د. خالد الطراولي
&
&
&

توطئة
يقول أحد المسؤولين الأمريكيين: "أن الأوراق الآن كلها متطايرة في الهواء، وسيكون من المثير معرفة من سيكون قادرا على اغتنام الفرص الاستراتيجية الراهنة"[ ]. ولا نرى فرصة أكبر وأعمق من هذه، رغم جلل المصيبة، من فهم الآخر، ونقد الذات، وتجاوز نقاط الخلاف والاختلاف. وهي فرصة استراتيجية بين حضارتين، ساهمت كلاهما في بناء الصرح الحالي للبشرية. حضارة غابت في ثنايا التاريخ الذي لا يرحم ترهّلا ولا تقاعسا، وأخرى قائمة أعطت للإنسانية الكثير من التقدم والنجاح، رغم بعض الانتكاسات والنقائص. وهي فرصة إستراتيجية بين شعوب هذه الحضارات، لفهم كلاهما الآخر وتفهم آفاقه ومصالحه، وكنه تاريخه وجغرافيته، ومعرفة مرجعيته وهويته، والوعي الكامل بما يصبو إليه ويحنّ إلى ملامسته والتعلق به.
لم يعد جادّا ولا مفيدا أن يعرف كلا الطرفين الآخر عن طريق الوسائط، سواء كان هذا الوسيط تاريخا مغشوشا، كتبته أقلام جائرة وعقول جاهلة وأحوال معادية، أو وسائل إعلام، مشاهَدة أو مقروءة أو مسموعة، غابت في بعضها المصداقية والموضوعية، وشابها البعض منها غموض وجهل، وغلبت على أطراف أخرى السياسوية الضيقة، والمصالح الآنية، الفردية أو المجموعاتية. ولن تكون مقولة صدام الحضارات المزعوم سوى مجرد موضة مثل حرب الأكوان ولن تتعدى أن تكون صداما للجهالات المبنية على الجهل المتبادل والاختزال واللعب على المشاعر والعواطف[ ].
لقد ظلت نظرات التبسيط والتهميش للآخر سمة غالبة في العلاقة بين الطرفين مما أعاق الفهم والتفهم المتبادل، وغلّب الأنا والعنجهية، يقول إدوارد سعيد معلقا:" لا نبالغ القول أن العرب والمسلمين تتم تغطيتهم الإعلامية أساسا بوصفهم موردي بترول أو إرهابيين محتملين. أما تفاصيل الحياة العربية الإسلامية والكثافة الشعورية الإنسانية وزحمها النابض فلم يدخل إلا النزر اليسير منها في وعي أولئك الذين احترفوا تغطية العالم الإسلامي والإبلاغ عنه."[ ]
لقد انهارت القطبية القديمة التي حملتها لعقود كل من أمريكا والاتحاد السفياتي، وكانت قطبية مغشوشة فعناصر القوة كانت في جهة واحدة من مادة وروح، وكان الطرف الثاني لا يحمل تحت عباءته سوى تقدم تكنولوجي فضفاض، لا يستند إلى قاعدة اقتصادية متطورة ومستقلة، ولا إلى رباط روحي بين أفراده يملأ الفراغات ويدفع بالإرادات والعزائم إلى مواطن العمل والتضحيات والوقوف. وقد عرفت أمريكا مكامن ضعف منافسها، فدفعت السباق التكنولوجي إلى مستويات رفيعة ومكلفة، جعلت الطرف المقابل يفقد كل الخيارات غير الانهيار المادي بعدما تم منذ عقود السقوط الروحي.
ليس قدر هذه القطبية الجديدة التي بدأت تنسج أطرافها بين أمريكا والإسلام، المواجهة والصدام، بل أن سبل التواصل والتكامل عديدة وهي أكثر نفعا للطرفين، ولن يكون التباغض والصراع مجديين، ولن يكون هناك رابح بالكلية لأن القطبين مختلفين ولكنهما متكاملين أشد التكامل، ولكل منهما حاجة مستعجلة لإكمال نقصه وضعفه سواء كان نقص أخلاق أو روحانيات، أو اجتماعيات، أو سكينة من جهة، أو ضعف مادة ونمو وازدهار وتقدم ومعرفة من جهة أخرى.
