سعد دود قرياقوس
&
&
&
لم تقتصر حملة الخداع الشامل التي شنَّتها الإدارة الأمريكية لتبرير حربها العدوانيَّة ضدَّ العراق واحتلاله على اتِّهام العراق بتطوير أسلحة الدمار الشامل وحيازتها، واحتضان المنظَّمات الإرهابيَّة، وعلاقته بمنظَّمة القاعدة تحديدًا فحسب، بل تضمَّنت أيضًا اتِّهامه بتهديد أمن شعوب المنطقة واستقرارها، على الرغم من عدم صدور ما يشير إلى وجود مثل تلك المخاطر عن دول المنطقة نفسها.
قدَّمت إدارة بوش، مستثمرة موقعها الدولي وقدراتها الابتزازيَّة، مشروع تغيير النظام السياسي في العراق كحلٍّ وحيد وضرورة حتميَّة لإزالة المخاطر العراقيَّة على الأمن القومي الأمريكي، وكضمان لأمن شعوب المنطقة واستقرارها السياسي، معتمدة تبريرات برهنت تجربة الاحتلال خلال الأشهر الثمان الماضية على ضلالتها. لقد أمسى زيف مبررات الحرب على العراق أمرًا مسلَّمًا به في ضوء فشل سلطات الاحتلال تقديم أدلَّة تدعم اتِّهاماتها وتحسم الجدل الدائر في مصداقيَّة حربها ومشروعيَّتها. والواقع أنَّ ضحالة الادِّعاءات الأمريكيَّة والبريطانيَّة كانت قد انكشفت قبل انطلاق الحمم "الديمقراطيَّة" على شعب العراق في آذار(مارس) الماضي. تكفي الإشارة إلى فضيحة ما أطلق عليه "الملفُّ البريطاني" المنتحل حرفيًّا من أطروحة أكاديميَّة قدَّمها أحد الطلبة العراقيِّين إلى جامعة أمريكيَّة عام 1994، وقدَّمته حكومة بلير دليلاً على ضلوع العراق في تطوير برامج تسليحيَّة، واعتمدته الإدارة الأمريكيَّة لاحقًا كجزء مهمٍّ من حيثيَّات قضيَّتها التلفيقيَّة ضدَّ العراق. كما وقد أشار إليه وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة كولن باول بحماس في عرضه الهزيل أمام مجلس الأمن.
هل شكَّل العراق حقًّا تهديدات لأمن شعوب المنطقة واستقرار أنظمتها؟
إنَّ المقايسة الأمينة للوضع السياسي والأمني لدول المنطقة خلال المراحل السابقة واللاحقة لاحتلال العراق، تقود إلى نتيجة مفادها بأنَّ مصداقيَّة المزاعم الأمريكيَّة المتعلِّقة بالمخاطر الأمنيَّة للعراق لا تختلف عن مصداقيَّة تلك المتعلِّقة بأسلحة الدمار الشامل، وتقود أيضًا إلى الاستنتاج في أنَّ المخطَّطات الأمريكيَّة وسياستها الخارجيَّة وتواجدها العسكري في المنطقة يشكِّلون العوامل الأكثر خطورة على أمن شعوبها واستقرارها ورفاهيَّتها.من الضروري قبل الاسترسال في مقايستنا، تسجيل ملاحظتين مهمَّتين.
&الأولى، أنَّ المخاطر الأساسيَّة الناجمة عن احتلال العراق لا تنحصر في كونه قاد إلى تكثيف التواجد الأمريكي المسلَّح في المنطقة، بل كونه الخطوة الأولى في مخطَّط تغيير المحتوى السياسي للمنطقة العربيَّة. وأنَّ احتلال العراق ما هو إلاَّ الخطوة الأولى في بناء القاعدة لتنفيذ الصفحات الأخرى من المخطَّط.
والملاحظة الثانية، هي أنَّ نجاح مشروع الاحتلال سيدفع العناصر المتعصِّبة في الإدارة الأمريكية للمضي قدما في تنفيذ مشروع تغيير النظم السياسيَّة في المنطقة باستخدام عناصر القوة العسكرية، هذا التغير قد يشمل كل من إيران والمملكة العربية السعوديَّة وسورية، الأنظمة ذاتها التي ادَّعت الإدارة الأمريكيَّة في أنَّ حكومة العراق تشكِّل تهديدًا لأمنها، وأنَّ إزالته يبعد عنها المخاطر.
