&
باريس- الراية: لعل مفهوم" الثورة "، أو الثورا ت العلمية، هو ما يتأكد كأهم المفاهيم التي تطبع وتواكب وتؤسس للقرن الواحد والعشرين، كما لم يحدث من قبل عبر أي من مراحل التاريخ الإنساني بأسرها. وذلك وفق تتابعية من الثورات الخلاقة التي ما فتئت تهزمجالات المعلوماتية و العلوم البحتة، وعلوم الفضاء، أ و معرفة الإنسان بيولوجيا أو سيكولوجيا، وعلاقة الإنسان بالكون ومكانته في هذا الكون....علي أن هذه "الثورات" قد طالت علوم أخري كان يصعب تصور نقلتها النوعية عبر جدل المعرفة، ومنها العلوم الإنسانية ذاتها. في هذا الحوار سنتطرق مع الباحث المغربي الأصل رشيد بن الزين، لإشكاليات جدلية التجديد المنهجي في المباحث الإسلامية المعاصرة، وحجم مواكبتها للثورة التي تعيشها العلوم الإنسانية في الغرب، وذلك بمناسبة صدور كتابه "المجددون الإ سلاميون الجدد" الصادر عن دار البان ميشل الباريسية المعروفة. ورشيد هو أستاذ علم الاقتصاد بجامعة باريس العاشرة، ومدير أبحاث حول الفكر الإسلامي، بدار النشر المذكورة، وهو عضو مؤسس لمجلة اللوموند دي رلجيون والمسؤول عن قسم الدراسات الإسلامية بها.
ينصب اهتمامك البحثي بشكل خاص علي إشكالية التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، كما احتفل كتابك الأخير بهؤلاء الذين تسميهم" المجددين" في هذا الفكر. ماذا يعني لك هذا المفهوم بالذات؟ وما الذي دفعك للاهتمام به؟
- الذي دفعني للاهتمام بالتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، في سياق بحثي الأكاديمي في الفضاء الأوروبي نفسه، هو ما لاحظته من غياب أو تغييب كلي لنماذج التجديد والتطور التي تتم في بنية هذا الفكر ومناهجه، عن الجدل المعرفي القائم في أوروبا والغرب بشكل عام.
حيث استمر الحديث عن الإسلام والمسلمين، أو الفكر الإسلامي وكأن كل ذلك يمثل معطي جامدا لا يتحرك : و لا يتطور، بل إن الفكر الإسلامي يقدم بالأحري بوصفه ينتمي إلي "أصولية" متعصبة ورجعية. بحيث تم تجاهل كل المنتوج الفكري المعاصر، والمجدد الذي يسعي لمناقشة الإسلام من الداخل والبعث بعنفوانه الخلاق. بالمقابل كان السؤال عن وجود هذا النوع من المحاولات في الفضاء العربي الإسلامي كثيرا ما يطرح أمامي دون أن يكون عندي إجابة كافية، أو قادرة للتأكيد علي وجود محاولات فكرية عربية إسلامية تناقش الثورات العلمية الحديثة وتواكبها.
لذلك أخذت بالاهتمام بهذا المبحث، وتقصي احتمالات وجود أو عدم وجود تجدد أو تطور في الفكر الإسلامي؟ وإذا ما وجد أين وكيف هو؟ ومن هم رموزه؟
وقد تبين لي سريعا إن ثمة تيارات كثيرة مهمة، و محاولات ذات قيمة بحثية عالية : ليس فقط في العالم العربي، بل علي امتداد رقعة العالم الإسلامي، من تركيا إلي إيران إلي الهند . ...، وتأكد لي إن هناك نماذج من الفكر الإسلامي المجدد تضاهي باطروحاتها مستوي المحاولات الفكرية العالمية التي عرفتها المؤسسات الغربية ذاتها. وهو ما جعلني أطرح السؤال : لماذا إذن يتم التعتيم علي هؤلاء؟ وهل يأتي هذا الإقصاء من الداخل؟ أي بالقياس إلي سياسة تهميش مقصودة من داخل الفضاء الإسلامي نفسه، سواء السياسي الرسمي أم الديني الأصولي؟ أم إن ذلك ناتج عن إرادة غربية لإقصاء المحاولات الفكرية التقدمية في الفكر الإسلامي، بهدف الاستمرار في النظر إلي هذه الفضاءات وفق أحكام مقصودة وموظفة لأهداف مدروسة؟.
ولعل أولي مفاجآتي بالقياس لهذا المنتوج، هو تكاملية البنيان المنهجي الذي يربط بين جملة هذه المحاولات الفكرية، علي اختلاف لغاتها أو انتماءاتها الجغرافية أو الثقافية.
فهم يفكرون جميعا، داخل بنية الفكر الإسلامي ذاته، وليس من خارجه. وهم يعتمدون علي جملة الموروث الإسلامي ومصادره، أي ليس فقط علي بعض من معطياته، بل الأخذ به في تكاملية أيديولوجية وفكرية وتاريخية واحدة، سواء من ناحية التيارات الفكرية، أو المعارف الأساسية، من فقه وفلسفة وعلم كلام أو التصوف والعلوم البحتة....وهم من ناحية أخري علي علم ومتابعة وتوظيف للعلوم والعلوم الإنسانية في تطوراتها وثوراتها في الغرب المعاصر.
وفي حقيقة الأمر نجد أن واقع الخلق والتجديد في قلب هذه المحاولات الفكرية الإسلامية، إنما جاء بالقياس إلي هذين المعنيين بالذات، أي الانتماء العارف، والمخلص للفكر الإسلامي في تكامليته الخلاقة، والانفتاح علي التيارات الفكرية الغربية في تطورها العام. حيث استطاع هؤلاء الأخذ من التراث الإسلامي بأروع ما فيه، وأن يوظفوا من المعرفة الغربية وأدواتها العلمية الحديثة أروع ما فيها كذلك. وهو ما أدي إلي ولادة تيار أو تيارات إسلامية مجددة علي مستوي عالمي من الأصالة الفكرية والمنهجية والطروحات الفكرية.
هؤلاء من ناحية أخري يفكرون في فضاء وطني إسلامي مستقل، أي خارج ضغوطات الهيمنة الاستعمارية التي عرفتها محاولات الإصلاحيين الإسلاميين السابقة، مثل محاولات محمد عبده أو جمال الدين الأفغاني.
يفرق خطابك التحليلي للمحاولات الفكرية الإسلامية المعاصرة بين مفهوم التجديد الذي تستخدمه بحق المحاولات القائمة ومفهوم الإصلاح الذي أطلق علي المحاولات التي عرفها الفكر الإسلامي خلال القرن الماضي. ما الفرق بين المفهومين بالنسبة لك؟
- الفرق يكمن في مفهوم الإصلاح ذاته، الذي يعتمد ما هو قائم ويحاول إصلاحه، فأن المفكرين الجدد تجاوزوا مفهوم الإصلاح لصالح مفهوم التطوير والتجديد. أي أن المحاولات الفكرية المعاصرة لا تبحث في كيفية تحقيق الإصلاح، باعتباره هدفا مباشرا لطموحها، بل نجدها تنصب علي محاولة" فهم "الإسلام" بهدف صياغة أو إعادة صياغة مشروعه الحضاري بلغة عالمية معاصرة وبمفاهيم علمية معاصرة.