الظاهرة الإسلامية حقيقة قائمة
ليس خافيا على أحد، ولا ينكره إلا جاهل أو متجاهل، أن العالم الإسلامي شهد منذ القرن الماضي صحوة إسلامية عارمة، صحبت عمليات الاستقلال السياسي لبلدانها، وكان الخطاب الإسلامي ملازما لهذا الانعتاق ولو باحتشام في البعض منها، وقد رفعته ألوية إسلامية، وكذلك علمانية لمصالح وصولية ولو لبعض الحين. وتواصلت هذه الصحوة في نموها، وأخذت في الغالب منحا سياسيا ومطالباتيا معارضا، وحملتها ووظفتها حركات سياسية لبلوغ محطة التمكين، فهي إطارها وهدفها، ووصل منها من وصل وكان قليلا (إيران والسودان)، ورُمي بالبعض في غيابات السجون، وغلب على البقية الوقوف على أعتاب البرلمانات أو تجاوزها باحتشام طوعا أو كرها.
و رغم المواجهات التي قوبلت بها هذه الصحوة، والشكوك و الارتياب الذي كثيرا ما صاحبها، إلا أن وجودها وتواصل انتشارها أصبح حقيقة لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها. ولو ألقينا نظرة سريعة إلى العالم الإسلامي، لرأينا مدى الزخم الجماهيري لهذه الظاهرة، وتماسك أطرافها، وتجاوب بعضها البعض، مع ما يمس الأمة جميعها من مكاره، وما يحفّها من بشارات رغم قلتها. حتى أصبحت بعض القضايا المحلية، قضايا عالمية تتبناها الأمة عبر هذه الصحوة. ولعل تجاوز الظاهرة الإسلامية من محطة الصحوة التي امتدت طيلة قرن من الزمن، إلى مرحلة جديدة، أطلق عليها مرحلة اليقظة الإيمانية، وما صاحبها من عودة كبيرة للجماهير بكل طبقاتها وأجناسها، يؤكد على هذا المعطى الجديد في أي معادلة للتغيير والتعارف داخلا وخارجا.
ليس حديثنا استعراضا للقوة، فأسباب الضعف كثيرة، غير أننا أردنا لفت الانتباه، إلى هذا العامل الأساسي والرئيسي لفهم هذه الشعوب، وتبيان أحسن الطرق وأسلمها، وكنه أفضل الأساليب وأكفأها، لربط علاقات سليمة وناجحة، بين شعوب مختلفة، لمصلحة أرقى وأنجع للبشرية جمعاء.
إن العامل الإسلامي لهذه الشعوب لا يمكن تجاوزه، فهو ليس طفرة عابرة، أو موضة زائلة، أو ثورة ستخفت شرارتها، أو عودة ستضمر بشارتها. بل هو لقاء بين جماعة وتاريخها، بعد طول فراق، وهو لقاء بينها وبين حاضرها، بعد طول جهل وعدم وعي، وهو لقاء مع مستقبلها، بعدما أيقنت بفشل ما جرّبت وعقم ما حملت. عودة الوعي هذه، بدمج التاريخ والحاضر والآتي، تشكل عنصر القوة والصلابة والاستمرار لهذه الظاهرة، وتملي للآخرين التعامل معها بكل هذا الوضوح والصفاء والنجاعة المتبادلة.
الصحوة و اليقظة والحركة الإسلامية
يعبر هذا الثالوث عن تمثيل متشابك ومستقل في نفس الوقت للحالة الإسلامية، فإذا كانت الصحوة الإطار الجامع والتفعيل التاريخي لمبادئ وإرهاصات أحلام وأفكار وآمال رواد النهضة، فإن الحركة الإسلامية الإصلاحية مثلت في الكثير من مراحلها إطارا تنظيميا وحركيا لتوظيف هذه الصحوة نحو منازل التمكين والتيسير، كما عبرت اليقظة الحالية التي بدأت بسبك نسيجها، على إعادة الاعتبار لدور الأمة ولبناء الفرد و التقليل من التغول السياسي الذي كثيرا ما طغى في المحطات السابقة حيث هيمن التغيير السلطاني على مقتضيات التغيير القرآني.