لنتأمل بموضوعيَّة تامَّة موضوع التهديدات العراقيَّة! من نافلة القول أنَّ قدرات العراق العسكريَّة والاقتصاديَّة منذ انتهاء العمليَّات العسكريَّة لعدوان عام 1991، ولغاية استباحة القوَّات الأمريكيَّة بغداد، لم تكن بالمستوى الذي يؤهِّل العراق لتنفيذ عمليَّات عسكريَّة ضدَّ أيَّة دولة من دول الجوار. فالخنق الاقتصادي الذي تعرَّض له من جرَّاء الحصار الجائر، وتدهور العوائد النفطيَّة وسيطرة مجلس الأمن على تلك العائدات وتقييد استيرادات العراق من السلع والمعدَّات جعل من عمليَّة إعادة بناء القوَّات المسلَّحة عمليَّة مستحيلة. احتواء العراق لم يقتصر على الجوانب الاقتصاديَّة، بل رافقه احتواء عسكري صارم متمثِّل في مناطق حظر الطيران الذي فرضته القرصنة الأمريكيَّة والبريطانيَّة بشكل غير مشروع، هذه المناطق ساهمت في تقليص قدرات الجيش العراقي على المناورة والانتشار، وبالتالي انعدام قدرته على القيام بأيِّ جهد عسكري مؤثِّر.
إلى جانب الحقيقتين أعلاه، فإنَّ استقراء الوضع السياسي للعراق خلال السنين الخمس الماضية يتيح لنا الاستنتاج بأنَّه لم تكن للعراق أيَّة منافع سياسيَّة من تهديد أمن دول الجوار، بل على العكس تمامًا، فلقد سعت الحكومة العراقيَّة بشكل حثيث إلى الخروج من عنق الزجاجة، وكسر الطوق السياسي المفروض عليها. وعملت جاهدة على تحسين علاقاتها بدول الجوار، وتجاوز تداعيات الصراعات السابقة بما فيها محاولات إيجاد قنوات اتِّصال مباشر مع كل من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وبريطانيا.
الواقع أنَّ ذلك السعي قاد إلى تحسُّن كبير في علاقات العراق السياسية والاقتصادية بدول الجوار، باستثناء الكويت. فقد حافظ العراق على المستوى المتميِّز والمستقر للعلاقات الاقتصاديَّة والسياسيَّة مع كلٍّ من تركيا والأردن، في حين شهدت علاقاته بسورية تطوُّرًا جوهريًّا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، ونجح البلدان في تطبيع العلاقات الثنائيَّة بشكل هادئ، والتخلُّص من التراكمات السياسيَّة السابقة.
ونجح العراق وإيران في تسوية الجزء الأكبر من الملفَّات المعلَّقة، وتجاوزا تداعيات الحرب بشكلِ واعٍ وتوصلا إلى صياغة نمط جديد للعلاقة بين البلدين. كما وتوصَّل كلٌّ من العراق والمملكة العربيَّة السعوديَّة إثر مؤتمر القمَّة العربيَّة في بيروت إلى وضع خطوات عمليَّة لإعادة العلاقة بين البلدين من خلال تطوير التبادل التجاري، فحظيت الشركات السعوديَّة بتفضيل خاص وأولويَّة في عقود برنامج النفط مقابل الغذاء. والواقع أنَّ علاقة العراق بالكويت كانت قد دخلت مرحلة إزالة الحواجز النفسيَّة بعد قمَّة بيروت، وإثر اجتماع مسئولي البلدين والاتَّفاق على تصفية الملفَّات المعلَّقة. وكان بالإمكان تحقيق خطوات أكثر جديَّة لولا الهيمنة الأمريكيَّة المطلقة على القرار السياسي الكويتي.
&ثمَّة بديهة تاريخيَّة متَّفق عليها، قوامها أنَّ الدول الصغيرة نسبيًّا كالعراق لا تمتلك القدرات الكافية لخلق عوامل عدم الاستقرار السياسي والأمني، أو صنع حروب إقليميَّة الطابع كانت أم كونيَّة بمعزل عن خطط الدول الكبرى واستراتيجيَّاتها. ومن مراجعة التطوُّرات السياسيَّة في المنطقة خلال العقود الخمس المنصرمة، نستطيع إرجاع عوامل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة إلى عاملين أساسين. الأوَّل، يتمثَّل في المشروع الصهيوني الاستيطاني واغتصابه للأراضي العربيَّة في فلسطين وسورية ولبنان، وفي شعاره التوراتي التوسُّعي في بناء إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. فقد أفرز الوجود الإسرائيلي اللاشرعي في المنطقة وما يزال أخطارًا جسيمة على أمنها ورفاهية شعوبها، وقادت حروبه العنصريَّة العدوانية على الأقطار العربيَّة بدعم مباشر من الحكومات الأمريكيَّة المتعاقبة وحلفائها الأوربيِّين إلى نتائج كارثيَّة عانت منها شعوب المنطقة.