حيث كرست هذه المحاولات جهدها علي دراسة الموروث الإسلامي، وتتبع صيرورة الرسالة المحمدية خلال التاريخ، لمعرفة كيف وصل إلينا الإسلام اليوم علي ما هو عليه؟ أي أن مشروعهم يقوم بالأساس علي إعادة قراءة أو إعادة فهم كامل الموروث الإسلامي علي ضوء المعطيات العلمية المعاصرة.
علي أن هدف هذه المحاولة ليس تقديم " أرثوذكسية " جديدة بل السعي لتسليط الضوء وبالدرجة الأولي، علي مختلف التفسيرات التي تمت خلال الماضي. ووضعها، كما هي، في إطارها التاريخي، بما يمهد لإمكانية فهمها، ثم تحليلها. لأن الإسلام بالنسبة لهؤلاء المجددين، وكما يعبر المفكر الإيراني شيروش ن "هو بذاته تاريخ محاولة فهم الإسلام ".
توظيف المجددين الإسلاميين لأدوات البحث العلمي الغربي لقراءة الموروث الحضاري الإسلامي بهدف وضعه في سياق ديناميكية العصر القائم، ألا يحمل ذلك خطر الانزلاق بهذا الفكر نحو" الاستغراب "؟
- كثيرا ما يوجه مثل هذا النقد لهذه المحاولات من طرف الأصوليين بالذات، مع ذلك قد يمكن الرد علي هذا النقد ببساطة، وذلك بالعودة للتقاليد الإسلامية العريقة في التفكير و البحث. حيث لم يتحرج علماء الإسلام الكبار وفي قلب العصر الذهبي للحضارة الإسلامية وبحضور الصحابة الأتقياء والفقهاء الورعين، من توظيف الأدوات والمعارف العلمية المتطورة بالقياس لذلك العصر، لفهم وقراءة النصوص القرآنية أو البرهنة علي المعطيات الفقهية أو العقائدية. حيث وظف علماء الإسلام حينذاك ما توفر لهم من أدوات المعرفة العلمية، للبحث في المعارف القرآنية المباشرة مثل إشكاليات أسباب النزول أو الناسخ والمنسوخ أو الآيات المكية والآيات التي نزلت بالمدينة. ....وعندما يذهب علامة كابن عباس للقول : " إذا لم تفهموا معني في القران فأذهبوا و ابحثوا عنه في الشعر الجاهلي "، إنما يؤكد هنا علي ضرورة توظيف معايير العلم الأدبي لفهم النص القرآني نفسه وذلك منذ القرن الأول للإسلام.
ونحن نعرف إن معجزة الرسالة المحمدية ذاتها كانت بلاغة النص القرآني، بما أسس لتطور خلاق ومذهل لعلوم البلاغة منذ ذلك العصر والذي كان قد قام علي قواعد بلاغية وأدبية استعار المسلمون الكثير منها مما كان متوفرا في ذلك الوقت، ليتم تطويره من خلالهم بشكل يفوق الوصف، والذي أسس لعلم البلاغة بكل عنفوانه التاريخي والأدبي و الإنساني الذي ما زال يؤثر ويتفاعل مع بنية الفكر الإنساني بأسره. فعلم البلاغة مازال يترك بصماته علي كافة العلوم الإنسانية الحديثة، ويتفاعل مع مختلف المدارس والتيارات الفكرية المعاصرة، ليس فقط العلوم الأدبية بل كذلك علوم اللسانيات والنقد الأدبي والنقد التاريخي و"الأرمونوتيك" أو علم تأويل القران أو الأنتربولوجيا والأنتربوجيا الثقافية أو الاجتماعية، بل علم الاجتماع ذاته....
وفق هذا " الديناميك " نفسه، فإن الفكر الإسلامي اليوم، بقدر ما يأخذ من الفكر الغربي من أدوات أو مناهج فأنه قادر علي التأثير فيه والتفاعل معه في نفس الوقت، بل ان أحد أهم مردودات هذه المحاولات التجددية الإسلامية هي إعادة الإسلام إلي بعده الكوني بإطلاق.
وبأي معني؟
- يجب ألا ننسي بأنه، رغم إن كلام الله وقرآنه قد نزل بالفعل بلغة محددة، ألا وهي اللغة العربية التي شرفها الله بهذا التكريم، لكن الرسالة الإلهية هي رسالة عالمية ولكافة أبناء البشر. لذلك فرغم إن الإسلام قد نشأ في إطار ثقافة بذاتها، إلا إن رسا لته تتجاوز حدود هذه الثقافة، وتذهب باتجاه البشرية بأسرها، وهو ما يتطلب ضرورة "فهم" وتقديم النص القرآني، وجملة الموروث المحمدي من الحديث والسنة، وفق معايير وأدوات وحاجات عالمية وإنسانية كونية كلية. علي أن أي محاولة لفهم" النص الأصلي " بهذا المعني، تحتاج بالضرورة البدء بفهم العقلية التي كانت تطبع الثقافة التي احتضنت الرسالة الإلهية، و فهم الجغرافيا والثقافة والتاريخ العام وتاريخ القبائل وتاريخ الأفكار...والتي هي المقدمات الضرورية لفهم حذافير وجوهر الرسالة المحمدية. ومن ثم التأسيس لإطار معرفي إنساني كوني يكون فيه بمقدور المتأمل في النص القرآني، وأيا كان مكانه في الأرض، أن يعيش ذلك التفاعل الخلاق مع كلام الله.
واستخدام مفهوم الزمانية هنا للحديث وإمكانية فهم النص القرآنيوفق لغة وإمكانيات فكرية عصرية، أو بلغة معاصرة، لن ينقص من الإسلام في شيء ولن يمس القيمة العظمي لهذه الرسالة الخالدة. وفق قدسية كلام الله نفسه وقدرته بذاته علي التعالي فوق كل نقص، وهو المنزه عن كل نقص. وكما وعد تعالي هو محفوظ بإطلاق إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
ولكن ألا يبدو هنا المنحي الذي يدعو لتوظيف أدوات المعرفة العلمية للبحث في الموروث الإسلامي، خاصة الأدوات التي تطورت في مناخات الغرب، و كأنه يقدم لها باعتبارها لا شبهة فيها، أو أنها لا تتطلب اي نقد منهجي؟
- علي العكس يقوم منهج المجددين الإسلاميين بالأساس علي منهج نقدي سواء بالقياس إلي مراجعة الذات والتراث والموروث الحضاري والعلمي الإسلامي، أو بالقياس إلي أدوات ومناهج البحث الموظفة لهذه المهمة، وهم في هذا السياق، علي وعي بأن الأدوات والمفاهيم العلمية والمنهجية في صيرورة مستمرة، ولهذا نجدهم يؤكدون علي ضرورة الأخذ في الاعتبار عدم إعطائها معني أو سلطة نهائية. وأن علي المسلمين أن يكونوا علي حذر فيما يتعلق وتوظيف هذه المفاهيم والمناهج أو فرضياتها المختلفة للتفكير علي النص الديني.