إن هذه الصحوة قد أطلقتها، واصطحبتها منذ ولادتها، وساهمت في نشرها، حركات سياسية وروحية ودعوية، ساهمت كلها من زوايا معينة وبدرجات مختلفة، في تكوين أفرادها روحا وعقلا، وفي توعيتهم بتراثهم وبحاضرهم. وكان لكل هذه الحركات نصيب في محطات البناء لتصورات الظاهرة وأطروحاتها، وفي هدم الرؤى المخالفة. وفي هذا الإطار يورد فهمي هويدي تقسيما لقطاع الصحوة إلى أربع قطاعات: قطاع منظم و مُسيّس، وهو مجموع الحركات الإسلامية السياسية، وقطاع مُنظّم وغير مُسيّس كالطرق الصوفية وحركات التبليغ والدعوة، وأفراد مستقلين، وقطاع غير منظّم وغير مُسيّس، وهم جموع المتدينين التي ملأت المساجد وتعلّقت بالشعائر من حج وعمرة وحجاب[ ]. ويمثل هذا الفصيل الأخير مكونات اليقظة الإيمانية الحالية.
&وفي غياب الأمة الجامعة والواعية والحاملة للمشروع وممثله الحقيقي، وهو ما تعرضنا له في مقال سابق[ ]، فإن ماصطُلح على تسميته بالإسلام السياسي، كان أكثر وجودا إعلاميا وحضورا ميدانيا. ولو اعتبرنا تقسيما للأدوار بين مختلف الحركات، لرسمنا ترتيبا عموديا بينها، يجعل من الحركات السياسية الطرف الأعلى والمحطة الأخيرة، لبلورة التصور الإسلامي الشامل، وفي تكوين أفراد الصحوة عقلا وروحا، دينا ودنيا.
فإذا خلصنا إلى علاقة الأمومة والتبني بين الصحوة الإسلامية والحركات السياسية الإسلامية، وجب الاعتراف بأن هذه التمثيلية للظاهرة الإسلامية، تجعل،وفي الغياب الفعلي للأمة، من هذه الحركات الناطق الرسمي عنها، وأيسر السبل للتعاطي معها، وفهم حاضرها وآفاقها، وبلورة تصوراتها.
إن هذه الحركات السياسية، وهي الرافعة ليافطة التمثيل لهذه الصحوة المتعاظمة، وبالرغم من استقلالية اليقظة الإيمانية الحالية عنها، تعتبر مؤهلة لخوض الحوارات، باسم الحالة الإسلامية عموما، وربط العلاقات مع أطراف المجتمع المحلي والدولي، ووجب عليها رفع شعار المصالحة والتسامح والوضوح، لبناء علاقات متينة على كل المستويات وفي كل السبل.
من هذا المنطلق، فإن هذه العودة إلى الإسلام الفطري، وتمدد اليقظة الإيمانية واكتساحها لعديد البقاع، والتي زادتها دعما العشرية الأخيرة، يؤكد على الفرضيات التالية:
1.&أن الإسلام كعامل ثقافي وحضاري، يمثل هوية ومرجعية صلبة العود، وشديدة العمق في ذهنية مواطن العالم الإسلامي.
2.&أن المرجعيات المختلفة التي انطلقت من أرحام غير أرحام هذه الشعوب، لفهم تاريخها وحاضرها، لإعطاء حلول وأجوبة ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، قد تبيّن فشلها. وكان الفشل ثقافيا بفقدان المرجع، فتلاه تشرذم وانبتات وهبوط للأخلاق. وكان الفشل سياسيا بتكريس الدكتاتوريات، فلا تكاد تجد واحة ديمقراطية من المحيط إلى المحيط، وكأن قدر هذه الشعوب كان محتوما. وكان الفشل اجتماعيا بهيمنة الطبقية والجهويات، وما نجرّ عنه من فساد ومحسوبية. وكان الفشل اقتصاديا بما شاهدته من انهيار لإصلاحات مزعومة، وعقم كل التجارب التنموية التي أُسقطت على هذه المجتمعات.
