما رحموه في يوم كريه0
وتسيد ذلك الوغد وأنذاله الذين قالوا لا وطن بعدنا الا خراب، ورأى العالم لأول مرة وزيرا للنفط لم يكمل الدراسة الأبتدائية أصبح ايضا وزيرا للتعليم العالي ثم وزيرا للزراعة ثم وزيرا للصناعة ثم مشرفا عاما على جميع الوزارات0 وآخر وزيرا للدفاع كان سائقا لسيارة أجرة أشتهر بالقسوة المفرطة، يقتل الآلاف كالحشرات بالمبيدات الكيمياوية0 وآخر كان يبيع الثلج يكون نائبا لرئيس الوزراء0 وآخر كان موظفا يقطع التذاكر بمستوصف صحي يصبح رئيسا للوزراء0 وآخر كان أعلى رتبة شرطية وصل اليها رقيبا (بخيطين) يصبح وزيرا للداخلية0 وآخر ظهر بعد تحرير الشعب في شريط مرئي يستخدم العصى في العقاب والشتيمة للدين والاعراض وبالكاد يقرأ، يصبح مديرا للأمن المؤتمن على الحقوق والمحرمات في دولة (مزرعة) لا حقوق فيها ولا محرمات0 وتتكرر أسماء الجهلة والأميين في كثير من مناصب الدولة العليا يجمعهم عامل مشترك ويضمهم هاجس واحد هما النذالة وآصرة العار0 وصدق بعض العرب غباءً أو أرتشاءً ان هؤلاء سيحررون فلسطين0 وكان عامل التصديق قويا طالما انهم يجربون بغيرهم، لا بهم، فما أرخص ذلك التصديق وما أبأس أؤلئك الأغبياء؟
ولأنه نرجسي الخلق أيضا سلطوي النـزعة عشائري التركيب طائفي العقيدة جاهلي السليقة، فقد قرأ شيئا من سير الأوغاد في التأريخ0 فكان عليه كي يستمر في صنع ما دأب عليه كل مستبد طاغ فأبتدأ بشعارات حزبه التي أصبحت عنده (وحدة) لتفريق العرب و(حرية) لأستعباد الشعب و(أشتراكية) للعصابة في نهب البلد تحت شعار (رسالة خالدة) للقهر والغدر والكذب والعذاب0 ومات حزبه بعد ان سحب منه دماء الوقود الفكري والتناطح العقائدي، واي حزب (أو حركة) بلا طهارة أومباديء بعد ذلك لا يكون الا مافيا تمتهن الجريمة0 وكذلك كان حزبه أخيرا بعد أن بين زيف الهشاشة وهزم الخيرين فيه قتلا وأغتيالا اللذين ما أعتبروا يوم ذبح الثور الأبيض0 وبعد حزبه أتى الى الشعب المأسور والمغلوب، فخلق فيه أصطفافات رخيصة وتدرجات سامة: حزبية عرقية عنصرية طائفية مناطقية عشائرية قبلية أسرية0 وبذلك لم يبق من شعبه بعد ذلك الترشيح الوضيع والتغربل الخسيس (من أجل أن يسود في التفريق) الا أقل من واحد في المائة هم كم المنتفعين بالشر والضالين بالجريمة من أزلامه ومجرميه0 ولأنه منبوذ ومسلوخ ومحتقر من الشعب فقد كان عليه ان ينتصر بآخرين عليهم0 فكان الأنذال والمرتشين والحاقدين على شعب طيب لم يقدم لأمته الأ كل خير ولم تسجل عليه يوم شائبة عكس ذلك0 فكان اؤلئك المنبوذين حتى من شعوبهم والمحتقرين من أبناء أوطانهم سلاحه ضد شعبه0 فكانوا أقلام وأصوات يعرفها كل عراقي ويتذكرها بأشمئزاز وأحتقار عموم شعبه عدا اؤلئك الفئة الأقل من واحد في المائة، من الضالين والمنتفعين0
وفي زمن الجوع والعذاب بنيت أجمل قصور العالم وشيدت أكثر التماثيل سعرا أغلاها نوعا وقدمت الهبات والرشاوى الى جيران وأقارب وأجانب في زمن الجوع لأنه كان أيضا زمنا للقهر والنذالة والخسة والكذب والعذاب0 وأصبح الصدق عارا والشرف سبة والغيرة منقصة والطيبة غفلة والمباديء أتهاما0 وتناقل الناس همسا حكايات الأغتصاب وفنون التعذيب ومبتكرات القتل في مغارات القصور0 وأستبيحت البلاد للاوغاد من أخوة الداخل وأقارب الخارج0 وكان المال نفطا وذهبا وتبرا وكبريتا وغيره مباحا للجميع عدا أبن البلاد0 وتقاطر الأنذال وتكاتب وضيعي القلم واللسان مدحا بالجريمة وردحا في العذاب0 وصمت الآخرون0 وطرد المساكين من بيوت الوطن والأقارب وشتم من نادى مستجيرا بمرارة0
وبعد محاولات بائسة في تأخير يومه قادها وأججها المنتفعين من دم البلاد والشعب والمترفين من جوع أبناءه وتشريدهم، ومعهم بعض الأغبياء، وقف أبناء العاصمة يتفرجون شامتين وبحذر مبتهجين بسقوط الصنم0 وببضعة دبابات فقط سقطت لأول مرة في التأريخ مدينة عريقة عظيمة يسكنها ملايين معروف عن نخوتهم ومشهود بغيرتهم وللباطل رفضهم0 ترى لو كانوا غير شامتين وغير قابلين وليسوا بصمت مبتهجين، هل كان من الممكن ان تحتل مدينتهم؟ من يناقش أو يرفض نقول تذكر الرارنجية والنجف وخان ضاري في العشرين والأنتفاضة في التسعين وتذكر أيضا الكرامة وبور سعيد وجنين وجنوب لبنان0 وأنتصر الشعب على صنم العهر والنذالة والخسة والجريمة وبطل اللصوص0
وعاد طريدا الى من أين أتى مرفوضا يبات جوعانا بين الأقنان والزرائب، مشردا يقتل القطط ويخنق الدجاج ويراقب الغربان0 شيئا واحد يرضيه انه جعل الآخرين (الملايين) يقاسوا ما قاساه هو من اليتم والتشرد والعوز والجوع بعد أن أضاف اليه آلام التثكل والترمل ومرارة البؤس لؤلئك الملايين الذين ما كان لهم ذنب في ما عاشه وقاساه0 وسيذكره التأريخ بموعضة خالدة: أن من أتوا من مزابل الدنيا يذهبون الى مزابل التأريخ0