والثاني، يكمن في السياسية الخاطئة التي اتبعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال العقود الست المنصرمة، والتي ساهمت في تهديد التوازن السياسي في المنطقة من خلال عدائها السافر لتطلُّعات العرب، وتحالفها الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، وتوفير الغطاء السياسي الدولي لممارساته اللاشرعيَّة التعسفيًّة. وساهمت كذلك سياسية الطاقة الخاطئة للولايات المتَّحدة واعتمادها النفط كأحد مرتكزات الأمن القومي الأمريكي في خلق العديد من عوامل التأزُّم السياسي في المنطقة، وفي تغذية النزاعات الإقليميَّة لضمان عدم نجاح دولها في تنسيق سياسات إنتاج النفط وتسويقه وتسعيره. فحروب المنطقة، مهما اختلفت أسبابها الظاهريَّة وتعدَّدت، كانت وما تزال نفطيَّة الطابع.
من السهل ملاحظة تصاعد حدَّة التوتُّر وعدم الاستقرار الإقليمي والدولي منذ الأشهر الأولى لسيطرة القبيلة المتشِّددة في الحزب الجمهوري على القرارين السياسي والعسكري في واشنطن، إثر نجاح الانقلاب الأبيض ووصول بوش الثاني لسدَّة الرئاسة، والشروع في تنفيذ "مشروع قرن أمريكي جديد" بكلِّ أبعاده النفطيَّة والليكوديَّة، واستثمار مؤامرة الحادي عشر من سبتمبر لتنفيذ مشاريع التوسُّع والهيمنة.
لقد غالى مصمِّمو الحرب العدوانيَّة على العراق في طرح فكرة تغيير النظام السياسي فيه كضمان لترسيخ عناصر الأمن والاستقرار في المنطقة، وبالغوا في إبراز التأثيرات الإيجابيَّة للتغيير على الاستقرار الأمني والسياسي للمنطقة والعالم. لنتأمَّل تداعيات احتلال العراق على أمن المنطقة بعد ثمانية أشهر من استباحة العراق والسيطرة عليه! ولنبدأ من تأثيراته في المملكة العربيَّة السعوديَّة التي تمرُّ في أحرج مرحلة منذ تأسيسها. فأثر احتلال العراق والانسحاب الأمريكي السريع والمفاجئ من أراضيها، شهدت المملكة سلسلة من التفجيرات والمواجهات المسلَّحة الدمويَّة مع عناصر المعارضة، وشهدت أيضًا ضغوطًا سياسيَّة ودينيَّة تهدف إلى تغيير الهيكل السياسي القائم في المملكة. هذه التحدِّيات السريعة والمتزامنة مع احتلال العراق شكَّلت تهديدًا لأمن المملكة واستقرارها السياسي والاجتماعي، لقد سبق للمملكة أن واجهت تحدّيات أمنيَّة وشهدت عمليَّات عنف خطرة، إلاَّ أنَّ طبيعة تلك العمليَّات تختلف جذريًّا عن طبيعة العمليَّات الأخيرة، فالتفجيرات السابقة استهدفت المنشآت العسكريَّة الأمريكيَّة حصرًا كتعبير عن رفض التواجد العسكري الأمريكي، والذي اعتبرته قطاعات سعودية تحدِّيًا وخرقًا لقيم المملكة العربيَّة والإسلاميَّة. في حين أنَّ الأحداث الأخيرة استهدفت مؤسَّسات الدولة والمنشآت الاجتماعيَّة الأخرى، وشكَّلت تهديدًا مباشرًا لمصالح العائلة المالكة والإطار السياسي للمملكة.
في الوقت الذي كانت فيه الحكومة السعوديَّة ما تزال تعاني من أثر صدمة العنف والمواجهات المسلَّحة، هزَّت اسطنبول انفجارات عنيفة لم تألفها تركيا من قبل أنهت شهر العسل الطويل، وحالة الاستقرار السياسي والأمني التي عاشتها تركيا خلال العقدين الماضيين. وقد أشرت هذه الأحداث بداية مرحلة سياسيَّة جديدة تتَّسم بالعنف والعنف المضاد بشكل يهدِّد المعادلات السياسيَّة التركية ويعيدها إلى مرحلة عدم الاستقرار التي عانت منها خلال مرحلة الستينيَّات من القرن الماضي.
إنَّ طبيعة الاختراقات الأمنية التي تعرَّضت لها كلٌّ من تركيا والمملكة العربيَّة السعوديَّة وتوقيتها، بغضِّ النظر عن طبيعة الجهات المنفِّذة لها وأهدافها ونتائجها، لا يمكن تفسيرها بمعزل عن تطوُّرات احتلالي العراق وفلسطين.
