عاطف أحمد
&
&
أما سلمان غانم فهو يتبنى (في كتابه: "من حقائق القرآن" الفارابي 2000) منظومة معتقدات اشتراكية ثورية تؤمن بأن المجتمع يتكون من بنية قاعدية (تحتية) تتألف من علاقات الإنتاج وتفاعلها مع القوى المنتجة (وهى موضوع دراسة سابقة له) ومن بنية فوقية تشمل فيما تشمل المبدأ العام للسلطة السياسية (وهي موضوع دراسته الحالية) ص 19. وتؤمن بالجماعة وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفردية؛ كما تؤمن بالعلم و التفكير العلمي، وبالتقدم التاريخي والتحرر الإنساني الأممي.
&وقد وظف الكاتب تلك المنظومة في فهمه لطبيعة وخصائص الإسلام والقرآن. فهو يرى أن الرسول قد حقق ثورة جماعية اشتراكية تقوم على أساس جماعية العمل والتسيير الذاتي ومن ثم جماعية التوزيع التي يسودها التكافل والتعاون الطوعي. وهي ثورة استمرت حتى الفترة الثانية لعهد عثمان (23). وقد عبرت تلك الثورة عن تحول اجتماعي اقتصادي من مجتمع عبودي عشائري إلى مجتمع ذي خصائص اقطاعية.(24)
&وهو يرى كذلك أن القرآن تضمن حقوق الله على الناس و حقوق الناس التي أقرها لهم الله،و أحال السلطة الدنيوية إلى الجماعة: أن يتخذوا من دونه أولياء (الشورى : 9، 6 ).ص 34. وعلى ذلك فمن لا يمثل مصالح الجماعة،مهما كان فهو كافر (35 ).
&بل إننا نجد أن تلك المنظومة تؤدي به إلى تبني عدة أفكار شديدة الجرأة مثل :
&* أن حقوق الله الثابتة في الدنيا تؤول بعد وفاة الرسول إلى الجماعة،
* وأن المسلم هو كل معتنق لأي من الديانات السماوية التي تبناها الأنبياء و الحكماء والمصلحون
&
&* وأن مقياس الإيمان ليس العبادة،و إنما هو العمل على تحقيق مصلحة الجماعة،
&* وأننا لن نحوز الجنة في الآخرة ما لم نقم و نبني جنة الدنيا أولا،
&* وأن الحكم في الدولة الإسلامية هو لله بواسطة الجماعة (الأمه-الشعب المستخلف من الله)
&* ذوأن القاعدة الأساسية في الإسلام الأممي أن الدين واحد والشرائع شتى.

&فإذا كانت تلك عينة من تفكير سلمان غانم في المسألة الدينية، فكيف يفهم القرآن؟ لعله يدرك أن ثمة صعوبة خاصة ستواجهه لو أنه قرأ القرآن وفقا لبنيته اللغوية وسياق وقائعه، لذلك حدد منهجه التفسيري بأنه يقوم على استنباط الحكمة والمبدأ والغاية والمقصد واستخراجها من التنزيل الحكيم، من خلال التمسك بالمبادئ والقواعد الكلية. ذلك أن المطلوب&إنما هو استيعاب حقائق القرآن في نظرة كلية و متكاملة ومنسجمة ومتسامية إلى أبعد من شروحات وتفسيرات النصوص(55).
&لكن المسألة فيما يبدو ليست بتلك البساطة. إذ ما هي القواعد الكلية التي نستنبط من خلالها الغايات والمقاصد؟ وكيف نرد على من يرون أن الله قادر على الإفصاح عن مقاصده مباشرة دون حاجة إلي افتراضات و تخمينات للمعاني البعيدة؟
&لذلك نجد أن الكاتب يتأرجح كثيرا في قدرته على تقديم قراءة مقنعة.ويمكن ملاحظة أنه كلما اقترب من التفسير التحليلي للبنية اللغوية والسياق الموضوعي، كلما أصبح أكثر إقناعا. وهو يفعل ذلك عندما يبتعد عن الإسقاط الأيديولوجي.
&مثال ذلك نراه في قراءته لموضوعات: الحجاب؛ و زواج المتعة ؛ والخمر.
&ففي مسألة الحجاب، فإنه فضلا عن الإشارة إلى عادات الزي السائدة وقتئذ والتي هي ليست إسلامية المنشأ؛ يرى أن ما ورد في النص إنما هو توصية بالاحتشام لا أكثر ولأسباب معينة ترتبط بمواضعات اجتماعية خاصة، ويمضي قائلا :ان النص القائل "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب.." إنما الأمر فيه موجه إلي الرجال، فإذا أخذنا كلمة الحجاب بمعنى ارتداء زي معين، لوجب ذلك على الرجل وليس على المرأة. هذا من ناحية،ومن ناحية أخري،فإنه فيما يتعلق بالزينة،فإن ورود عبارة "إلا ما ظهر منها.." يعني أنه لا بد أن يظهر منها شيئ، إذ ما الذي يظهر إذا غطت جسمها بخيمة من جميع الجوانب.