3.&إن تأثر هذه الشعوب بالعاطفة الدينية، والتي تثبتها عديد المظاهر العامة والخاصة، يجعلها دائما مهيأة لقبول أيّ خطاب ذي مرجعية دينية واتباع أصحابه. وهذا ما أدركته عديد الحركات والأحزاب العلمانية، من اليمين واليسار في هذه البلدان، بتوظيفها لهذا البعد الديني في جانبه الاجتماعي، عبر التلويح من هنا وهناك بالهوية العربية الإسلامية لهذه الشعوب، واعتبار الدين (في مفهومه الشعائري والفردي) قاسما مشتركا للجميع. وتعالت صيحات وشعارات مثل "الدين لله والوطن للجميع" لتؤكد هذا المنحى، رغم ما يُظهره هذا الإسقاط من عدم وفاق بين مرجعية المدّعي والمرجعية الإسلامية في بعدها الشمولي. وهو كذلك اعتراف غير مباشر، بعمق هذا البعد في نفسية هذه الشعوب، وفي تشكّل ماضيها وحاضرها ومستقبلها. غير أن هذه الأحزاب رغم احترامنا لأفكارها وتصوراتها، ومساندتنا لتواجدها، فهو حقها المشروع في التعبير والممارسة، فإنها تبدو مغايرة للأصل، رغم التوفيق والترقيع. ليبقى الإسلام الديمقراطي خير ممثل وأحسن حامل ومعبّر، عن هذه العاطفة الدينية الجيّاشة لهذه الشعوب.
هذه العوامل تدعّم التمكّن الإسلامي داخل هذه المجتمعات، تاريخا وحاضرا ومستقبلا. وأن أيّ تقارب ناضج لفهمها، أو ربط علاقات معها لمصلحة الرابط والمرتبط، ولمصلحة الوفاق العالمي وازدهاره، يمر عبر علاقة مباشرة مع هذه المجتمعات المسلمة. والتي تمثل الصحوة أحد تعبيراتها المعاصرة، واليقظة الإيمانية الحالية تأكيدا لعمقها وسلميتها، والحركات الإسلامية الديمقراطية، خير ممثل لطموحاتها ونجاح مساراتها، وخير شريك لأي علاقة بين الشرق والغرب.
وهذا لا يعني طمس الحركات السياسية الأخرى، فوجودها حق وضرورة لنجاح التعدد في ظل ديمقراطية البناء والتداول. غير أنه من خلال فهمنا لتطورات مجتمعاتنا وتاريخها، وحبا في سلام عالمي، واستقرار ورفاهة لكل دوله ومجموعاته وأفراده، فإننا نزعم أن هذا الخير الجماعي لن يتمّ إلا إذا تفهّم الجميع، حق الجميع في السلام والرشاد والازدهار. وعوض أخذ السبل الملتوية، والحلول القصيرة النظر، وتجاوز المعقول لمصلحة العاطفة والمنقول، فإن الأفضل والأسلم، والأجدى، والأنفع والأكثر واقعية، أن تلعب أمريكا ورقة الإسلام الديمقراطي، لمصلحتها ومصلحة العالم الإسلامي، ومصلحة العالم عموما، وقد عودتنا ببراغماتيتها وواقعيتها.
حول الإسلام الديمقراطي
لقد راهن الغرب بكل تنوعاته في أيامه السابقة على ماصطُلح على تسميته بالإسلام التقليدي، والممثل خاصة في بعض الحكومات القائمة. ويبدو أن الأحداث الأخيرة قد خيبت آمال هذا التحالف حسب بعض المقرّبين في البيت الأمريكي، وتعالت أصوات من هنا وهناك منددة بما أسمته أوكارا للتطرف. ولعل المناداة الآن بورقة الإسلام الديمقراطي كرهان جديد، تبدو مجازفة منا، فيها الكثير من الصلف والتعنّت وتجاوز المعقول، وتخطي الواقع. ولعله طلبا للمستحيل، خاصة وأن الظرف الحالي بما أفرزه من احتياط وحذر وتخوف من كل نعت إسلامي، يحجّم من مقولتنا ويقزّم أبعادها ويهمّش واقعيتها.