ولم تقتصر الآثار السلبيَّة لاحتلال العراق على كلٍّ من السعوديَّة وتركيا، بل شكَّلت أيضًا تهديدات أكثر خطورة على أمن كلٍّ من إيران وسورية واستقراهما. فإيران التي شكلَّت القطب الثالث لما أطلق عليه بوش الثاني "محور الشر"، لا يخفي مخطِّطو السياسة التوسعيَّة الأمريكيَّة نوايا التحرُّك باتجاه بحيراتها النفطيَّة مستخدمين تبريرات شبيهة بتلك التي ساقوها لتبرير حربهم على العراق، ابتداء من ملفّ مفاعل بوشهر، مرورًا بدعم واحتضان المنظَّمات الإرهابيَّة، وانتهاء بملفَّات حقوق الإنسان ومطالب التغيير الديمقراطي.
الواقع أنَّ تهيئة المسرح الداخلي لعمليَّة تكوين التحالفات الكفيلة بإسقاط حكومة طهران قد بدأت بالتبلور ودخلت مرحلة الإعداد. ومن سخريات القدر أن تضمَّ هذه التحالفات بشكل شاذ ابن الشاه السابق وحفيد مؤسِّس الدولة الإسلاميَّة حسين الخميني المتنقِّل حاليَّا بين بغداد وواشنطن. ولا شكَّ في أنَّ قرارات تضيق الخناق على حكومة طهران والجدول الزمني للتحرُّك الفعلي ضدَّها متوقِّفة على العديد من الاعتبارات الإقليميَّة والدوليَّة، في مقدِّمتها تطوُّرات المشهد العراقي، ونجاح احتلال العراق أو فشله، ونجاح الرئيس الأمريكي في الاحتفاظ بالرئاسة.
وصعَّد الاحتلال الأمريكي للعراق من حجم المخاطر الأمنيَّة التي يتعرَّض لها الأمن الوطني السوري. فالتواجد العسكري الأمريكي في العراق، وضع سورية بين مخلبين متوحِّشين، وحرم سورية من عمقها الاستراتيجي الطبيعي. فلقد تعرَّضت سورية منذ الأيَّام الأولى للاحتلال إلى ضغوط أمريكيَّة وإسرائيليَّة منسَّقة، وتصعيدًا سياسيًّا وعسكريًّا بدأت ملامحه في التبلور من خلال الاستفزازات العسكريَّة الإسرائيليَّة، والعقوبات الاقتصاديَّة التي فرضها الكونغرس الأمريكي على سورية، وهنالك العديد من المؤشرات تدل على احتمال تفاقم الضغوط الأمريكيَّة والإسرائيليَّة على سورية خلال المرحلة المقبلة، لدفعها لتقديم تنازلات حاسمة في مواقفها المساندة للشعب الفلسطيني، والمعارضة للاحتلال الأمريكي للعراق، بالإضافة إلى دفعها لعقد تسوية مجحفة في مرتفعات الجولان المحتل.
خلاصة القول، لقد أحدث احتلال العراق فراغًا أمنيًّا كبيرًا في قلب المنطقة الاستراتيجيَّة المعقَّدة. هذه الفجوة الأمنيَّة مرشَّحة للتوسُّع في ظلِّ العلاقات السياسيَّة والاجتماعيَّة المتشابكة، وفي ظلِّ الصراع الدولي القائم بين أوروبا والولايات المتَّحدة بشكل لن تستطيع الولايات المتَّحدة التعامل معه والسيطرة عليه.
لقد اختارت الإدارة الأمريكيَّة بخبثٍ مسرح العراق لتجريب مشروعها الاستعماري وحربها الاستباقيَّة وتنفيذه، ويزعم أركان الإدارة الأمريكيَّة مؤخَّرًا أنَّ العراق قد أصبح بؤرة المواجهة الرئيسة مع الإرهاب، وليس ميدان ِّ المواجهة بكامله. فالميدان الكلي للحرب على الإرهاب وطبقا لما يطرحه أمراء الظلام في واشنطن يشمل أجزاءَ كبيرة من العالم العربي والإسلامي.
&لقد برهنت تطوُّرات احتلال العراق وتفاعلاته خلال الأشهر الثمان الماضية عمق المأزق الأمريكي، وعجز الإدارة عن التعامل مع تحدِّيات المقاومة العراقيَّة، وعلى استحالة خلق النموذج المسخ الذي حلمت بتطبيقه في العراق. كما برهنت التجربة عن عدم قدرة القرار الأمريكي على التعامل مع تعقيدات المنطقة الاجتماعيَّة وعدم قدرتها على حصر الفجوة الأمنية التي أفرزها احتلال العراق وتقليصها.
