حسين الهنداوي
&
&
&
&
واخيرا اعتقل الرئيس العراقي السابق صدام حسين الهارب منذ استيلاء القوات الأمريكية على بغداد في التاسع من إبريل/نيسان الماضي. لكن الهيئة التي وجد عليها اثناء اعتقاله والمكان الذي كان يختبئ فيه يؤكدان من جديد ان الرجل (66 عاما) لم يتعلم شيئا على الصعيدين السياسي والعسكري برغم 35 عاما من السلطة المطلقة ونصف قرن من التجربة السياسية وخمسة حروب طاحنة.
ففي مسقط رأسه بتكريت التي بدأ فيها حياته السياسية في 1954 ووضع فيها اول خططه لأخذ السلطة في كوخ عام 1959، اختتم الرئيس العراقي المخلوع حياته السياسية الليلة الماضية وفي قبو ايضا عندما اعتقلته القوات الامريكية اثر وشاية كما تشير معطيات كثيرة غير مؤكدة بعد.
واذا كان صدام يضع لحية مستعارة ويبدو شيخا منهكا عند اعتقاله امس، فانه لا يفعل سوى تقليد نفسه عندما وقبل 45 سنة تخفى بهيئة راعي اغنام بدوي كي يتمكن من الهرب الى سوريا عام 1959 بعد اطلاقه النار على الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم في اطار محاولة وضعها حزب البعث لأغتياله.
فابن تكريت صدام حسين كان يعرف سلفا ان مناطق العراق الاخرى لن تؤويه يوما، ولهذا كان اهتمامه بها محولا اياها الى قلعة عسكرية وحاضرة حديثة ومنحها كل السطوة والثروة على حساب كل المدن العراقية الاخرى شمالا وجنوبا التي خرجت ابتهاجا باعتقاله نكاية به وبنظامه بما في ذلك العاصمة بغداد التي تعرضت للتنكيل هي ايضا من قبله.
وقد ظل صدام كريماً تجاه تكريت وقد ملأ الوظائف العليا في جيشه وجهاز استخباراته وحزب البعث الحاكم بتكريتيين. وهم من جانبهم ظلوا يقدمون فروض الولاء الشديد لصدام وكان المتوقع أن يقاتلوا بضراوة لحمايته ولعل في هذا يكمن سر هذا الخطأ الجسيم والقاتل في اللجوء او العودة الى الاحتماء تكريت في حين ان القوات الامريكية اعلنت مرارا انها تشك في اختبائه في مزارعها، فيما كان رئيس الإدارة المدنية الأمريكية في العراق، بول بريمر، قد اعلن مرارا إن الأولوية أمام إدارته الآن هي للقضاء على الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.
ويرى بريمر في تصريح سابق أن "من المهم بالنسبة لنا اعتقال صدام او قتله أو إثبات إنه قتل، لأن عدم التأكد من وضعه يمنح أنصاره الذين لا يزالون على قيد الحياة من بعثيين وفدائيين، فرصة القول إن الحرب لم تنته بعد، وان من المحتمل أن يظهر مرة أخرى. ومن المهم لنا أن نثبت أن الأمر ليس كذلك".
وقبل يومين فقط اكد مسؤولون أمريكون أن صدام تمكن من مراوغة القوات الأمريكية من خلال التحرك كثيرا ومن المحتمل أن يكون قد تخفى بمساعدة أعضاء من عشيرته في المناطق التي يغلب عليها السنة في تكريت وهي مدينة تبعد 90 ميلاً شمال بغداد على مرتفعات تطل على نهر دجلة..
كما ان تكريت لا تزال تقاوم القوات الامريكية بعنف مما اوحى للامريكيين دائما بأن ولاءها لصدام هو الاقوى بين المناطق الاخرى ما عرضها الى ضربات عنيفة وموجعة خلال الاسابيع الماضية الامر الذي كان يقتضي بداهة على صدام ان يظل بعيدا عنها ولو تكتيكيا ولو الى حين لولا ادراكه الواضح بأن مدن العراق الاخرى، وحتى في "المثلث السني" الشهير، تخلت عنه سلفا ان كانت قد رحبت به يوما او احبته يوما.
فخلال الاشهر الاخيرة ظلت تكريت هدفاً خاصاً للقصف الأميركي الدقيق بما في ذلك ما وصف بمخابئ تحت الأرض شك الامريكيون في انها مراكز قيادة وتحكم فيما أقامت القوات الخاصة الأميركية نقاط تفتيش على الطرق الرئيسية بين بغداد وتكريت لمنع الحركة بين المدينتين. وتكريت هي أيضاً الجزء الوحيد من العراق الذي توجد فيه وحدات كافية من الجيش والميليشيات تستطيع أن تشن قتالاً ضخماً ومنظماً.