حيث ترتبط مختلف مفاهيم المناهج العلمية المتاحة، بدورها " بباراديجم" مستند إلي فلسفات وأطر ثقافية متعددة بحيث يتطلب توظيف هذه الأدوات، ليس فقط نظرة نقدية علي مضامينها، ولكن أيضا التأكد من التوازن الضروري، في سياق هذا البحث المعرفي الخلاق، بين النص / والمتلقي والأدوات الموظفة لهذه المحاولة. و هذا التكامل نفسه بين هذه المعطيات هو ما يؤسس ويؤكد للنهضة الفكرية التجددية الإسلامية الممكنة. فالخطاب الإسلامي نفسه، بالأخذ بكل ذلك، سيشهد تغيرا جذريا في سياقاته وديناميكيته. بحيث لن تستمر مقولة "إن الإسلام قال هذا "ما يحكم منطق الحوار في داخل الفكر الإسلامي، بل بالأحري وجهة نظر كل مسلم وطريقة فهمه الخاصة للنص القرآني هي ما سيأخذ محل المحرك الفعال للصيرورة النهضوية داخل بنية الفكر العربي أو العقل العربي.
هل هي دعوة لفهم فردي للنص الديني؟
- هي بالأحري دعوة لتفعيل "القلق الفردي" بشأن فهم النص الديني أو النص القرآني بالذات، وفق معايير ذاتية بالدرجة الأولي. وهو القلق الذي سيقود المؤمن للاجتهاد والخلق والإبداع بنفس المعني الذي نتصور فيه هذا القلق يقود المؤمن نحو الجهاد ومحاولة تغيير الأشياء.
فالنص القرآني بذاته هو نص محايد ولا يدخل في ديناميكية التأثير إلا عند دخول المؤمن في علاقة حميمة مع تفاصيله. وهو محدود كنص :""مكون من مائة وأربعين صورة وعدد محدود من الآيات الكريمة ""، لكنه لا متناهي المعني ولا متناهي التأثير، وهو ما تنحو للتأكيد عليه المحاولات التجددية الحديثة في الفكر الإسلامي. والتي تري في استمرارية التفسير والتأويل للنص القرآني حقا وواجبا علي كل مسلم بهدف إحياء هذا الدين الحنيف وضمان فعاليته التاريخية. مع العلم إن هذا الإشكال ليس جديد علي تاريخ الفكر الإسلامي كما يؤكد قول الإمام علي رضي الله عنه :""حاربناهم علي تنزيله واليوم نحاربهم علي تأويله ".
وهل لا نخشي من تعددية لا متناهية في فهم وتفسير القرآن بتعدد هؤلاء الذين سيسعون للتفكير علي النص القرآني؟
- لا يجب أن تكون التعددية موضوع خشية بحال، بل إن عظمة وعنفوان الأمة الإسلامية كان وسيكون من خلال هذه التعددية الخلاقة، في مدارس التفكير في أساليب التفسير في لغات هذا التفسير....ولا يجب أن تفهم هذه التعددية كتهديد لوحدة الصف الإسلامي أو الأمة الإسلامية، علي العكس إن أي محاولة لقمع الاجتهاد في بنية الفكر الإسلامي ومحاولة احتكار حق البث في شؤون هذا الدين ، الذي هو للمسلمين كافة هو ما يشكل خطر إمكانية انفصام عري الأمة.
ينحو مشروعك الفكري شخصيا لتقديم رموز التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، باعتبارهم روادا لحركة تجديد ضرورية في الفكر العربي /الإسلامي. من هم هؤلاء الرموز؟
- يصعب التعرض خلال مقال واحد أو كتاب واحد لكافة هؤلاء المجددين الذين كان لهم الفضل في مباشرة التفكير والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، لذلك كنت قد اقتصرت في كتابي الذي خصصته لتسليط الضوء علي هذا المنتوج الفكري التقدمي في الإسلام المعاصر علي بعض النماذج المهمة، بالقياس إلي عدة انتماءات جغرافية أو لغوية أو ثقافية، من السنة والشيعة من العرب أو الأتراك أو الهنود أو من بلدان غير إسلامية، كان منهم علي سبيل المثال عبد الكريم سوروش من إيران وفضل الرحمن من باكستان ومحمد أركون من الجزائر وفريد إسحاق من أفريقيا الجنوبية وعبد المجيد شرف من تونس وأمين الخولي ومحمد خلف ونصر حامد أبو زيد من مصر. ولكن هناك كثيرين غيرهم ، لم يتسع لي الوقت للتعرض لهم خلال الكتاب، منهم أشقر علي الخير من الهند أو إبراهيم موسي من الولايات المتحدة أو محمد شحرور من سوريا. بالإضافة إلي أنني لم أتعرض للنساء المجددات في الفكر العربي المعاصر لأن ذلك يحتاج لعمل قائم بذاته من جهة ولأنني أود لو أن سيدة باحثة هي من تقوم بهذه المهمة التي تتعلق مباشرة بالثيولوجي النسائي الإسلامي.
ووفق أي معيار تصنف كل هؤلاء باعتبارهم مجددين؟
- للإجابة علي هذا السؤال يجب أن نأخذ في اعتبارنا أولا معني التجديد في الفكر الإسلامي، والذي يؤسس لمشروعية محاولة "الخلق" من طرف الأمة في سياق موروثها الثيولوجي نفسه ، مع استمرارها وفية للقيم الأساسية للإسلام،. والذي أنتج بالقياس لهذا المعني عدة تيارات فكرية مهمة منها :الثيولوجي الإسلامي للتحرير الثيولوجي النسائي الإسلامي أو التيار المجدد باتجاه إيكولوجي إسلامي . و هي المحاولات التي تطمح بالدخول بالأمة إلي عصر التحديث الإسلامي، والذي يعني قدرة الإسلام علي بلورة فكر إنساني تقدمي، مقروء، باعتباره كذلك، من هؤلاء الذين يؤمنون بهذا الدين، أو من هؤلاء الذين لا يؤمنون به. أي علي النحو الذي يجعل النص بذاته قادرا علي دفع الناس، أيا كان انتماؤهم، للتفكير بموضوعية حول الإسلام . وهو ما نجح هؤلاء المجددون في تحقيقه.
وفق هذه النماذج المجددة التي يطرحها كتابك كيف يتبلور هذا الفكر الإسلامي الإنساني العالمي المفتوح علي أفق الإنسانية، رغم استمرارية ارتكازه المطلق للإسلام؟
- إذا أخذنا مشروع فريد إسحاق المسلم الأسمر الجنوب أفريقي، كنموذج لهذا الفكر، نجد إن محاولته الفكرية تدور حول إشكاليتين أساسيتين :الأولي هي تقديم الإسلام في سياق تعددية فكرية خلاقة، والثانية التبشير بالإسلام كمنهج لمقاومة العولمة، والظلم" الاقتصادي" بالذات.علي إن جذور كلتا الإشكاليتين نجدها منغرسة في أعماق تاريخه الشخصي وتاريخه الاجتماعي والذي دفعه للبحث عن الحل داخل الإسلام نفسه.
حيث ترعرع فريد إسحاق بضاحية كادحة من ضواحي مدينة كاب تاون التي يسكنها السود في أفريقيا الجنوبية، تحت قمع ووجع التفرقة العنصرية وغياب العدالة الاجتماعية. وكأن هذا القدر لا يكفي في ذاته سيحرم فريد من الحضور الأبوي حيث سيغادر والده الدار وهو لم يتعد شهرا من عمره. وقد عرف فريد إسحاق وفق هذا المناخ ضراوة التفرقة العنصرية والحرمان الاقتصادي مبكرا، لكنه سيدرك بالإضافة إلي ذلك، أن مأساة الأسود تكون مضاعفة، لو كان بالإضافة إلي سواد بشرته ، علي دين الإسلام.
