أمين الامام
&
&

&
نام العالم عميقاً، قبل أن يصحو فجأةً على ضجيج القانون، بعد أن أيقن الجميع، أنّ ذلك "الفقيد" كانوا قد واروه في التراب، مع أخطر كوارث ونفايات الأرض، ودُفنِت ملامح نصوصه وبنوده بكلّ جدليّاتها وخلافاتها - مع سماحة الإنسانيّة، وهدوء الأمن والاستقرار، وروعة المناخ، وأشياء جميلة كثيرة أخرى، وقُبِرت "فقراته" على أشلاء متعدِّدة، ما بين نيويورك ولاهاي وكيوتو، وربّما مواقع أخرى، ليس ضروريّاً ذكرها جميعاً (!).
لا أعتقد أن ما يبطِّنه الاستهلال التمهيدي أعلاه، يحتاج إلى مذكِّرة تفسيريّة، فقد سبق لي الإشارة إلى إجحاف الدولة الأكبر في العالم، في حقّ تهرُّبها من التوقيع، في الكثير من الاتفاقات والمواثيق الدوليّة الهامة، مثل اتفاق كيوتو المناخي، واتفاقيّة خفض التسليح النووي، وبالإضافة إلى نطاق المحكمة الجنائيّة الدوليّة، و.....، و.....، وغيرها من الالتزامات القانونيّة والتشريعيّة، في مقال سابق منشور بتاريخ 28/4/2003، بعنوان: [الحُكْم العربي مُصفَّد بسلاسل من "لاهاي"]، ومن الطبيعي أن يتطرّق ذلك المقال، إلى موقف أهل الحُكْم العربي، من تلك المشاريع القانونيّة المعنيّة، لا سيما المحكمة الجنائيّة الدوليّة، ممّا يوضِّح انتباه "كلّ" هؤلاء، إلى سيادة القانون، في هذا الوقت تحديداً، وهم "الشاخرون" إلى جواره... مع الاعتذار للوصف (!).
مع استيقاظ رجل الكهف "صدّام حسين"، من نومته الهروبيّة "الدكتاتوريّة" (إذا صحّ الوصف والتعبير)، صحا الكثيرون في المنطقة العربيّة، ومناطق الليبراليّة الغربيّة، على وتر "القانون"، حينما يكرِّس "تقسيمة" الوعي ظاهريّاًَ أو شكليّاً، بأهمِّية الالتزام بالشرعيّة والعدالة، في ظلّ النظام العالمي الجديد، بينما في الأصل، تنكشف "عورة" الهروب، من معظم الالتزامات والمشاريع القانونيّة.
من الطبيعي إن كان هناك التزام جاد، بأهمِّية المحكمة الجنائيّة الدوليّة، التي لا تزال الحكومتان الأمريكيّة والإسرائيليّة (ومعها 20 حكومة عربيّة)، تتحاشى الانضمام إليها، أن يخضع ديكتاتور العراق صدّام حسين، إلى المحاكمة تحت إشرافها، لأنّها محكمة خرجت من رحم الأمم المتحدة، وتتخصّص في جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعيّة، وجرائم ضدّ الإنسانيّة، وهذا ما يتطلّبه وضع صدّام. لكن حكومة بوش، لا تودّ أن يُذكَر في حضرتها، اسم تلك المحكمة أصلاً، وأيضاً لا تنتمي إليها حكومة العراق (الجديدة المؤقّتة، أو القديمة المخلوعة)، وإن أقدم مجلس الحكم الانتقالي في العراق، على إنشاء محكمة محليّة، في نفس الإطار، مع أنّ هذه المحاكم، لا يتمّ تأسيسها لأهداف محلِّية، وإنّما لمقاضاة انتهاكات دوليّة متباينة (تحت إشراف دولي مُعترَف به قانونيّاًً)، كما في حالة المحكمة البلجيكيّة، التي ما فتئت تلقى غضباً عارماً، من رئيس الوزراء الإسرائيلي "الدموي"، أرييل شارون (لأسباب لا تحتاج إلى توضيح بالطبع)، حتّى بعد أن أُلغِيت، بضغوط معروفة الجانب (!).
بكلّ وضوح، عاد "الخيّاطون" إلى تفصيل "قمصان القانون"، التي تليق بأجساد الأحداث التي تهمّهم، مع أنّهم رموا به عرض الحائط، قبل 9 أشهر مضت، من خلال تجاوزهم للشرعيّة الدوليّة لـ"الأمم المتحدة". هذا النفاق القانوني، لا يزال أحد أهمّ الأزمات، التي يعاني منها ضعفاء العالم "قليلو الحيلة"، أمام السادة الأقوياء، طالما يمتلك هؤلاء (الأقوياء طبعاً!)، سلطة القرار دائماً، في كلّ الأروقة الرسميّة وغير الرسميّة، القانونيّة وغير القانونيّة.

