بعث إلي الأكاديمي والشاعر السعودي الصديق الدكتور إبراهيم عباس نتو مؤخرا بقصيدة عصماء يشيد فيها بمناقب الأم تريزا التي رحلت عن عالمنا في عام 1997، وذلك بمناسبة تسمية الفاتيكان لها بالقديسة في أكتوبر المنصرم. هذه القصيدة الجميلة مضمونا وصياغة ذكرتني برسالة استلمتها قبل سنوات من أحد القراء العرب يسألني فيها عن سر الاحتفاء العالمي الكبير بهذه السيدة و سبب نجوميتها الطاغية، طالما أن نشاطها ارتبط بالهند تحديدا، وطالما أني أحد الذين يكتبون باستمرار عن الشئون الهندية في الصحافة العربية. وأردف القارئ الكريم سؤاله المذكور بجملة تساؤلات من قبيل : ألا يوجد في عالمنا الإسلامي من هو صنو للأم تريزا في نشر الخير والمحبة ورعاية المحتاجين ونصرة الضعفاء والمحرومين ومحاربة الفقر والمرض؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فلماذا لم نسمع عنهم كثيرا ولم يحتف بهم عالميا ولم تسلط الأضواء الإعلامية علي شخوصهم؟ هل السبب هو الاعلام الغربي المهيمن الذي يعادي المسلمين فلا يعطيهم حقهم من التقدير والعرفان ويبخل عليهم حتي بضوء شمعة واحدة، أم أن هناك أسبابا أخري؟
والحقيقة أني سألت نفسي هذه الاسئلة مرارا منذ أن بدأت وسائل الإعلام في نقل أخبار ونشاطات الأم تريزا في كلكتا عاصمة ولاية البنغال الغربية الهندية وغيرها من المدن. وكم تمنيت أن يخرج من بين ظهرانينا من هو (أو من هي) في مستوي تضحياتها ومناقبها وإيثارها وإقرانها القول بالعمل وعشقها للبذل بصمت وترفعها عن صغائر الأمور، خاصة وأننا - مثلما نقول في كل محفل ومناسبة- أمة مجبولة علي الكرم والتسامح ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف وغيرها من الصفات البراقة والنعوت الحميدة التي قلما تترجم الي واقع ملموس.
وبعيدا عن نظريات المؤامرة التي لم يعد هناك مجال إلا واقحمناها فيه دفعا لتهم الإخفاق والفشل عن أنفسنا، نقول إن أحد أهم أسباب عظمة الأم تريزا يكمن في أنها حينما وهبت نفسها وعقلها وقلبها وكامل جوارحها لأعمال الخير، انطلاقا من إيمان عميق ومتجدد بأن ذلك هو رسالة الإنسان المؤمن وطريقه للتقرب من الخالق، إنما أسبغت علي سلوكها وتعاملاتها سمة ربما لا يشاركها فيها الكثيرون من نشطاء الخير عندنا. أما هذه السمة فليست سوي شمولية النظرة نحو أصحاب الحاجة، بمعني أنها جعلت خيرها ينسحب علي الجميع وماعونها يغرف منه كل ذو حاجة دونما اكتراث بلون الأخير أو عرقه أو طائفته أو عقيدته الدينية. فالفقر والحاجة والجوع والتشرد، بعد ذلك، لا يعترف بتلك التقسيمات وبالتالي لا يخص بالألم والمعاناة والحرمان طائفة دون أخري.
إن عظمة الأم تريزا وشهرتها المدوية، حتي فيما بعد وفاتها، وإجماع العالم بمختلف طوائفه وعقائده علي احترامها جاءت من هذه الخصوصية المسلكية تحديدا والتي سمحت لها، وهي الفقيرة المسنة، أن تحصل علي صدقات وتبرعات لم يعرف تاريخ الأعمال الخيرية مثيلا لها في ضخامتها وتنوع مصادرها ( قدرت مصادر مصرفية في كلكتا المعدل السنوي لما كان يرسل إليها في الهند وحدها بمائتي مليون دولار) وأن تعفي من القوانين الهندية الخاصة بالتحويلات المالية من والي داخل الهند.