التهديد الأكثر خطورة لأمن المنطقة واستقرارها نابع من تحالف الشرِّ بين الكيان الصهيوني والولايات المتَّحدة ومن الأطماع الأمريكيَّة في احتكار الثروة النفطيَّة لشعوب المنطقة، والهيمنة على خياراتها، وليس نابعًا من العراق وغيره من دول المنطقة.
قدَّمت إدارة بوش، مستثمرة موقعها الدولي وقدراتها الابتزازيَّة، مشروع تغيير النظام السياسي في العراق كحلٍّ وحيد وضرورة حتميَّة لإزالة المخاطر العراقيَّة على الأمن القومي الأمريكي، وكضمان لأمن شعوب المنطقة واستقرارها السياسي، معتمدة تبريرات برهنت تجربة الاحتلال خلال الأشهر الثمان الماضية على ضلالتها. لقد أمسى زيف مبررات الحرب على العراق أمرًا مسلَّمًا به في ضوء فشل سلطات الاحتلال تقديم أدلَّة تدعم اتِّهاماتها وتحسم الجدل الدائر في مصداقيَّة حربها ومشروعيَّتها. والواقع أنَّ ضحالة الادِّعاءات الأمريكيَّة والبريطانيَّة كانت قد انكشفت قبل انطلاق الحمم "الديمقراطيَّة" على شعب العراق في آذار(مارس) الماضي. تكفي الإشارة إلى فضيحة ما أطلق عليه "الملفُّ البريطاني" المنتحل حرفيًّا من أطروحة أكاديميَّة قدَّمها أحد الطلبة العراقيِّين إلى جامعة أمريكيَّة عام 1994، وقدَّمته حكومة بلير دليلاً على ضلوع العراق في تطوير برامج تسليحيَّة، واعتمدته الإدارة الأمريكيَّة لاحقًا كجزء مهمٍّ من حيثيَّات قضيَّتها التلفيقيَّة ضدَّ العراق. كما وقد أشار إليه وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة كولن باول بحماس في عرضه الهزيل أمام مجلس الأمن.
هل شكَّل العراق حقًّا تهديدات لأمن شعوب المنطقة واستقرار أنظمتها؟
إنَّ المقايسة الأمينة للوضع السياسي والأمني لدول المنطقة خلال المراحل السابقة واللاحقة لاحتلال العراق، تقود إلى نتيجة مفادها بأنَّ مصداقيَّة المزاعم الأمريكيَّة المتعلِّقة بالمخاطر الأمنيَّة للعراق لا تختلف عن مصداقيَّة تلك المتعلِّقة بأسلحة الدمار الشامل، وتقود أيضًا إلى الاستنتاج في أنَّ المخطَّطات الأمريكيَّة وسياستها الخارجيَّة وتواجدها العسكري في المنطقة يشكِّلون العوامل الأكثر خطورة على أمن شعوبها واستقرارها ورفاهيَّتها.من الضروري قبل الاسترسال في مقايستنا، تسجيل ملاحظتين مهمَّتين.
&الأولى، أنَّ المخاطر الأساسيَّة الناجمة عن احتلال العراق لا تنحصر في كونه قاد إلى تكثيف التواجد الأمريكي المسلَّح في المنطقة، بل كونه الخطوة الأولى في مخطَّط تغيير المحتوى السياسي للمنطقة العربيَّة. وأنَّ احتلال العراق ما هو إلاَّ الخطوة الأولى في بناء القاعدة لتنفيذ الصفحات الأخرى من المخطَّط.
والملاحظة الثانية، هي أنَّ نجاح مشروع الاحتلال سيدفع العناصر المتعصِّبة في الإدارة الأمريكية للمضي قدما في تنفيذ مشروع تغيير النظم السياسيَّة في المنطقة باستخدام عناصر القوة العسكرية، هذا التغير قد يشمل كل من إيران والمملكة العربية السعوديَّة وسورية، الأنظمة ذاتها التي ادَّعت الإدارة الأمريكيَّة في أنَّ حكومة العراق تشكِّل تهديدًا لأمنها، وأنَّ إزالته يبعد عنها المخاطر.
