منذ بزوغ فجر الإسلام لم يعرف عن منطقة الخليج والجزيرة العربية إلا أنها منطقة ثبات واستقرار وتسامح ديني وحضاري أرست دعائمه رسالة الإسلام وتبنته التقاليد العربية البدوية الأصيلة القائمة على إنكار الذات والعمل الجماعي والبساطة في العيش. لم يعرف عن منطقة الخليج التطرف الديني والعنف السياسي فقد عاشت القبائل العربية حتى قبل مجيء الإسلام معتنقة كل الأديان السماوية، المسيحية واليهودية وعاشت مختلف الأعراق القومية إلى جوار بعضها البعض حتى جاء الإسلام ووحدها في أمة واحدة هي الأمة الإسلامية. لم تعرف هذه المنطقة التحول السياسي العنيف بل التدرج المنطقي الذي نقل هذه المنطقة من مرحلة تاريخية إلى أخرى دون أي إخلال بالموازين والأعراف السياسية المتعارف عليها. فقد عاشت القبائل تحت ظل الإسلام في دولة رفرف عليها التسامح الديني وهو تسامح قل نظيره حتى في عالمنا المعاصر.
كانت بيعة المسلمين لولاة أمرهم هي الديمقراطية التي تنشدها شعوب العالم حاليا و حقوق الإنسان ضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية والحريات المدنية ضمنها الدستور الإسلامي. لذا فقد كان منطقيا أن تتسيد الحضارة العربية الإسلامية العالم وينشدها الشرق والغرب.
خلال تطور الدولة العربية الإسلامية ظلت منطقة الخليج وشبه الجزيرة تتمتع بمكانة محورية ويسودها تطور سلمي خال من أي عنف سياسي وعسكري. حتى عندما ضربت رياح التغيير العالم العربي المعاصر وعصفت به التيارات الثورية والأيديولوجيات الراديكالية ظلت منطقة الخليج محافظة على توازنها السياسي والاجتماعي. فلا عجب أن توصف مجتمعات الخليج بأنها مجتمعات محافظة و تقليدية و بطيئة التأثر بالأحداث والمستجدات العالمية. وجاء البترول ليشعل أول شرارات التغيير وعلى الرغم من تأثيره العميق في مجتمعات الخليج، فإن ذلك التأثير كان في معظمه إيجابيا وهو الأمر الذي دفع بمنطقة الخليج لتحتل مركزا مرموقا على خارطة العالم. لذا فأن تنطلق اليوم شرارة التطرف من هذه المنطقة التي عرفت على الدوام بثباتها لهو قلب للنظريات السياسية والموازين الاجتماعية والأعراف المتوارثة رأسا على عقب. فإلى ماذا يعزى هذا التغيير؟&
في الثمانينات، وبعد انتهاء الحرب الباردة، عصفت بالعالم وبالتحديد العالم العربي والإسلامي، رياح التغيير من جراء ظهور عدة تيارات فكرية بعضها مصدره داخلي والآخر مصدره خارجي. لقد كان التغيير المطلوب ضروريا وفي بعض المناطق حاجة ملحة لمواكبة التطورات الداخلية وتوازن القوى العالمي. وبينما كان التغيير في العالم العربي خلال فترة الستينات والسبعينات معتمدا على أيديولوجيات مستوردة من الخارج (كالتيارات الشيوعية مثلا)، كان التغيير في سنوات الثمانينات والتسعينات معتمدا على أفكار منبثقة من داخل هذه المجتمعات نفسها ومتلبسة في الكثير من الأحيان ثوبا إسلاميا أصوليا.
لقد كان لحربي الخليج الأولى والثانية دور كبير في تفجر الكثير من الأيديولوجيات والمواقف والصراعات السياسية التي جعلت من منطقة الخليج محطة للاهتمام ليس الاقتصادي فحسب ولكن الفكري أيضا والذي فجره ذلك الصراع بين الأفكار والأيديولوجيات المستوردة والمحلية. وهكذا أصبحت منطقة الخليج بؤرة اشتعال مؤهلة لأن تلعب دورا محوريا على خارطة التغيير في الشرق الأوسط. وبينما كانت قوى التغيير في الخليج في الفترات السابقة تتخذ من الدول العربية مثالا لها بل وفي الكثير من الأحيان ملاذا لها، أصبحت قوى التغيير في هذه المرة تنطلق من الداخل ويقوم بها أفراد عاشوا في الغرب وتشبعوا بقيمه قبل أن يديروا ظهورهم لهذه القيم ويعملوا على محاربتها.
لقد استخدم هؤلاء لفظ الإصلاح السياسي و الجهاد الديني شعارات لهم عوضا من الشعارات الثورية مع التأكيد دوما بأنهم قوى إسلامية طامحة الى تحقيق العدالة طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء. وجذبت الشعارات الدينية لهذه التيارات الجماعات الشعبية بكل أطيافها. لقد كان من المنطقي في هذا الجو المنفتح على الكثير من الثقافات والتيارات الدينية والراديكالية أن تظهر معارضة وتباين في وجهات النظر وأن تظهر تيارات أخرى مناوئة للتيارات السائدة تتخذ من العنف والتطرف أسلوبا ومنطقا لفرض وجهة نظرها. لقد ظهرت بوادر تلك الحركات في بداية الثمانينات وهي الفترة التي شهدت أيضا الحرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي. ولفترة من الزمن وجدت التيارات الإسلامية نفسها في مواجهة خطر جديد مشترك وحد جهودها وأهدافها وكان هذا الخطر هو الشيوعية والجهاد ضدها في بلد إسلامي هو أفغانستان. ولكن ما إن حل عام 1989 حتى انتهت الحرب في أفغانستان مخلفة وراءها آثارا مدوية على المجتمعات الإسلامية من ناحية وعلى مجتمعات الخليج من ناحية أخرى. لقد كانت الحرب في أفغانستان أول حرب دينية في التاريخ المعاصر ترمي بظلالها على نفوس الشعوب الإسلامية وتؤجج مشاعرها ضد ما وصف بأعداء الإسلام . لقد كانت الحرب في أفغانستان عاملا مؤثرا ومحدثا للتغيير في الخليج.