غير أننا نرى أن الإسلام الديمقراطي هو حلّ واقعي وعملي وبعيد النظر، ولعله الحلّ الوحيد. ولعله الحلقة المفقودة بين الشرق والغرب، وهمزة الوصل المنشودة بين الأمن والسلام والاستقرار والازدهار لكل الأفراد والجماعات. على أن هذا يستدعي وجود عامل هام وشرط أساسي، مفقود في طرحنا وهو عامل الثقة المتبادلة، وهذا لا يُبنى في لحظة، ولا يُطالَب به جانب دون آخر. ومن أجل إيجاده وتنزيله هناك شروط وجب على الطرفين احترامها:
1.&الوضوح والشفافية في مستوى المصطلح والممارسة: علينا أولا تحديد ما نعنيه بالإسلام الديمقراطي، فرغم ما أفرزه التنظير الإسلامي في هذا الباب من تعدد للآراء والأطروحات، فإنه يمكن حصرها اختصارا إلى رافض للديمقراطية، أو مقلص لدورها، أو قابل لأدواتها وغير نافر لمبادئها. بين متحدث عن ديمقراطية، أو شورى، أو حتى شورقراطية[ ]. ولن نفتح باب التقديم والترجيح والنقد لهذا أو ذاك، فهذا مما لا تتحمله هذه الورقة، فاللقاء بين الديمقراطية والإسلام لقاء قديم، حملته أقوال وأفعال، منها المقدَّس ومنها المنقول والمعقول. غير أننا نوجز قولنا بأننا نرى جدارة تبني الديمقراطية، وأن هذا لا يعارضه عقل ولا نقل، وأنه فيه صلاح الأمة وخيرها، وخير البشرية ورفاهتها. وأنه إذا كان بغير الإسلام يزهق روح الأمة، فبدون الديمقراطية يحبط عملها[ ]. وليس إلحاق النعت الديمقراطي بالإسلام هو استنقاص لكامل، ولكن ارتأينا ذلك للتمييز بين هذا الإسلام الذي ندعو إليه ونتبناه، و"الإسلامات" الأخرى المطروحة على الساحة. كما نرى أن الديمقراطية كآلية وتنظيم نجد أطرها ومبادئها العامة في روح الإسلام ومقاصده دون لوي لمبادئه أو إخماد لثوابته.
نخلص من هذا أنّ ما نعنيه بالإسلام الديمقراطي، هو مشروع حضاري إصلاحي سلمي، ينطلق من مرجعية إسلامية، ويمثل اجتهادا بشريا، لإعطاء حلول للمجتمعات القائمة، في كل مستويات الظاهرة الإنسانية. وهو ينبذ العنف والتغيير القسري، ولا يعتبرهما مطية صالحة للتمكين والاستبدال والتعارف الحضاري.
وهو يتبنى الديمقراطية مبدأ ومنهجا ومؤسسة، يعتمدها في تشكل إطاره وفي تكوّن آليات قراراته، وفي تنزيل آرائه وأطروحاته. لا يعنيه التمكن السلطاني، بأكثر مما يعنيه تغيير المجتمعات وعقلياتها، بالكلمة الطيبة والحجة الواضحة والمنطق السويّ.
وهو يعتبر التعدد والتنوع والتناوب وعدم الإقصاء السياسي، أساسا مبدئيا للتعامل الحضاري، ويرى في التعاون والتعارف وتوازن المصالح بين الشعوب والدول، خير سبيل للسلام العالمي والرفاهة الروحية والمادية لكل أطرافه، أيا كانت معتقداته وأديانه.