لنتأمل بموضوعيَّة تامَّة موضوع التهديدات العراقيَّة! من نافلة القول أنَّ قدرات العراق العسكريَّة والاقتصاديَّة منذ انتهاء العمليَّات العسكريَّة لعدوان عام 1991، ولغاية استباحة القوَّات الأمريكيَّة بغداد، لم تكن بالمستوى الذي يؤهِّل العراق لتنفيذ عمليَّات عسكريَّة ضدَّ أيَّة دولة من دول الجوار. فالخنق الاقتصادي الذي تعرَّض له من جرَّاء الحصار الجائر، وتدهور العوائد النفطيَّة وسيطرة مجلس الأمن على تلك العائدات وتقييد استيرادات العراق من السلع والمعدَّات جعل من عمليَّة إعادة بناء القوَّات المسلَّحة عمليَّة مستحيلة. احتواء العراق لم يقتصر على الجوانب الاقتصاديَّة، بل رافقه احتواء عسكري صارم متمثِّل في مناطق حظر الطيران الذي فرضته القرصنة الأمريكيَّة والبريطانيَّة بشكل غير مشروع، هذه المناطق ساهمت في تقليص قدرات الجيش العراقي على المناورة والانتشار، وبالتالي انعدام قدرته على القيام بأيِّ جهد عسكري مؤثِّر.
إلى جانب الحقيقتين أعلاه، فإنَّ استقراء الوضع السياسي للعراق خلال السنين الخمس الماضية يتيح لنا الاستنتاج بأنَّه لم تكن للعراق أيَّة منافع سياسيَّة من تهديد أمن دول الجوار، بل على العكس تمامًا، فلقد سعت الحكومة العراقيَّة بشكل حثيث إلى الخروج من عنق الزجاجة، وكسر الطوق السياسي المفروض عليها. وعملت جاهدة على تحسين علاقاتها بدول الجوار، وتجاوز تداعيات الصراعات السابقة بما فيها محاولات إيجاد قنوات اتِّصال مباشر مع كل من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وبريطانيا.
الواقع أنَّ ذلك السعي قاد إلى تحسُّن كبير في علاقات العراق السياسية والاقتصادية بدول الجوار، باستثناء الكويت. فقد حافظ العراق على المستوى المتميِّز والمستقر للعلاقات الاقتصاديَّة والسياسيَّة مع كلٍّ من تركيا والأردن، في حين شهدت علاقاته بسورية تطوُّرًا جوهريًّا على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، ونجح البلدان في تطبيع العلاقات الثنائيَّة بشكل هادئ، والتخلُّص من التراكمات السياسيَّة السابقة.
ونجح العراق وإيران في تسوية الجزء الأكبر من الملفَّات المعلَّقة، وتجاوزا تداعيات الحرب بشكلِ واعٍ وتوصلا إلى صياغة نمط جديد للعلاقة بين البلدين. كما وتوصَّل كلٌّ من العراق والمملكة العربيَّة السعوديَّة إثر مؤتمر القمَّة العربيَّة في بيروت إلى وضع خطوات عمليَّة لإعادة العلاقة بين البلدين من خلال تطوير التبادل التجاري، فحظيت الشركات السعوديَّة بتفضيل خاص وأولويَّة في عقود برنامج النفط مقابل الغذاء. والواقع أنَّ علاقة العراق بالكويت كانت قد دخلت مرحلة إزالة الحواجز النفسيَّة بعد قمَّة بيروت، وإثر اجتماع مسئولي البلدين والاتَّفاق على تصفية الملفَّات المعلَّقة. وكان بالإمكان تحقيق خطوات أكثر جديَّة لولا الهيمنة الأمريكيَّة المطلقة على القرار السياسي الكويتي.
&ثمَّة بديهة تاريخيَّة متَّفق عليها، قوامها أنَّ الدول الصغيرة نسبيًّا كالعراق لا تمتلك القدرات الكافية لخلق عوامل عدم الاستقرار السياسي والأمني، أو صنع حروب إقليميَّة الطابع كانت أم كونيَّة بمعزل عن خطط الدول الكبرى واستراتيجيَّاتها. ومن مراجعة التطوُّرات السياسيَّة في المنطقة خلال العقود الخمس المنصرمة، نستطيع إرجاع عوامل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة إلى عاملين أساسين. الأوَّل، يتمثَّل في المشروع الصهيوني الاستيطاني واغتصابه للأراضي العربيَّة في فلسطين وسورية ولبنان، وفي شعاره التوراتي التوسُّعي في بناء إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. فقد أفرز الوجود الإسرائيلي اللاشرعي في المنطقة وما يزال أخطارًا جسيمة على أمنها ورفاهية شعوبها، وقادت حروبه العنصريَّة العدوانية على الأقطار العربيَّة بدعم مباشر من الحكومات الأمريكيَّة المتعاقبة وحلفائها الأوربيِّين إلى نتائج كارثيَّة عانت منها شعوب المنطقة.