&وأما في مسألة زواج المتعة، فإنه يلاحظ أن القرآن ينص صراحة عليه: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" ( النساء 24 ). ويرد على القول بأن هذه الآ ية نسختها آية "والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم..،( المؤمنون:5-7 )،بأن آية النسخ وردت بمكة، قبل آية زواج المتعة التي وردت بعد ذلك في المدينة.
وأما في مسألة الخمر، فهو يجري استقراء لغويا للمواضع التي وردت فيها ألفاظ "الاجتناب " و"التحريم" ليصل إلى نتيجة محددة هي أن الاجتناب أقل من، ولا ينطوي علي، التحريم.
&
&على أنه حين يناقش مسألة تعدد الزوجات، فإن رغبته في إثبات نفي الإسلام لها تجعله يتعنت في تفسير معنى "مثنى" و"ثلاث" و"رباع" فيجعلها تشير إلى صفة للنساء وليس إلى عدد، فيصبح معنى الآية( النساء 3 ) هو: إذا خفتم ظلم اليتامى، وهم بعيدون عنكم، فانكحوا أمهاتهم ممن هم على طفلين و ثلاثة أطفال وأربعة أطفال.. فمثنى وثلاث ورباع هنا تعني ثنائي وثلاثي ورباعي الأطفال، وليس اثنتين وثلاث وأربع زوجات. وهو إغراب في التفسير اللغوي لا داعي له، إذ أنه يكفي هنا أن يجعل التعدد مقصورا على أمهات اليتامى اللاتي بلا عائل. وأن يكون سبب التعدد هو الحرص على مصلحة اليتامى لا غير. وهو وضع اجتماعي في طريقه إلى الزوال في المجتمعات الحديثة.
&كذلك تدفعه الرغبة في الارتقاء بمفهوم الجنس والمتعة الجنسية إلى القول بأن المتعة الجنسية رزق عام من عند الله، ويدلل على ذلك بالنص القائل: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حلالا و حراما.." (59. يونس). بينما لا يوجد في الآية أدنى دليل أو حتى إشارة إلى أن الرزق هنا يشمل المتعة الجنسية، بل على العكس من ذلك،فالمتعة الجنسية،في القرآن لها شروط صارمة، وأوجه التحريم فيها أكثر من أوجه الإباحة،بينما الأمر ليس كذلك بالنسبة للرزق.
&على أن التعسف في التفسير يبلغ أقصى مداه حينما نقترب من المفاهيم ذات الطابع الأيديولوجي المباشر.
&فهو يقرأ في "وما أنزل إليك من الكتاب و الحكمة.." وفي "يؤتي الحكمة من يشاء"، دعوة صريحة إلى الوعي والحكمة (بمعنى الفلسفة).
&و يقرأ في سورة "العصر": "والعصر،إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" تبنيا للفكر الديني التقدمي الذي يقوم علي التواصي في الحق أي العلم.
&ويقرأ في البقرة 251: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، فيرى فيها إقرار من القرآن بالصراع الطبقي وسيلة لدفع الظلم وإحقاق العدل والمساواة.
&بل إنه يقرأ في "الرعد" و"الأنفال": " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فيرى فيها أنها إقرار بأنه لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. وهكذا تصل بنا القراءة الأيديولوجية إلى أن الله قد خلق عالم الإنسان على مذهب ماركس.
&
*

&وقد تصيبنا مثل تلك النتائج، في القراءات الثلاث، بدهشة من نوع ما في بعض الأحيان، وقد تجعلنا في أحيان أخرى نتصور أنها حلت بعض الإشكلات في النص الديني. لكن الواقع أنها قراءات متعسفة لذلك النص، يزداد تعسفها كلما اقتربت من الأيديولوجيا ؛ كما أنها قد تخفي بعض الإشكاليات الهامة حين تجرد النص من سياقه الثقافي واللغوي. وهي، بالإضافة إلى ذلك، تفتقد إلى معيار موضوعي لفهم النص، مما يفسح الطريق للرؤى الذاتية الخالصة؛ وأخيرا، فهي لا تقنع القارئ لأنه لا يجد، في كثير من الأحيان، أية علاقة وثيقة بين النصوص التي يوردها الكاتب وبين النتائج التي يستخلصها منها.
&لكن ذلك كله، لا ينفي، من ناحية أخرى، وبصرف النظر عن موافقـتنا لها أو خلافنا معها، أن تلك القراءات من شأنها أن توسع أفق رؤيتنا للنص الديني؛ وأن تطرح عليه تساؤلات فكرية واجتماعية ثرية ؛ و أن تقدم زوايا جديدة للنظر إلي بعض النصوص على الأقل. كما أنها، في نهاية المطاف، تنطوي على تأكيد لتعددية القراءة و الفهم، والتي هي مسألة غاية في الأهمية، خاصة بالنسبة للنصوص المؤسسة لثقافة ما.
&
&