فهل ضاقت تكريت بابنها البار ام انها كغيرها من مناطق البلاد ضحية بين ضحايا عقلية صدام حسين ونظامه المنهار؟ هذا ما ستكشف عنه الاحداث المقبلة، الا ان المؤكد ان اعتقال صدام لم يتم دون وشاية محلية، وربما تكريتية كما يعتقد، يرفض الامريكيون تأكيدها حتى الآن. اذ لم يكشف المسؤولون الأمريكيون عن اسرار عملية اعتقال صدام، قائلين بأنها تزامنت مع شن سلسلة من حملات المداهمة في محيط مدينة تكريت.
الا ان القوات الامريكية كانت قد رصدت مبلغ 25 مليون دولار مكافأة لمن يدلي بمعلومات تؤدي الى اعتقال الرئيس العراقي السابق مشددة على ان صدام الذي اصدر مؤخرا مجموعة من الشرائط الصوتية المسجلة التي تحث العراقيين على مقاومة القوات الامريكية، حريص على ان يغير مقر تواجده باستمرار لتجنب محاولات الجنود الامريكيين اقتفاء اثره.
فنتيجة مكافأة مالية ادت وشاية "تكريتية" الى نجاح القوات الأمريكية في قتل نجلي صدام عدي وقصي في الموصل وكذلك باعتقال طه ياسين رمضان، النائب السابق للرئيس العراقي والذي يرتبط اسمه بأعمال التنكيل الدموي التي تعرض لها المعارضون العراقيون في الجنوب بعد انتفاضة عام 1991، وكذلك بالعمليات التي أدت مقتل الآلاف من الأكراد في شمال العراق.
وقبله وبوشاية ايضا اعتقلت القوات ذاتها في تكريت السكرتير السابق للرئيس العراقي المخلوع، عبد حمود، والذي يحتل اسمه الترتيب الرابع على قائمة أبرز المسؤولين العراقيين السابقين المطلوبين حيث كان يشرف على إجراءات تأمين مقابلاته، وكان دائماً يشاهد إلى جواره.
لكن حذر صدام يبدو قد تراجع في الاونة الاخيرة اذا صدقت تصريحات زوجته الثانية سميرة شهبندر في مقابلة مع صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية امس قالت فيها أن زوجها يتصل بها أو يكتب لها رسالة مرة في الأسبوع على الأقل، واضافت في حوارها مع مراسل الصحيفة الذي التقى بها في مطعم في العاصمة اللبنانية بيروت ان صدام أعطاها مبلغا قدره خمسة ملايين دولار وكمية من الذهب والمجوهرات قبل أن يرسلها إلى سوريا مع ابنهما عليّ بعد سقوط بغداد في نيسان/أبريل الماضي كما اعلنت.إنها حصلت على إذن من السلطات الفرنسية بأن تنتقل للعيش في فرنسا مع ابنها عليّ وإنها تتوقع الانتقال إلى باريس الشهر المقبل.
وعلى العموم فان صدام حسين وعلى ما عرف عليه من تقليدية في التفكير والتجربة السياسية والعسكرية الفردية لم يكن امامه ان يفعل افضل مما فعل للافلات من قبضة الامريكيين التي ضيقت الخناق عليه وعلى تكريت ايضا خلال الايام الاخيرة. فحسب آخر تصريح اطلقه امس الميجور جنرال ريموند اوديرنو القائد العسكري الأميركي في تكريت فان "هجمات المقاومة" تراجعت في المنطقة الى 6 هجمات في المتوسط يوميا من 22 هجوما قبل شهر مؤكدا ان قواته اقتربت من صدام مرتين في الشهور الاخيرة احدهما كانت عند مداهمتها الصيف الماضي منزلا في تكريت قال ساكنوه ان صدام كان هناك قبل ثماني ساعات. وعما اذا كان صدام يدير الهجمات، قال «لا أعتقد انه يدير شخصيا أية عمليات، لكن اعتقد أن له تأثيرا نفسيا.. انهم يهابونه ويخشون فعلا انه قد يعود ويقمعهم" في تكريت ايضا.
لصّا سياسيا عنيفا بدأ صدام حسين حياته في تكريت متخرجا من مدرسة اللص العادي العنيف خير الله طلفاح. وكاللص الهارب من وجه الف عدالة عثر عليه الامريكيون في حفرته المموهة بكل شيء وبكل مهارة الا بمهارة البطولة. فهذه لا تخطر ابدا على اذهان العبيد.
انتهى

كاتب وشاعر عراقي يفيم في لندن.