والثاني، يكمن في السياسية الخاطئة التي اتبعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال العقود الست المنصرمة، والتي ساهمت في تهديد التوازن السياسي في المنطقة من خلال عدائها السافر لتطلُّعات العرب، وتحالفها الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، وتوفير الغطاء السياسي الدولي لممارساته اللاشرعيَّة التعسفيًّة. وساهمت كذلك سياسية الطاقة الخاطئة للولايات المتَّحدة واعتمادها النفط كأحد مرتكزات الأمن القومي الأمريكي في خلق العديد من عوامل التأزُّم السياسي في المنطقة، وفي تغذية النزاعات الإقليميَّة لضمان عدم نجاح دولها في تنسيق سياسات إنتاج النفط وتسويقه وتسعيره. فحروب المنطقة، مهما اختلفت أسبابها الظاهريَّة وتعدَّدت، كانت وما تزال نفطيَّة الطابع.
من السهل ملاحظة تصاعد حدَّة التوتُّر وعدم الاستقرار الإقليمي والدولي منذ الأشهر الأولى لسيطرة القبيلة المتشِّددة في الحزب الجمهوري على القرارين السياسي والعسكري في واشنطن، إثر نجاح الانقلاب الأبيض ووصول بوش الثاني لسدَّة الرئاسة، والشروع في تنفيذ "مشروع قرن أمريكي جديد" بكلِّ أبعاده النفطيَّة والليكوديَّة، واستثمار مؤامرة الحادي عشر من سبتمبر لتنفيذ مشاريع التوسُّع والهيمنة.
لقد غالى مصمِّمو الحرب العدوانيَّة على العراق في طرح فكرة تغيير النظام السياسي فيه كضمان لترسيخ عناصر الأمن والاستقرار في المنطقة، وبالغوا في إبراز التأثيرات الإيجابيَّة للتغيير على الاستقرار الأمني والسياسي للمنطقة والعالم. لنتأمَّل تداعيات احتلال العراق على أمن المنطقة بعد ثمانية أشهر من استباحة العراق والسيطرة عليه! ولنبدأ من تأثيراته في المملكة العربيَّة السعوديَّة التي تمرُّ في أحرج مرحلة منذ تأسيسها. فأثر احتلال العراق والانسحاب الأمريكي السريع والمفاجئ من أراضيها، شهدت المملكة سلسلة من التفجيرات والمواجهات المسلَّحة الدمويَّة مع عناصر المعارضة، وشهدت أيضًا ضغوطًا سياسيَّة ودينيَّة تهدف إلى تغيير الهيكل السياسي القائم في المملكة. هذه التحدِّيات السريعة والمتزامنة مع احتلال العراق شكَّلت تهديدًا لأمن المملكة واستقرارها السياسي والاجتماعي، لقد سبق للمملكة أن واجهت تحدّيات أمنيَّة وشهدت عمليَّات عنف خطرة، إلاَّ أنَّ طبيعة تلك العمليَّات تختلف جذريًّا عن طبيعة العمليَّات الأخيرة، فالتفجيرات السابقة استهدفت المنشآت العسكريَّة الأمريكيَّة حصرًا كتعبير عن رفض التواجد العسكري الأمريكي، والذي اعتبرته قطاعات سعودية تحدِّيًا وخرقًا لقيم المملكة العربيَّة والإسلاميَّة. في حين أنَّ الأحداث الأخيرة استهدفت مؤسَّسات الدولة والمنشآت الاجتماعيَّة الأخرى، وشكَّلت تهديدًا مباشرًا لمصالح العائلة المالكة والإطار السياسي للمملكة.
في الوقت الذي كانت فيه الحكومة السعوديَّة ما تزال تعاني من أثر صدمة العنف والمواجهات المسلَّحة، هزَّت اسطنبول انفجارات عنيفة لم تألفها تركيا من قبل أنهت شهر العسل الطويل، وحالة الاستقرار السياسي والأمني التي عاشتها تركيا خلال العقدين الماضيين. وقد أشرت هذه الأحداث بداية مرحلة سياسيَّة جديدة تتَّسم بالعنف والعنف المضاد بشكل يهدِّد المعادلات السياسيَّة التركية ويعيدها إلى مرحلة عدم الاستقرار التي عانت منها خلال مرحلة الستينيَّات من القرن الماضي.
إنَّ طبيعة الاختراقات الأمنية التي تعرَّضت لها كلٌّ من تركيا والمملكة العربيَّة السعوديَّة وتوقيتها، بغضِّ النظر عن طبيعة الجهات المنفِّذة لها وأهدافها ونتائجها، لا يمكن تفسيرها بمعزل عن تطوُّرات احتلالي العراق وفلسطين.