وأمام هذا الظلم المزدوج الذي يتعرض له المسلمون السود في جنوب أفريقيا، شعر إسحاق بالحاجة لمساعدة إخوانه في الإسلام بالبحث عن مخارج روحانية أو طرائق للولوج لعالم الحق والعدل والإحسان، الذي يعد الله به عباده الصالحين، وذلك داخل النص القرآني نفسه. وهو سيوظف مفاهيم الإحسان والتكافل والرحمة أو العدل لخدمة ونجدة المظلومين والمسحوقين. وكان نضاله الفكري في هذا الاتجاه مفتوحا علي أفق الإنسانية بالمعني الكلي للكلمة، حتي إنه كان يناضل يدا في يد مع إخوانه الرهبان ورجال الدين المسيحي أو رموز الأديان الأخري أو دعاة الخير والإحسان من العاملين في الحركات الإنسانية، من أجل إخراج السود المعذبين من مأزق اليأس الإنساني. وقد كان يوظف "الكلم " القرآني كخطاب محرر ودافع للإرادة الإنسانية نحو مراتب من العلو والعنفوان، بما يجعلها قادرة علي مواجهة أي سحق أو اضطهاد. والقيم القرآنية العالية لكتاب الله الكريم قادرة بالنسبة له علي خلق المكان المناسب والضروري للحوار"والتفاعل مع الحدث ومع الآخر، أو التقاطع مع ثقافات روحانية أخري.
وهو يوظف هنا مفاهيم الثيولوجي الإسلامي للتحرير، للتأسيس لطريق ثالث بين الموقف الأصولي الذي يخلط بين السياسة والدين والموقف الاستغرابي الذي يحاول أن يفصل بينهما بشكل قاطع. وفي الوقت الذي تحترم فيه نظرية فريد إسحاق استقلالية كل من الدين والسياسة، إلا أنه يحاول أن يقاطع بينهما. خاصة بالقياس إلي مباحث العدالة الاجتماعية، أو حوار الحضارات أو التعايش بين الأديان. ..وهي المفاهيم التي نجدها معروضة بوضوح في كتابه القرآن، التحرير، التعددية. تصور إسلامي للتضامن بين الأديان ومقاومة الاضطهاد .
سوروش وجه آخر من المجددين الذين ركز عليهم كتابك باعتباره أهم رموز المشهد الثقافي الإيراني المجدد. ونحن نعرف أن نظريته الفلسفية تقوم علي فكرة : "إن أي تطور نوعي قد تعرفه الساحة الفكرية الإسلامية، لن يقوم إلا علي "إصلاح كلي " خلاق قائم علي الوعي الحر للمسلمين " وهو ما يدفع التحليلات الأوربية المختلفة لجعله أول مفكر "إصلاحي " في إيران. ما رأيك في ذلك؟
- الذي أسس له مشروع سوروش بشكل جوهري هو البحث عن تحرير القرآن من سطوة الفقه أو أن مشروعه يقاوم القراءة الفقهية الصارمة والمتعصبة للنص القرآني. وبالنسبة له لا يمثل الفقه قلب الإسلام، بل هذا القلب وهذا الجوهر إنما يمثله الإيمان، أو العلاقة الحرة بين الوعي
الفردي والحضرة الإلهية.
وليس لأي جماعة أيا كان ثقلها ، داخل الأمة، أن تزعم بأنها تملك الحق في التدخل بين العبد وربه أو بين الإنسان والخالق أو بين الوعي الإنساني ووصاله مع الله، لأن في ذلك انتهاك للوعي ذاته ولتلك العلاقة الضرورية بين الإنسان وخالقه.
سوروش يقترب هنا بالقياس لهذه القضية من المفكر التونسي عبد المجيد شرفي الذي يتأسف بدوره علي " أن الفكر الإسلامي قد استغرق كليا في التفكير في الفقه ". و قد أعاد سوروش بصورة خاصة الفلسفة إلي قلب المشروع الفكري الإسلامي ' بحيث صار تفكيره علي النص الديني أقرب منه لفلسفة الدين من التفكير الثيولوجي. علما بأن الثيولوجي مرتبط بعلوم الدين بينما ترتبط الفلسفة مباشرة بالوعي الإنساني. وهو قد نجح في مزاوجة هذه المناهج للتأسيس لوعي شمولي بحقيقة العلاقة بين الوعي والوحي.
وهل ثمة من إمكانية لتقاطع هؤلاء المجددين والمدارس العلمية الجديدة التي ظهرت في الفضاءات الغربية؟
- إذا واصلنا الحديث عن سوروش كنموذج في هذا الاتجاه، يكون في مقدورنا التأكد من إمكانية هذا التقاطع، ودون المساس كما أشرت بمصداقية انتماء مشروعه الشخصي إلي تربة التراث الإسلامي حيث يجد جذوره. فكما تشير الببلوجرافيا العلمية لسوروش، تقاطع مشروعه أكثر من مرة، مع مناهج فلسفة العلوم وأخذ عنها، خاصة عبر أعمال فيلسوف الفيزياء توماس كون، الذي كان قد نحت مفهوم الباراديجم، لتوضيح معني إن العلوم لا تتقدم أو تتطور في خط سير يذهب إلي الأمام بطريقة مطردة ثابتة لا رجعة فيها كما كان يتصور البعض، وأنها تأخذ خط سير مرصودا من نقطة بداية المعرفة إلي نقطة نهايتها، بل يمر العلم بعدة تغيرات، عبر صيرورة تطويره مرارا لجملة البارديجم، أي من الإطار الفلسفي الذي يستند إليه، سواء بالقياس إلي المنهج أو المفاهيم، وذلك بشكل دوري ومستمر، وهو ما نطلق عليه اسم " الثورات " في العلم. فسوروش سيوظف نظرية توماس كون، ليذهب للقول إن تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني بشكل عام، وهو يطبق حديثه هنا علي تاريخ الفكر الإسلامي ، يمكن أن يفهم كنوع متلاحق من الباراديجم. وهو يؤكد بالقياس لهذه الفكرة، وبالنظر لإشكالية معالجة النص القرآني بالاستعانة ببارديجم متغير، إن الذي يتغير ليس النص ولكن شروحاتنا عليه أو فهمنا لتفاصيله. وبذلك، فأن أي تغير ممكن في التصورات الثيولوجية بالنسبة له، تحتاج إلي تغيير ضروري في الباراديجم.
هل تعتقد إننا أمام عصر سيشهد ظهور باراديجم ثيولوجي جديد؟ وهل يكون هو البديل للأصولية أو الاستغراب؟
- كل هذه الأسماء والمحاولات التي أشرنا إليها، تكشف علي نحو لا شك فيه، عن ولادة هذا الباراديجم الإسلامي الجديد. وهي المحاولات التي تؤسس بشكل يصعب عكسه أو عرقلته لسلطة العقل في المشهد والخطاب الإسلامي المعاصرين. وكما أكدت عليه مطولا في الفصل الأخير من كتابي، ليس هذا العقل الذي يؤسس له هؤلاء، هو نفسه الذي يوظف للحديث عن العقلانية في الغرب، أي تلك العقلانية المادية، " العلماوانية ". بل كما يري محمد أركون "إن هذا العقل هو "عقل جماعي "، متغير، مستقبل "وهو خاصة متحرر من سلطة القمع الأصولي أو الاستلاب الغربي. علي أنه يأخذ مع ذلك بأروع ما في العقلانية الإسلامية التقليديةكما يمثلها رموز عظام أمثال الغزالي أو ابن رشد أو ابن سينا والكندي والفارابي أو ابن عربي. ...كما أنه يأخذ أو أنه يظل مفتوحا علي الأخذ من العقلانية الغربية كل ما هو رائع فيها، فلا أعتقد أن ثمة ما يمنع من الأخذ من بعض نماذج التفكير المتميزة عند إدغار موران كما في نظريته عن ""العقل المنفتح" أو ميشل بافيسولي في نظريته عن "العقل الحساس". والله أعلم.