وهو لا يعادي الحضارة الغربية، بل يعتبرها عصارة جهد البشرية على مدى قرون، ساهم فيها المسلمون وساهم غيرهم، من زوايا مختلفة وبرؤى متباينة. وهو بذلك يعتبر نفسه أحد أركانها التاريخية، وأنه مطالب بتبنيها إذا لم يظهر فيها خلل أو انفلات، ومطالب بتصحيح مسارها بالعلم والمعرفة والكلمة الطيبة والقدوة الحسنة، إذا رأى فيها نقصا أو اعوجاجا عن المسار الصحيح، الذي يرتضيه كل عقل سليم، وكل نفس صادقة ومخلصة لرفاهة البشرية جمعاء. فممّا يروى في الصحيحين من حديث الزهري عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فرّق بعد "[ ]
2 المصالحة مع الغرب: ونعني بها إلقاء جسور اللقاء والتعارف والتعاون والتفاهم، بين أطراف ساهم التاريخ والجهل والتجاهل، والأحكام المسبقة والوعي الناقص والعنجهية، في توليد أفكار وممارسات، غلب عليها سوء الظن والخوف، والحيطة والتآمر، والتنافر والعداء. وهي تعني أن كلا الطرفين ساهم في نبذ الآخر ومعاداته.
ولن أكون مجحفا إذا قلت أن الحركة الإسلامية في العموم تحمل قسطا وافرا في هذا التنافر. فلقد كانت قراءاتها وأطروحاتها كثيرا ما تجعلها في ضفة والغرب في الضفة الأخرى، مما جعل نقاط اللقاء قليلة أو معدومة، زيادة على منطق الأستاذية الحضارية و الأخلاقية الذي حفلت بها مكتباتها، وكنزتها عقول أفرادها، والتي غابت في العديد من ممارساتها، والتي نفرّت الآخر منها، وغيبت إيجابياته عنها.
وتتمثل هذه المصالحة المنشودة في: المصالحة الحضارية، والمصالحة الثقافية، والمصالحة الاقتصادية، والمصالحة السياسية. وهي مصالحة مبدئية لا ترتبط بظرف ولا بمصلحة ضيقة أو آنية.
فالمصالحة الحضارية تعني أن التدافع الحضاري الذي هو أحد أسس التقدم والسير إلى الأمام، ليس بالضرورة صراعا ومواجهة ونزالا، كما نظّر له هنتنغتون في صراع الحضارات، وتبعه دون تروّ بعض السياسيين لاحقا. بل هو تجاذب وتلاقح وتعارف وحوار، ينجر عنه ولادة الأصلح والأسلم والأكفأ والأفضل لكل البشر.
والتدافع القرآني هو "الحركة الاجتماعية التي تبتغي إعادة العلاقات إلى مستوى ولحظة التوازن ثانية، مع الاحتفاظ بالتعددية والتمايز للفرقاء المختلفين، هنا يكون الدفع ولا يكون الصراع، لأن الصراع يقتضي نفي الآخر بصرعه وإنهاء وجوده والانفراد والواحدية"[ ]
و من معاني هذا التدافع، التداول والتناوب في مستوى الحضارات والدول والأفراد والأفكار. وهي سنّة ربانية تجعل من الديمومة والثبات صفة ملازمة للذات الإلهية وخاصة به دون غيره، وما سواه قابل للتغيّر والتطوّر والفناء. ومن معاني التدافع كذلك، وجود مجموعات متباينة في عالمنا، قطريا كان أو جهويا أو دوليا أو حضاريا، وأننا نشترك مع الآخر في هذه الرقعة (قطر/جهة/عالم). مما يولد ضرورة التعاون والتفاهم للمصلحة المشتركة التي تؤطرها هذه الرقعة.
والمصالحة الثقافية تطمح إلى تدعيم فكرة التعدد والتنوع الثقافي، الذي يمثل ثروة على مستوى البلد الواحد والجهة والإقليم والعالم. وقد أثبت الغرب الأوروبي منذ مدة حرصه على تجنب الثقافة الواحدة والتقليد الأوحد في الفنون المرئية والمسموعة والمكتوبة، حتى يتسنى تنوع المصادر وتباين التعابير. فحتى الثقافة الأمريكية التي يشار إليها عادة بنعوت الهيمنة وصفات القطبية، لا تمثل إلا نتاجا لهذا التنوع المثري الذي حمله مهاجروها، ومازالوا يحملونه على مدى قرنين من الزمن، والذي ساهم في تكوّن هذه الثقافة التي عمّت المعمورة، ووحّدت نموذج الحياة، من أنماط استهلاك وإنتاج واستثمار.