ولم تقتصر الآثار السلبيَّة لاحتلال العراق على كلٍّ من السعوديَّة وتركيا، بل شكَّلت أيضًا تهديدات أكثر خطورة على أمن كلٍّ من إيران وسورية واستقراهما. فإيران التي شكلَّت القطب الثالث لما أطلق عليه بوش الثاني "محور الشر"، لا يخفي مخطِّطو السياسة التوسعيَّة الأمريكيَّة نوايا التحرُّك باتجاه بحيراتها النفطيَّة مستخدمين تبريرات شبيهة بتلك التي ساقوها لتبرير حربهم على العراق، ابتداء من ملفّ مفاعل بوشهر، مرورًا بدعم واحتضان المنظَّمات الإرهابيَّة، وانتهاء بملفَّات حقوق الإنسان ومطالب التغيير الديمقراطي.
الواقع أنَّ تهيئة المسرح الداخلي لعمليَّة تكوين التحالفات الكفيلة بإسقاط حكومة طهران قد بدأت بالتبلور ودخلت مرحلة الإعداد. ومن سخريات القدر أن تضمَّ هذه التحالفات بشكل شاذ ابن الشاه السابق وحفيد مؤسِّس الدولة الإسلاميَّة حسين الخميني المتنقِّل حاليَّا بين بغداد وواشنطن. ولا شكَّ في أنَّ قرارات تضيق الخناق على حكومة طهران والجدول الزمني للتحرُّك الفعلي ضدَّها متوقِّفة على العديد من الاعتبارات الإقليميَّة والدوليَّة، في مقدِّمتها تطوُّرات المشهد العراقي، ونجاح احتلال العراق أو فشله، ونجاح الرئيس الأمريكي في الاحتفاظ بالرئاسة.
وصعَّد الاحتلال الأمريكي للعراق من حجم المخاطر الأمنيَّة التي يتعرَّض لها الأمن الوطني السوري. فالتواجد العسكري الأمريكي في العراق، وضع سورية بين مخلبين متوحِّشين، وحرم سورية من عمقها الاستراتيجي الطبيعي. فلقد تعرَّضت سورية منذ الأيَّام الأولى للاحتلال إلى ضغوط أمريكيَّة وإسرائيليَّة منسَّقة، وتصعيدًا سياسيًّا وعسكريًّا بدأت ملامحه في التبلور من خلال الاستفزازات العسكريَّة الإسرائيليَّة، والعقوبات الاقتصاديَّة التي فرضها الكونغرس الأمريكي على سورية، وهنالك العديد من المؤشرات تدل على احتمال تفاقم الضغوط الأمريكيَّة والإسرائيليَّة على سورية خلال المرحلة المقبلة، لدفعها لتقديم تنازلات حاسمة في مواقفها المساندة للشعب الفلسطيني، والمعارضة للاحتلال الأمريكي للعراق، بالإضافة إلى دفعها لعقد تسوية مجحفة في مرتفعات الجولان المحتل.
خلاصة القول، لقد أحدث احتلال العراق فراغًا أمنيًّا كبيرًا في قلب المنطقة الاستراتيجيَّة المعقَّدة. هذه الفجوة الأمنيَّة مرشَّحة للتوسُّع في ظلِّ العلاقات السياسيَّة والاجتماعيَّة المتشابكة، وفي ظلِّ الصراع الدولي القائم بين أوروبا والولايات المتَّحدة بشكل لن تستطيع الولايات المتَّحدة التعامل معه والسيطرة عليه.
لقد اختارت الإدارة الأمريكيَّة بخبثٍ مسرح العراق لتجريب مشروعها الاستعماري وحربها الاستباقيَّة وتنفيذه، ويزعم أركان الإدارة الأمريكيَّة مؤخَّرًا أنَّ العراق قد أصبح بؤرة المواجهة الرئيسة مع الإرهاب، وليس ميدان ِّ المواجهة بكامله. فالميدان الكلي للحرب على الإرهاب وطبقا لما يطرحه أمراء الظلام في واشنطن يشمل أجزاءَ كبيرة من العالم العربي والإسلامي.
&لقد برهنت تطوُّرات احتلال العراق وتفاعلاته خلال الأشهر الثمان الماضية عمق المأزق الأمريكي، وعجز الإدارة عن التعامل مع تحدِّيات المقاومة العراقيَّة، وعلى استحالة خلق النموذج المسخ الذي حلمت بتطبيقه في العراق. كما برهنت التجربة عن عدم قدرة القرار الأمريكي على التعامل مع تعقيدات المنطقة الاجتماعيَّة وعدم قدرتها على حصر الفجوة الأمنية التي أفرزها احتلال العراق وتقليصها.
التهديد الأكثر خطورة لأمن المنطقة واستقرارها نابع من تحالف الشرِّ بين الكيان الصهيوني والولايات المتَّحدة ومن الأطماع الأمريكيَّة في احتكار الثروة النفطيَّة لشعوب المنطقة، والهيمنة على خياراتها، وليس نابعًا من العراق وغيره من دول المنطقة.
التعليقات