ينصب اهتمامك البحثي بشكل خاص علي إشكالية التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، كما احتفل كتابك الأخير بهؤلاء الذين تسميهم" المجددين" في هذا الفكر. ماذا يعني لك هذا المفهوم بالذات؟ وما الذي دفعك للاهتمام به؟
- الذي دفعني للاهتمام بالتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، في سياق بحثي الأكاديمي في الفضاء الأوروبي نفسه، هو ما لاحظته من غياب أو تغييب كلي لنماذج التجديد والتطور التي تتم في بنية هذا الفكر ومناهجه، عن الجدل المعرفي القائم في أوروبا والغرب بشكل عام.
حيث استمر الحديث عن الإسلام والمسلمين، أو الفكر الإسلامي وكأن كل ذلك يمثل معطي جامدا لا يتحرك : و لا يتطور، بل إن الفكر الإسلامي يقدم بالأحري بوصفه ينتمي إلي "أصولية" متعصبة ورجعية. بحيث تم تجاهل كل المنتوج الفكري المعاصر، والمجدد الذي يسعي لمناقشة الإسلام من الداخل والبعث بعنفوانه الخلاق. بالمقابل كان السؤال عن وجود هذا النوع من المحاولات في الفضاء العربي الإسلامي كثيرا ما يطرح أمامي دون أن يكون عندي إجابة كافية، أو قادرة للتأكيد علي وجود محاولات فكرية عربية إسلامية تناقش الثورات العلمية الحديثة وتواكبها.
لذلك أخذت بالاهتمام بهذا المبحث، وتقصي احتمالات وجود أو عدم وجود تجدد أو تطور في الفكر الإسلامي؟ وإذا ما وجد أين وكيف هو؟ ومن هم رموزه؟
وقد تبين لي سريعا إن ثمة تيارات كثيرة مهمة، و محاولات ذات قيمة بحثية عالية : ليس فقط في العالم العربي، بل علي امتداد رقعة العالم الإسلامي، من تركيا إلي إيران إلي الهند . ...، وتأكد لي إن هناك نماذج من الفكر الإسلامي المجدد تضاهي باطروحاتها مستوي المحاولات الفكرية العالمية التي عرفتها المؤسسات الغربية ذاتها. وهو ما جعلني أطرح السؤال : لماذا إذن يتم التعتيم علي هؤلاء؟ وهل يأتي هذا الإقصاء من الداخل؟ أي بالقياس إلي سياسة تهميش مقصودة من داخل الفضاء الإسلامي نفسه، سواء السياسي الرسمي أم الديني الأصولي؟ أم إن ذلك ناتج عن إرادة غربية لإقصاء المحاولات الفكرية التقدمية في الفكر الإسلامي، بهدف الاستمرار في النظر إلي هذه الفضاءات وفق أحكام مقصودة وموظفة لأهداف مدروسة؟.
ولعل أولي مفاجآتي بالقياس لهذا المنتوج، هو تكاملية البنيان المنهجي الذي يربط بين جملة هذه المحاولات الفكرية، علي اختلاف لغاتها أو انتماءاتها الجغرافية أو الثقافية.
فهم يفكرون جميعا، داخل بنية الفكر الإسلامي ذاته، وليس من خارجه. وهم يعتمدون علي جملة الموروث الإسلامي ومصادره، أي ليس فقط علي بعض من معطياته، بل الأخذ به في تكاملية أيديولوجية وفكرية وتاريخية واحدة، سواء من ناحية التيارات الفكرية، أو المعارف الأساسية، من فقه وفلسفة وعلم كلام أو التصوف والعلوم البحتة....وهم من ناحية أخري علي علم ومتابعة وتوظيف للعلوم والعلوم الإنسانية في تطوراتها وثوراتها في الغرب المعاصر.
وفي حقيقة الأمر نجد أن واقع الخلق والتجديد في قلب هذه المحاولات الفكرية الإسلامية، إنما جاء بالقياس إلي هذين المعنيين بالذات، أي الانتماء العارف، والمخلص للفكر الإسلامي في تكامليته الخلاقة، والانفتاح علي التيارات الفكرية الغربية في تطورها العام. حيث استطاع هؤلاء الأخذ من التراث الإسلامي بأروع ما فيه، وأن يوظفوا من المعرفة الغربية وأدواتها العلمية الحديثة أروع ما فيها كذلك. وهو ما أدي إلي ولادة تيار أو تيارات إسلامية مجددة علي مستوي عالمي من الأصالة الفكرية والمنهجية والطروحات الفكرية.
هؤلاء من ناحية أخري يفكرون في فضاء وطني إسلامي مستقل، أي خارج ضغوطات الهيمنة الاستعمارية التي عرفتها محاولات الإصلاحيين الإسلاميين السابقة، مثل محاولات محمد عبده أو جمال الدين الأفغاني.
يفرق خطابك التحليلي للمحاولات الفكرية الإسلامية المعاصرة بين مفهوم التجديد الذي تستخدمه بحق المحاولات القائمة ومفهوم الإصلاح الذي أطلق علي المحاولات التي عرفها الفكر الإسلامي خلال القرن الماضي. ما الفرق بين المفهومين بالنسبة لك؟
- الفرق يكمن في مفهوم الإصلاح ذاته، الذي يعتمد ما هو قائم ويحاول إصلاحه، فأن المفكرين الجدد تجاوزوا مفهوم الإصلاح لصالح مفهوم التطوير والتجديد. أي أن المحاولات الفكرية المعاصرة لا تبحث في كيفية تحقيق الإصلاح، باعتباره هدفا مباشرا لطموحها، بل نجدها تنصب علي محاولة" فهم "الإسلام" بهدف صياغة أو إعادة صياغة مشروعه الحضاري بلغة عالمية معاصرة وبمفاهيم علمية معاصرة.
حيث كرست هذه المحاولات جهدها علي دراسة الموروث الإسلامي، وتتبع صيرورة الرسالة المحمدية خلال التاريخ، لمعرفة كيف وصل إلينا الإسلام اليوم علي ما هو عليه؟ أي أن مشروعهم يقوم بالأساس علي إعادة قراءة أو إعادة فهم كامل الموروث الإسلامي علي ضوء المعطيات العلمية المعاصرة.
علي أن هدف هذه المحاولة ليس تقديم " أرثوذكسية " جديدة بل السعي لتسليط الضوء وبالدرجة الأولي، علي مختلف التفسيرات التي تمت خلال الماضي. ووضعها، كما هي، في إطارها التاريخي، بما يمهد لإمكانية فهمها، ثم تحليلها. لأن الإسلام بالنسبة لهؤلاء المجددين، وكما يعبر المفكر الإيراني شيروش ن "هو بذاته تاريخ محاولة فهم الإسلام ".
