أسامة عجاج المهتار
&
إذا كان بين الإبادة والسلام هوَّة عميقة فكذلك الأمر بين دعم الإبادة أو الجهل بوجودها، وبين ومحاربتها ومعاقبة المسؤولين عنها. وإذا أقرَّينا أنَّ ثمَّة عمليَّة إبادة بطيئة ولكن مستمرَّة بحقِّ شعبنا في فلسطين، وأنَّها تجري تحت سمع العالم وبصره، فكيف نفسِّر استمرارها؟ كيف نفسِّر تغاضي العالم عنها، وهل يمكن وقفها؟
لكي نفهم الإبادة من حيث هي قمَّة العنف المبني على الحقد، لا بدَّ من أن نفهم أنَّ قلَّة قليلة ممَّن يمارسونها يعرفون أنَّهم يفعلون ذلك. إذ لا غنًى لهم عن التهيئة النفسيَّة لذلك. والتهيئة النفسيَّة تشمل ناحيتين: أوَّلاً، نزع صفة الإنسانيَّة عن الفريق الذي يتعرَّض للإبادة؛ وثانيًا، تبرير عمليَّة الإبادة بما يرضاه الضمير كالدفاع عن النفس أو مواجهة "الإرهاب". نلاحظ أنَّ المؤسَّسة الإسرائيليَّة قد نجحت إلى حدٍّ بعيد في هاتين الناحيتين. الفلسطينيُّون كما يصوِّرهم الساسة الإسرائيليَّون إرهابيَّون وحشرات وصراصير وسرطان وما شابه. البيوت التي يجرفها الإسرائيليُّون هي "مبان" أو "هياكل" Structures، ولكنَّها ليست منازل. شجر الزيتون الذي يجرفه الإسرائيليُّون هي أسوارٌ عسكريَّة يستخدمها الفلسطينيُّون في عمليَّاتهم "الإرهابيَّة." وهكذا دواليك. أمَّا جميع ما ترتكبه إسرائيل من جرائم، فهو دائمًا تحت باب "الدفاع عن النفس" ومحاربة الإرهاب. وأصدق دليل على ما نقول هو أنَّ الرئيس الأميركي بوش يردِّد معزوفة "حقُّ إسرائيل في الدفاع عن النفس" أثناء تبريره للغارة الإسرائيليَّة على "عين صاحب"، أو أثناء دفاعه عن الحائط الذي يلتهم ما تبقَّى من الضفَّة الغربيَّة.
ماذا عن الرأي العام العالمي! يمكننا تقسيم الرأي العام إلى فئات. فهناك من يأخذ بوجهة نظر إسرائيل مائة من المائة ويدعم عمليَّة الإبادة لاقتناعه بالشرطين أعلاه. ومنهم من يرى ولا يدرك أنَّ ما يراه هو عمليَّة إبادة لأنَّه ما يزال يرى "إسرائيل" دولة ضعيفة تأوي شتات الذين تعرَّضوا للإبادة على أيدي النازيِّين. ومنهم من يرى ولا يتحرَّك لأنَّه يعتقد أنَّ هذا الموضوع لا يخصُّه، وقلَّة قليلة فقط ترى وتعرف أنَّ ما تراه هو أبشع عمليَّة إبادة في تاريخنا المعاصر. إن البطء الذي به تتمُّ عمليَّة الإبادة يلعب دوره في تمويهها. فف رواندا مثلاً أثارَ قتلُ مئات الآلاف خلال أسابيع رعب العالم ودفع الأمم المتَّحدة للتدخُّل ووقف المذبحة.
ولعلَّ أسوأ أنواع التمويه التي تستعملها إسرائيل هي إصرار بعضنا على التصرُّف وكأنَّهم دولة قائمة بمساواة إسرائيل، تتفاوض معها للوصول إلى حلٍّ "سلمي"، ممَّا يدفع العالم إلى عدم تصديق أنَّ ما يحدث هو بالفعل عمليَّة إبادة. فكيف يمكن لشعب له رئيس ورئيس وزراء ومجلس نوَّاب، ووزراء وبوليس وأجهزة أمن واستخبارات أن يكون في عداد الشعوب المهدَّدة بخطر الانقراض!
وقف الإبادة لا يمكن أن يبدأ قبل معرفة أنَّ ما نراه هو إبادة، بدءًا منَّا وانتقالاً إلى شعوب العالم. وهذا يقتضي منَّا حملة منظَّمة عمادها زيارات يقوم بها أبناء المغتربين لا سيَّما في أميركا الشماليَّة، وتحديدًا المولودون منهم هناك، إلى الأرض المحتلَّة ليتعرَّفوا إلى حقيقة ما يجرى، ويعودوا إلى مدارسهم وجامعاتهم وينقلوا لأهلهم ولزملائهم وللسياسيِّين في مناطقهم ما رأوا بالصور والأرقام والحقائق.
وقف الإبادة كوقف الإدمان لا يمكن أن يبدأ قبل الإقرار به. الإقرار أنَّ ما نراه هو فعلاً إبادة.
&
&
التعليقات