في بداية التسعينات جاءت حرب الخليج الثانية لتحدث تأثيرات اكثر دويا في العالم الإسلامي عموما وفي الخليج بصفة خاصة. لقد وجدت التيارات الإسلامية نفسها من جديد في مقابل خطر مشترك آخر ممثل بالغرب وانتهاكاته الخطيرة لأراضي المسلمين ومقدساتهم. وتجددت دعوة الجهاد الديني ضد الغرب ليس فقط لانتهاكاته الخطيرة للمقدسات الإسلامية ولكن لما يمثله من قيم مادية وحضارية صارخة وارتباطه بالكيان الصهيوني الذي يحتل إحدى أقدس بقاع العالم الإسلامي. أما في الخليج فقد وجدت التيارات الإسلامية نفسها في مواجهة تحد خطر: إما أن تكون مع السلطة السياسية وتوصم بالسلبية وإما أن تتخذ موقفا معاديا من الغرب الذي أصبح بوجوده المكثف في الخليج يمثل انتهاكا خطيرا للمشاعر الوطنية والدينية، فلم تتردد بعض الحركات في اختيار الموقف الثاني. لقد وضعت حرب الخليج الثانية تلك الحركات الداخلية أمام مفترق طرق وجعلتها أمام خيار صعب إما مع السلطة السياسية وإما ضدها. فأما التيارات التي اختارت الطريق الأول فقد حاولت، كسبا للتعاطف والتأييد الشعبي، أن تجدد أجندتها السياسية وأن تطالب بالإصلاح السياسي وضمان الحريات المدنية وبالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات التي تضمن بقاءها واستمرارية التأييد الشعبي لها. أما تلك التي اختارت الطريق الثاني فقد دخلت في بعض المجتمعات في مواجهة مع السلطات السياسية خاصة عندما لجأت الى العنف المسلح لإثبات وجهة نظرها.
وفي كلتا الحالتين تعتبر هذه الحركات والتيارات تجربة جديدة في مجتمعات الخليج التي تعودت الثبات والاستمرارية والمحافظة. إن ما يحدث اليوم من ظواهر سياسية وأفكار في مجتمعات الخليج كان إيذانا بفتح صفحة جديدة من تاريخ مجتمعات الخليج لا تختلف عن تلك الصفحات السائدة في أي بقعة من بقاع الشرق الأوسط من حيث خضوعها لنفس التيارات والمؤثرات.
ومع دخول الخليج القرن الحادي والعشرين ارتبطت منطقة الخليج في أذهان الغربيين بظهور وتبلور ظاهرة خطيرة هي الإرهاب العالمي. لقد أججت تلك الوصمة مشاعر العرب والمسلمين في كل بقاع المعمورة خاصة عندما اتخذت الحرب ضد الإرهاب طابعا دينيا. وعلى الرغم من نبذ الكثير من التيارات الداخلية في الخليج للعنف والتطرف كأسلوب عمل فإن تبني قلة من هذه التيارات لهذا الأسلوب سبب جدلا سياسيا وشعبيا خلق وعيا شعبيا بضرورة العمل المشترك ضد هذه التيارات. فما يحدث اليوم من ظواهر الإرهاب وارتباطها المفتعل بأجندة بعض الحركات النابعة من الداخل لهو إيذان بدخول منطقة الخليج ضمن مناطق التأثير في العالم العربي الإسلامي خاصة وفي العالم ككل بشكل عام.
لقد دخلت منطقة الخليج وبالتدريج دائرة التأثير تارة كمنطقة متلقية وتارة كمنطقة محدثة للتغيير العالمي. واستطاعت من خلال دورها كمتلق أن تحدث تغييرا إيجابيا في بنيتها الداخلية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهو الأمر الذي أهلها لأن تلعب دوراً أكثر تأثيرا في الصعيد العالمي وذلك عندما دخلته كمؤثر. إن قدر مجتمعات الخليج، منذ أن دخلت التاريخ، أن تكون وسيطا حضاريا بين الشرق والغرب ومؤثرا سياسيا واقتصاديا في أحداث العالم. فلا غرو أن نجد وتيرة الأحداث في هذه المنطقة تتسارع أحيانا وتتميز بالبطء أحيانا أخرى لتواكب مستجدات الزمن. إن شعوب الخليج مدركة بأن قدرها قد ارتبط بقدر اقليم الشرق الأوسط ككل فثباتها من ثباته وتطورها من تطوره. إن ما يحدث الآن في مجتمعات الخليج من بروز ظواهر وتيارات لهو نتيجة لتطور هذه المجتمعات وتأثرها سلبا وإيجابا بما يدور ليس فقط في العالم المحيط بها ولكن في الكون بأجمعه. إن الإرهاب ظاهرة سلبية من إفرازات المجتمعات المتطورة يجب ألا تسبب قلقا مفزعا لمجتمعات الخليج. وكغيرها من الظواهر السلبية سوف يأتي عليها زمن ستنحسر ويغض الزمن عنها الطرف وستظهر إلى السطح الظواهر الإيجابية التي عملت في العصر الحديث على نهضة هذه المجتمعات وتحويلها الى مجتمعات نموذجية.
الخليج الإماراتية