توظيف المجددين الإسلاميين لأدوات البحث العلمي الغربي لقراءة الموروث الحضاري الإسلامي بهدف وضعه في سياق ديناميكية العصر القائم، ألا يحمل ذلك خطر الانزلاق بهذا الفكر نحو" الاستغراب "؟
- كثيرا ما يوجه مثل هذا النقد لهذه المحاولات من طرف الأصوليين بالذات، مع ذلك قد يمكن الرد علي هذا النقد ببساطة، وذلك بالعودة للتقاليد الإسلامية العريقة في التفكير و البحث. حيث لم يتحرج علماء الإسلام الكبار وفي قلب العصر الذهبي للحضارة الإسلامية وبحضور الصحابة الأتقياء والفقهاء الورعين، من توظيف الأدوات والمعارف العلمية المتطورة بالقياس لذلك العصر، لفهم وقراءة النصوص القرآنية أو البرهنة علي المعطيات الفقهية أو العقائدية. حيث وظف علماء الإسلام حينذاك ما توفر لهم من أدوات المعرفة العلمية، للبحث في المعارف القرآنية المباشرة مثل إشكاليات أسباب النزول أو الناسخ والمنسوخ أو الآيات المكية والآيات التي نزلت بالمدينة. ....وعندما يذهب علامة كابن عباس للقول : " إذا لم تفهموا معني في القران فأذهبوا و ابحثوا عنه في الشعر الجاهلي "، إنما يؤكد هنا علي ضرورة توظيف معايير العلم الأدبي لفهم النص القرآني نفسه وذلك منذ القرن الأول للإسلام.
ونحن نعرف إن معجزة الرسالة المحمدية ذاتها كانت بلاغة النص القرآني، بما أسس لتطور خلاق ومذهل لعلوم البلاغة منذ ذلك العصر والذي كان قد قام علي قواعد بلاغية وأدبية استعار المسلمون الكثير منها مما كان متوفرا في ذلك الوقت، ليتم تطويره من خلالهم بشكل يفوق الوصف، والذي أسس لعلم البلاغة بكل عنفوانه التاريخي والأدبي و الإنساني الذي ما زال يؤثر ويتفاعل مع بنية الفكر الإنساني بأسره. فعلم البلاغة مازال يترك بصماته علي كافة العلوم الإنسانية الحديثة، ويتفاعل مع مختلف المدارس والتيارات الفكرية المعاصرة، ليس فقط العلوم الأدبية بل كذلك علوم اللسانيات والنقد الأدبي والنقد التاريخي و"الأرمونوتيك" أو علم تأويل القران أو الأنتربولوجيا والأنتربوجيا الثقافية أو الاجتماعية، بل علم الاجتماع ذاته....
وفق هذا " الديناميك " نفسه، فإن الفكر الإسلامي اليوم، بقدر ما يأخذ من الفكر الغربي من أدوات أو مناهج فأنه قادر علي التأثير فيه والتفاعل معه في نفس الوقت، بل ان أحد أهم مردودات هذه المحاولات التجددية الإسلامية هي إعادة الإسلام إلي بعده الكوني بإطلاق.
وبأي معني؟
- يجب ألا ننسي بأنه، رغم إن كلام الله وقرآنه قد نزل بالفعل بلغة محددة، ألا وهي اللغة العربية التي شرفها الله بهذا التكريم، لكن الرسالة الإلهية هي رسالة عالمية ولكافة أبناء البشر. لذلك فرغم إن الإسلام قد نشأ في إطار ثقافة بذاتها، إلا إن رسا لته تتجاوز حدود هذه الثقافة، وتذهب باتجاه البشرية بأسرها، وهو ما يتطلب ضرورة "فهم" وتقديم النص القرآني، وجملة الموروث المحمدي من الحديث والسنة، وفق معايير وأدوات وحاجات عالمية وإنسانية كونية كلية. علي أن أي محاولة لفهم" النص الأصلي " بهذا المعني، تحتاج بالضرورة البدء بفهم العقلية التي كانت تطبع الثقافة التي احتضنت الرسالة الإلهية، و فهم الجغرافيا والثقافة والتاريخ العام وتاريخ القبائل وتاريخ الأفكار...والتي هي المقدمات الضرورية لفهم حذافير وجوهر الرسالة المحمدية. ومن ثم التأسيس لإطار معرفي إنساني كوني يكون فيه بمقدور المتأمل في النص القرآني، وأيا كان مكانه في الأرض، أن يعيش ذلك التفاعل الخلاق مع كلام الله.
واستخدام مفهوم الزمانية هنا للحديث وإمكانية فهم النص القرآنيوفق لغة وإمكانيات فكرية عصرية، أو بلغة معاصرة، لن ينقص من الإسلام في شيء ولن يمس القيمة العظمي لهذه الرسالة الخالدة. وفق قدسية كلام الله نفسه وقدرته بذاته علي التعالي فوق كل نقص، وهو المنزه عن كل نقص. وكما وعد تعالي هو محفوظ بإطلاق إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
ولكن ألا يبدو هنا المنحي الذي يدعو لتوظيف أدوات المعرفة العلمية للبحث في الموروث الإسلامي، خاصة الأدوات التي تطورت في مناخات الغرب، و كأنه يقدم لها باعتبارها لا شبهة فيها، أو أنها لا تتطلب اي نقد منهجي؟
- علي العكس يقوم منهج المجددين الإسلاميين بالأساس علي منهج نقدي سواء بالقياس إلي مراجعة الذات والتراث والموروث الحضاري والعلمي الإسلامي، أو بالقياس إلي أدوات ومناهج البحث الموظفة لهذه المهمة، وهم في هذا السياق، علي وعي بأن الأدوات والمفاهيم العلمية والمنهجية في صيرورة مستمرة، ولهذا نجدهم يؤكدون علي ضرورة الأخذ في الاعتبار عدم إعطائها معني أو سلطة نهائية. وأن علي المسلمين أن يكونوا علي حذر فيما يتعلق وتوظيف هذه المفاهيم والمناهج أو فرضياتها المختلفة للتفكير علي النص الديني.
حيث ترتبط مختلف مفاهيم المناهج العلمية المتاحة، بدورها " بباراديجم" مستند إلي فلسفات وأطر ثقافية متعددة بحيث يتطلب توظيف هذه الأدوات، ليس فقط نظرة نقدية علي مضامينها، ولكن أيضا التأكد من التوازن الضروري، في سياق هذا البحث المعرفي الخلاق، بين النص / والمتلقي والأدوات الموظفة لهذه المحاولة. و هذا التكامل نفسه بين هذه المعطيات هو ما يؤسس ويؤكد للنهضة الفكرية التجددية الإسلامية الممكنة. فالخطاب الإسلامي نفسه، بالأخذ بكل ذلك، سيشهد تغيرا جذريا في سياقاته وديناميكيته. بحيث لن تستمر مقولة "إن الإسلام قال هذا "ما يحكم منطق الحوار في داخل الفكر الإسلامي، بل بالأحري وجهة نظر كل مسلم وطريقة فهمه الخاصة للنص القرآني هي ما سيأخذ محل المحرك الفعال للصيرورة النهضوية داخل بنية الفكر العربي أو العقل العربي.