والمصالحة الاقتصادية تعني تجنب تكريس المصالح الأحادية، وممارسات الاستيلاء والاستحواذ، التي غمرت فترات من تاريخنا المشترك، ولم تولّد غير الخوف والحيطة وعقلية التآمر، ونماذج التنمية المغشوشة. و تدفع اليوم للانتقال إلى مرحلة توازن المصالح، في إطار هذه القرية الكونية، وفي ظل عولمة زاحفة، لا مرد لسلبياتها سوى التعارف والتعاون، والإنصاف في تقاسم ثمراتها.
والمصالحة السياسية تؤكد على التحاق المشروع الإسلامي بركب التعامل الديمقراطي، بما يحمل هذا التصور من التمكن المبدئي لعقلية التناوب والتعدد والبناء. وهو في الحقيقة إظهار وإبراز لهذا المنحى الذي يمثل عنصرا ثابتا في التصور الإسلامي لعملية التمكين نصا وتاريخا وجغرافيا. غير أن ظروفا غير عادية، داخلية وخارجية، وأسبابا معقدة، ساهمت في تهميش مبدأ المشاركة الديمقراطية، الذي يحمله مفهوما الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لحساب تصورات وممارسات أخرى، نظل نعتبرها أخطاء صغر ومراهقة، وبداوة سياسية، واريناها التراب نهاية.
السؤال العصيب!
ليس غريبا ولا غبيّا أن يدور بخلدنا سؤال، لعله يقضّ مضاجعنا ويرجّ قناعاتنا ويهمس في هدوء إلى ألبابنا: وهل الإسلام الديمقراطي حقيقة أم خيال؟ هل حمله كيان قائم وإطار جامع، أم أن وجوده معدوم، وعنوانه غير معلوم، رغم وجود الساعي والمرسِل، ليبقى طرحنا في مجال الأماني والآمال والأحاديث الشاذة؟
لن أكون صادقا إذا جزمت بتمكّني الكامل من الإجابة، غير أني أزعم أن للرد مستويين:
&في الواقع الملموس، فإن بعض الحركات الإسلامية المتواجدة في بعض البلدان الإسلامية داخل البرلمانات أو على أعتابها، في صفوف المعارضة المعلنة أو غير المعترف بها، تنتهج الطرح الديمقراطي وتقبل بالتعدد والتناوب، رغم بعض الخدش في داخل الجهاز والوهن في آليات القرار. وهذا الصنف يمكن التعويل عليه لرفع شعار الإسلام الديمقراطي، إذا وقعت بعض المراجعات وخاصة في الجانب الداخلي بتركيز البعد المؤسساتي في عملها، لتصبح الديمقراطية منهجا للتعامل الداخلي والخارجي، وتغليب عقلية القبول بالآخر فكرا وممارسة.
&وفي المستوى الثاني فإن طرحنا هو أمل ودعوة، لتكريس هذا الخطاب الديمقراطي والتخلي نهاية عن خلافه، وهذا يتطلب كثيرا من العناء والصبر والمجاهدة لتغيير العقليات القائمة والممارسات الموجودة. وفي هذا المستوى فإن بعض الحركات الإسلامية التي تتبنى الديمقراطية في خطابها الحالي، لا يزال الكثير من ممارساتها يشوبه عدم المبدئية، وفي خطابها الازدواجية و عدم الوضوح. وهذا الفصيل مطلوب منه الحسم الراديكالي في خياراته ولو أدى في داخله إلى ثورة بيضاء تغير الوجوه والرجال، لإعطاء مصداقية أكبر لتوجهاته الجديدة وليُطمئن شركائه بهذا الطرح المغاير، إذ أنها تمثل أفكارا جديدة، برجال جدد، وعقلية مختلفة.