فكم ناشطا عربيا أو مسلما في مجال العمل التطوعي الخيري ياتري التزم في نشاطه بالابتعاد عن التمييز وحرص علي أن يشمل خيره الجميع دون تفرقة؟
المؤلم حقا إننا تمييزيون وأنانيون حتي في أعمال الخير التي يجب ألا تنزع عنها الصفة الإنسانية مهما كانت الحجج والمبررات. فان حفرنا بئرا أو أقمنا مدرسة أو افتتحنا مستوصفا في الخارج، فإننا نحرص علي أن يكون مردوده ونفعه وخيره موجها الي من يدينون بعقيدتنا وحدهم دون سواهم من البشر الذين قد يكونون في حاجة اشد للإغاثة والعون. وقد تكون الحجة أن أصحاب العقائد الأخري لهم من هم علي دينهم ممن يملكون اكثر منا. لكن أليس في هذا المنحي نوع من التمييز الذي يمحي جزاء العمل الخيري ويتنافي مع قيم الإسلام الحقيقية وحربه ضد التمييز والعنصرية؟ ثم أليس في تحرير أنشطتنا الخيرية من ثوب التمييز الممقوت تشجيع لمن لا يدينون بديننا علي التعرف علي الجوانب المضيئة من عقيدتنا وأخلاقنا وترغيبهم فيها؟
ولعل ما يزيد المرء ألما هو أننا في سعينا الي القيام بأعمال الخير، لا نستثني من الخير من هم ليسوا علي ديننا فحسب، وإنما نتوسع في استثناءاتنا بصورة بدائية حتي تطال من يدينون بالإسلام نفسه لكن وفق مذهب آخر. وبعبارة أخري فان فاعل الخير السني مثلا لا يرضيه أن يلحق خيره بأصحاب المذهب الجعفري من المحتاجين والمعوزين، بل يفضل في أحايين كثيرة ألا ينفق علي أن ينفق فيستفيد مسلم ليس علي مذهبه. والعكس صحيح. وما الصورة المخجلة التي تصاحب إخراج وتوزيع زكاة الفطر في بعض البلاد العربية إلا دليل حي علي تمسكنا بمنهج التمييز المذهبي حتي في صدقاتنا. وإذا كان هذا يحدث بالنسبة لزكاة الفطر التي هي في النهاية مجرد تصدق بسيط ومتواضع ولا يسمن أو يغني من جوع، فما بالك حينما يتعلق الأمر بصدقة أكبر حجما كزكاة الأموال.
ومؤخرا ارتفعت أصوات المثقفين في بلد عربي محذرة من الآثار التدميرية لهذه الظاهرة ومطالبة بوضع حد لما وصفته بالعار، وذلك بعدما ازدادت أعداد الجمعيات الخيرية المغلفة من الخارج بمبادئ التسامح والتكافل الإسلامي، فيما هي مبطنة من الداخل بكل صور الكراهية الطائفية. فهي لئن كانت تعمل بنشاط وفعالية من اجل مساعدة الأسر الفقيرة وتخفيف أعبائها، إلا أنها تركز مساعداتها علي من يتبعون مذهبها حصرا، بل تفضل تجميد الأموال الفائضة لديها في المصارف الإسلامية أو إرسالها الي من يدينون بمذهبها في الخارج البعيد علي أن توسع دائرة أعمالها وخدماتها الخيرية لتشمل مواطنيها وشركائها في الوطن والمصير الواحد من أصحاب المذهب الإسلامي المنافس.
وجملة القول، أنه قبل أن نتساءل لماذا لم تلد بلادنا العربية والإسلامية ناشطة في مجال الخير وتخفيف الآلام مثل الأم تريزا، شهرة ومكانة واحتراما، علينا أن نتحرر من اتخاذ العقيدة الدينية معيارا لتحديد من يستحق العون والرحمة ساعة بذل الخير والعطاء. وقتها فقط يمكن أن نقدم نماذج علي شاكلة تلك السيدة الألبانية العظيمة، أو ربما أفضل منها، فيحترمنا العالم ويضطر اضطرارا الي تسليط أضوائه عليها. أما دون ذلك فسوف نبقي كمن يستشيط غضبا وحسدا من نجاحات وشهرة الآخرين، فلا يجد أمامه سوي المزايدة الجوفاء أو إلقاء تبعات فشله وتخلفه وعصبيته علي أشباح هنا وهناك لا وجود لها إلا في مخيلته المريضة المسكونة بنظرية المؤامرة.