هل هي دعوة لفهم فردي للنص الديني؟
- هي بالأحري دعوة لتفعيل "القلق الفردي" بشأن فهم النص الديني أو النص القرآني بالذات، وفق معايير ذاتية بالدرجة الأولي. وهو القلق الذي سيقود المؤمن للاجتهاد والخلق والإبداع بنفس المعني الذي نتصور فيه هذا القلق يقود المؤمن نحو الجهاد ومحاولة تغيير الأشياء.
فالنص القرآني بذاته هو نص محايد ولا يدخل في ديناميكية التأثير إلا عند دخول المؤمن في علاقة حميمة مع تفاصيله. وهو محدود كنص :""مكون من مائة وأربعين صورة وعدد محدود من الآيات الكريمة ""، لكنه لا متناهي المعني ولا متناهي التأثير، وهو ما تنحو للتأكيد عليه المحاولات التجددية الحديثة في الفكر الإسلامي. والتي تري في استمرارية التفسير والتأويل للنص القرآني حقا وواجبا علي كل مسلم بهدف إحياء هذا الدين الحنيف وضمان فعاليته التاريخية. مع العلم إن هذا الإشكال ليس جديد علي تاريخ الفكر الإسلامي كما يؤكد قول الإمام علي رضي الله عنه :""حاربناهم علي تنزيله واليوم نحاربهم علي تأويله ".
وهل لا نخشي من تعددية لا متناهية في فهم وتفسير القرآن بتعدد هؤلاء الذين سيسعون للتفكير علي النص القرآني؟
- لا يجب أن تكون التعددية موضوع خشية بحال، بل إن عظمة وعنفوان الأمة الإسلامية كان وسيكون من خلال هذه التعددية الخلاقة، في مدارس التفكير في أساليب التفسير في لغات هذا التفسير....ولا يجب أن تفهم هذه التعددية كتهديد لوحدة الصف الإسلامي أو الأمة الإسلامية، علي العكس إن أي محاولة لقمع الاجتهاد في بنية الفكر الإسلامي ومحاولة احتكار حق البث في شؤون هذا الدين ، الذي هو للمسلمين كافة هو ما يشكل خطر إمكانية انفصام عري الأمة.
ينحو مشروعك الفكري شخصيا لتقديم رموز التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، باعتبارهم روادا لحركة تجديد ضرورية في الفكر العربي /الإسلامي. من هم هؤلاء الرموز؟
- يصعب التعرض خلال مقال واحد أو كتاب واحد لكافة هؤلاء المجددين الذين كان لهم الفضل في مباشرة التفكير والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، لذلك كنت قد اقتصرت في كتابي الذي خصصته لتسليط الضوء علي هذا المنتوج الفكري التقدمي في الإسلام المعاصر علي بعض النماذج المهمة، بالقياس إلي عدة انتماءات جغرافية أو لغوية أو ثقافية، من السنة والشيعة من العرب أو الأتراك أو الهنود أو من بلدان غير إسلامية، كان منهم علي سبيل المثال عبد الكريم سوروش من إيران وفضل الرحمن من باكستان ومحمد أركون من الجزائر وفريد إسحاق من أفريقيا الجنوبية وعبد المجيد شرف من تونس وأمين الخولي ومحمد خلف ونصر حامد أبو زيد من مصر. ولكن هناك كثيرين غيرهم ، لم يتسع لي الوقت للتعرض لهم خلال الكتاب، منهم أشقر علي الخير من الهند أو إبراهيم موسي من الولايات المتحدة أو محمد شحرور من سوريا. بالإضافة إلي أنني لم أتعرض للنساء المجددات في الفكر العربي المعاصر لأن ذلك يحتاج لعمل قائم بذاته من جهة ولأنني أود لو أن سيدة باحثة هي من تقوم بهذه المهمة التي تتعلق مباشرة بالثيولوجي النسائي الإسلامي.
ووفق أي معيار تصنف كل هؤلاء باعتبارهم مجددين؟
- للإجابة علي هذا السؤال يجب أن نأخذ في اعتبارنا أولا معني التجديد في الفكر الإسلامي، والذي يؤسس لمشروعية محاولة "الخلق" من طرف الأمة في سياق موروثها الثيولوجي نفسه ، مع استمرارها وفية للقيم الأساسية للإسلام،. والذي أنتج بالقياس لهذا المعني عدة تيارات فكرية مهمة منها :الثيولوجي الإسلامي للتحرير الثيولوجي النسائي الإسلامي أو التيار المجدد باتجاه إيكولوجي إسلامي . و هي المحاولات التي تطمح بالدخول بالأمة إلي عصر التحديث الإسلامي، والذي يعني قدرة الإسلام علي بلورة فكر إنساني تقدمي، مقروء، باعتباره كذلك، من هؤلاء الذين يؤمنون بهذا الدين، أو من هؤلاء الذين لا يؤمنون به. أي علي النحو الذي يجعل النص بذاته قادرا علي دفع الناس، أيا كان انتماؤهم، للتفكير بموضوعية حول الإسلام . وهو ما نجح هؤلاء المجددون في تحقيقه.
وفق هذه النماذج المجددة التي يطرحها كتابك كيف يتبلور هذا الفكر الإسلامي الإنساني العالمي المفتوح علي أفق الإنسانية، رغم استمرارية ارتكازه المطلق للإسلام؟
- إذا أخذنا مشروع فريد إسحاق المسلم الأسمر الجنوب أفريقي، كنموذج لهذا الفكر، نجد إن محاولته الفكرية تدور حول إشكاليتين أساسيتين :الأولي هي تقديم الإسلام في سياق تعددية فكرية خلاقة، والثانية التبشير بالإسلام كمنهج لمقاومة العولمة، والظلم" الاقتصادي" بالذات.علي إن جذور كلتا الإشكاليتين نجدها منغرسة في أعماق تاريخه الشخصي وتاريخه الاجتماعي والذي دفعه للبحث عن الحل داخل الإسلام نفسه.
حيث ترعرع فريد إسحاق بضاحية كادحة من ضواحي مدينة كاب تاون التي يسكنها السود في أفريقيا الجنوبية، تحت قمع ووجع التفرقة العنصرية وغياب العدالة الاجتماعية. وكأن هذا القدر لا يكفي في ذاته سيحرم فريد من الحضور الأبوي حيث سيغادر والده الدار وهو لم يتعد شهرا من عمره. وقد عرف فريد إسحاق وفق هذا المناخ ضراوة التفرقة العنصرية والحرمان الاقتصادي مبكرا، لكنه سيدرك بالإضافة إلي ذلك، أن مأساة الأسود تكون مضاعفة، لو كان بالإضافة إلي سواد بشرته ، علي دين الإسلام.