إن ثقتنا في صلاح أمرنا وأمر العالم الذي من حولنا، عبر تبنينا بوضوح لمبدئية الديمقراطية في العمل، هو نقطة الفصل بين عالم منشود وآخر مردود لا يقبله عقل ولا نقل، وهذه الثقة في أنفسنا وفيما نحمله من خير لهذه البشرية هو أساس كل نجاح وفلاح، " من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير، فقدهم كل ثقة بأنفسهم، وهو من أشد الأمراض الاجتماعية وأخبث الآفات الروحية. لا يتسلط هذا الداء على إنسان إلا أوذي به ولا أمة إلا ساقها إلى الفناء، وكيف يرجو الشفاء عليل يعتقد بحق أو بباطل أن علته قاتلته! "[ ].
وبعد، مصافحة وأمل!
إن ما تمرّ به الأمة في هذه الأيام العصيبة، من تشتت و تخلف وترهل ومناورات وجراحات، رغم شدته وقسوته، فهو تعبير عن عمق المأساة ولكنه أيضا يحمل بصيصا من الأمل للمراجعة والتقييم والنقد والتجاوز، فهو "منبّهات ومحرّضات حضارية، تحمل بصائر الحاضر، وبشائر المستقبل، قال تعالى: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" [آل عمران 172]، وذلك إذا ما أحسنّا قراءاتها بأبجدية سليمة، وأدركنا الخلل الفكري الذي أورثنا هذه المصائب والبلايا" [ ]
إن حديثنا يندرج في هذا الباب الساعي إلى التجاوز والبناء، بناء مع الآخر وليس ضده، لخير الجميع، مجموعات وأفرادا. ولن تقلع الأمة إذا كانت سفينتها تحمل راية القراصنة أو المعتدين، ولن يفلح العالم إذا لم يتفهم عقلية ركابها ومصداقية وأصالة ربانها الحقيقيين.
هذا مارتأيناه لشعوبنا، شرّقت أو غرّبت، وهو تأكيد على مصداقية الطرح الإسلامي الديمقراطي في مدّ يده للضفة الأخرى لتختلط الضفاف، وتعبير على مبدئية طرحه بعيدا عن الضبابية والحينية والسياسوية الضيقة، من أجل إيجاد مناخ ثقة وطمأنينة متبادلة بين أطرافٍ، ساهم التاريخ القريب والبعيد في تشتيتها. وهو عودة إلى أصول ديننا التي شابها في بعض أزمنته خلط وتجاوز، ليبقى تكريم الإنسان، وتعارف الشعوب، دعوة ربانية وواجبا شرعيا ومدنيا، مطالب بتحقيقه وتنزيله المسلم قبل غيره.
ويبدو أن أطرافا في الضفة المقابلة قد بدأت تطرح خطا قريبا من حديثنا، رغم بعض الاحتشام والضبابية في رسمه، والذي ندفعه إلى مزيد من الجرأة والواقعية للحديث على رهان مباشر وواضح مع هذا الإسلام الديمقراطي الذي بدأت منازل صعوده تتأكد منذ أيام خالية في كل من البحرين والمغرب وتركيا ولا نخاله قد وصل إلى نهايته، وفي هذا المسعى تندرج دعوة الرئيس السابق للمخابرات الأمريكية في دعوته إلى الاعتراف بالحركات الإسلامية الديمقراطية كواقع سياسي حقيقي، وكإمكانية مستقبلية واعدة في بلدانها. ولعل الصمت الأمريكي تجاه التجربة التركية، وما يحصل حاليا في كواليس الإدارة الأمريكية من تفهم ولو متواضع لقبول الإسلام السياسي السلمي كطرف في أي مسار ديمقراطي داخل بلدانها يشكل قفزة نوعية نحو مصداقية أكبر للمبادئ والثوابت التي تحملها الحضارة الحالية والتي شكلت إحدى أهم إبداعاتها ونجاحاتها.

مدير تحرير مجلة "مرايا" باريس