وأمام هذا الظلم المزدوج الذي يتعرض له المسلمون السود في جنوب أفريقيا، شعر إسحاق بالحاجة لمساعدة إخوانه في الإسلام بالبحث عن مخارج روحانية أو طرائق للولوج لعالم الحق والعدل والإحسان، الذي يعد الله به عباده الصالحين، وذلك داخل النص القرآني نفسه. وهو سيوظف مفاهيم الإحسان والتكافل والرحمة أو العدل لخدمة ونجدة المظلومين والمسحوقين. وكان نضاله الفكري في هذا الاتجاه مفتوحا علي أفق الإنسانية بالمعني الكلي للكلمة، حتي إنه كان يناضل يدا في يد مع إخوانه الرهبان ورجال الدين المسيحي أو رموز الأديان الأخري أو دعاة الخير والإحسان من العاملين في الحركات الإنسانية، من أجل إخراج السود المعذبين من مأزق اليأس الإنساني. وقد كان يوظف "الكلم " القرآني كخطاب محرر ودافع للإرادة الإنسانية نحو مراتب من العلو والعنفوان، بما يجعلها قادرة علي مواجهة أي سحق أو اضطهاد. والقيم القرآنية العالية لكتاب الله الكريم قادرة بالنسبة له علي خلق المكان المناسب والضروري للحوار"والتفاعل مع الحدث ومع الآخر، أو التقاطع مع ثقافات روحانية أخري.
وهو يوظف هنا مفاهيم الثيولوجي الإسلامي للتحرير، للتأسيس لطريق ثالث بين الموقف الأصولي الذي يخلط بين السياسة والدين والموقف الاستغرابي الذي يحاول أن يفصل بينهما بشكل قاطع. وفي الوقت الذي تحترم فيه نظرية فريد إسحاق استقلالية كل من الدين والسياسة، إلا أنه يحاول أن يقاطع بينهما. خاصة بالقياس إلي مباحث العدالة الاجتماعية، أو حوار الحضارات أو التعايش بين الأديان. ..وهي المفاهيم التي نجدها معروضة بوضوح في كتابه القرآن، التحرير، التعددية. تصور إسلامي للتضامن بين الأديان ومقاومة الاضطهاد .
سوروش وجه آخر من المجددين الذين ركز عليهم كتابك باعتباره أهم رموز المشهد الثقافي الإيراني المجدد. ونحن نعرف أن نظريته الفلسفية تقوم علي فكرة : "إن أي تطور نوعي قد تعرفه الساحة الفكرية الإسلامية، لن يقوم إلا علي "إصلاح كلي " خلاق قائم علي الوعي الحر للمسلمين " وهو ما يدفع التحليلات الأوربية المختلفة لجعله أول مفكر "إصلاحي " في إيران. ما رأيك في ذلك؟
- الذي أسس له مشروع سوروش بشكل جوهري هو البحث عن تحرير القرآن من سطوة الفقه أو أن مشروعه يقاوم القراءة الفقهية الصارمة والمتعصبة للنص القرآني. وبالنسبة له لا يمثل الفقه قلب الإسلام، بل هذا القلب وهذا الجوهر إنما يمثله الإيمان، أو العلاقة الحرة بين الوعي
الفردي والحضرة الإلهية.
وليس لأي جماعة أيا كان ثقلها ، داخل الأمة، أن تزعم بأنها تملك الحق في التدخل بين العبد وربه أو بين الإنسان والخالق أو بين الوعي الإنساني ووصاله مع الله، لأن في ذلك انتهاك للوعي ذاته ولتلك العلاقة الضرورية بين الإنسان وخالقه.
سوروش يقترب هنا بالقياس لهذه القضية من المفكر التونسي عبد المجيد شرفي الذي يتأسف بدوره علي " أن الفكر الإسلامي قد استغرق كليا في التفكير في الفقه ". و قد أعاد سوروش بصورة خاصة الفلسفة إلي قلب المشروع الفكري الإسلامي ' بحيث صار تفكيره علي النص الديني أقرب منه لفلسفة الدين من التفكير الثيولوجي. علما بأن الثيولوجي مرتبط بعلوم الدين بينما ترتبط الفلسفة مباشرة بالوعي الإنساني. وهو قد نجح في مزاوجة هذه المناهج للتأسيس لوعي شمولي بحقيقة العلاقة بين الوعي والوحي.
وهل ثمة من إمكانية لتقاطع هؤلاء المجددين والمدارس العلمية الجديدة التي ظهرت في الفضاءات الغربية؟
- إذا واصلنا الحديث عن سوروش كنموذج في هذا الاتجاه، يكون في مقدورنا التأكد من إمكانية هذا التقاطع، ودون المساس كما أشرت بمصداقية انتماء مشروعه الشخصي إلي تربة التراث الإسلامي حيث يجد جذوره. فكما تشير الببلوجرافيا العلمية لسوروش، تقاطع مشروعه أكثر من مرة، مع مناهج فلسفة العلوم وأخذ عنها، خاصة عبر أعمال فيلسوف الفيزياء توماس كون، الذي كان قد نحت مفهوم الباراديجم، لتوضيح معني إن العلوم لا تتقدم أو تتطور في خط سير يذهب إلي الأمام بطريقة مطردة ثابتة لا رجعة فيها كما كان يتصور البعض، وأنها تأخذ خط سير مرصودا من نقطة بداية المعرفة إلي نقطة نهايتها، بل يمر العلم بعدة تغيرات، عبر صيرورة تطويره مرارا لجملة البارديجم، أي من الإطار الفلسفي الذي يستند إليه، سواء بالقياس إلي المنهج أو المفاهيم، وذلك بشكل دوري ومستمر، وهو ما نطلق عليه اسم " الثورات " في العلم. فسوروش سيوظف نظرية توماس كون، ليذهب للقول إن تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني بشكل عام، وهو يطبق حديثه هنا علي تاريخ الفكر الإسلامي ، يمكن أن يفهم كنوع متلاحق من الباراديجم. وهو يؤكد بالقياس لهذه الفكرة، وبالنظر لإشكالية معالجة النص القرآني بالاستعانة ببارديجم متغير، إن الذي يتغير ليس النص ولكن شروحاتنا عليه أو فهمنا لتفاصيله. وبذلك، فأن أي تغير ممكن في التصورات الثيولوجية بالنسبة له، تحتاج إلي تغيير ضروري في الباراديجم.
هل تعتقد إننا أمام عصر سيشهد ظهور باراديجم ثيولوجي جديد؟ وهل يكون هو البديل للأصولية أو الاستغراب؟
- كل هذه الأسماء والمحاولات التي أشرنا إليها، تكشف علي نحو لا شك فيه، عن ولادة هذا الباراديجم الإسلامي الجديد. وهي المحاولات التي تؤسس بشكل يصعب عكسه أو عرقلته لسلطة العقل في المشهد والخطاب الإسلامي المعاصرين. وكما أكدت عليه مطولا في الفصل الأخير من كتابي، ليس هذا العقل الذي يؤسس له هؤلاء، هو نفسه الذي يوظف للحديث عن العقلانية في الغرب، أي تلك العقلانية المادية، " العلماوانية ". بل كما يري محمد أركون "إن هذا العقل هو "عقل جماعي "، متغير، مستقبل "وهو خاصة متحرر من سلطة القمع الأصولي أو الاستلاب الغربي. علي أنه يأخذ مع ذلك بأروع ما في العقلانية الإسلامية التقليديةكما يمثلها رموز عظام أمثال الغزالي أو ابن رشد أو ابن سينا والكندي والفارابي أو ابن عربي. ...كما أنه يأخذ أو أنه يظل مفتوحا علي الأخذ من العقلانية الغربية كل ما هو رائع فيها، فلا أعتقد أن ثمة ما يمنع من الأخذ من بعض نماذج التفكير المتميزة عند إدغار موران كما في نظريته عن ""العقل المنفتح" أو ميشل بافيسولي في نظريته عن "العقل الحساس". والله أعلم.
التعليقات