تفصيل قميص القانون (كما في وضعيّة التذكُّر الطارئ، المُشار إليها أعلاه)، من قبل "حائكيه وحابكيه""، يربطنا بصفة أو بأخرى، بأشهر قميصين في التاريخ بأسره، هما "قميص يوسف" و"قميص عثمان". فالأول له ما له من دلالات الخيانة، والثاني يلخِّص معظم شفرات ورموز الفتنة، وهذا هو أغلب الظن فيما يبدو.
سؤال ساذج:
تُرى، ما هي دلالات قميص القانون، الذي ينتظر محاكمة رئيس العراق المخلوع (؟).
قبل أن نبحث عن أيّ إجابة، لماذا لا نسمِّيه "قميص صدّام" (؟).
شخصيّاً، وبعيداً عن أي معالم للسخريّة، فإنّ دلالات القميص المعاصر، الذي لا يجب أن يخضع بالضرورة لقوانين الموضة، تجمع بين ما دلّ عليه قميصا يوسف وعثمان، مع سحب حرف واحد من كلّ مفردة أو دلالة، لتصبح المفردتين أو الدلالتين الجديدتين هما: "الخانة"، و"الفتّة"... ولكم أن تتخيلوا عمق الدلالة في الحالتين، إن شئتم (!).

ملاحظة صغيرة:
شركات "استثمار الكوارث والأحداث"، التي سارعت بتصميم دُمْية، عن شكل صدّام "الكهفي"، وهو مقبوض عليه، وغابة شعر على رأسه ووجهه، عليها أن تفكِّر سريعاً، في تصميم "قميص صدّام"، بما يتناسب مع الدلالتين أعلاه، على ألاّ تنسى شراء حقّ الاستفادة من هاتين الدلالتين "المُحسَّنتين" (!).
قبل أن أختم مقالتي هذه، شاهدت بالأمس (17 ديسمبر)، حلقة من برنامج "بلا حدود"، في قناة "الجزيرة" القطريّة، كانت تتحاور مع القاضي العربي المصري د. فؤاد عبدالمنعم رياض (قاضٍ سابق في المحكمة الدوليّة لمجرمي الحرب)، ومعه أي البرنامج أدركت أنّني لم أخطئ اختيار قالب القانون (أو قميصه، إن شئتم)، من أجل تناول حدث الساعة، بعد اعتقال الرئيس العراقي السابق. هذا القاضي العربي المسلم، الذي تمّ اختياره بنزاهة، من أجل أوّل محكمة من نوعها، تحت إشراف مجلس الأمن الدولي (الأمم المتحدة)، لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا السابقة، ما بين عامي 1999 و2000، أكّد أن محاكمة أي رئيس أو قائد، في أي دولة في العالم، يجب أن تتم في إطار محكمة دوليّة، وليس أنسب من المحكمة الجنائيّة الدوليّة، القائمة على اتفاق روما الحديث، واتفاق جنيف القديم. وأوضح أن محاكمة الرئيس العراقي المخلوع، يجب ألاّ تخرج عن ثلاثة اعتبارات: الاعتبار التاريخي، الاعتبار الدولي، واعتبار العدالة. وتمسّك د. رياض برأيه، في أنّ أيّ نظام جديد، لا يحقّ له محاكمة النظام الذي سبقه (أي: محاكمة المنتصر للمهزوم، كما في حالة الثورة الفرنسيّة).
كم كان ذلك القاضي العربي واعياً ونبيلاً، وهو يصمِّم على تحويل محاكمة كهذه، إلى صيغة تاريخيّة، تتحوّل مثالاً يُحتذَى به، من أجل ردع بقيّة النماذج الحاكمة، التي ترتكب جرائم مماثلة ضدّ الإنسانيّة، أو جرائم إبادة وحرب. لهذا لم يغفل البرنامج، توضيح وجه الشبه بين ما حدث في سربرنيتسا (البوسنة)، وجِنين (فلسطين)، بعد أن حكم د. رياض وزملائه، على قادة الإبادة في سربرنيتسا بإدانة عادلة، أوصلتهم إلى الحكم الذي يتناسب مع جرائمهم بالطبع، وبين تغاضي "سيِّدة العالم" (عبر ارتداء ثوب "الأمم المتحدة"، كالعادة!)، عن إدانة السفّاح شارون بشأن جِنين.
عزيزي يا من تقرأ، أدانت الهيئة القضائيّة الدوليّة، التي شارك فيها د. رياض، مجرمي سربرينتسا ببند الإبادة الجماعيّة، المنبثق عن قانون قديم بتاريخ 1800 (على ما أظنّ)، عن إبادة الجنس (أي: جنس بشري بعينه)، ولم تُدِن أي جهة، جرائم شارون في جنين ونابلس وطولكرم ورام الله وغزّة ورفح، والكثير من المدن والقرى الفلسطينيّة، في إطار بحثه وزملائه، عن إبادة هذا الشعب (صاحب الحقّ والأرض)، إن وجدوا الغطاء المناسب... إلاّ أن الأخطر من كلّ هذا، أمر التغاضي عن المحاكمة التاريخيّة، بشأن مؤسِّسي دولة الولايات المتحدة، قبل أكثر من 200 عام، حينما أبادوا جنس الهنود الحُمْر (تقريباً)، أو على الأقلّ أبادوا قبائل بأكملها، من ذلك الشعب صاحب الحقّ والأرض (!).
التاريخ يكرِّر نفسه، بشأن القضيّتين التاريخيّتين للهنود الحُمْر والفلسطينيين. وبين الجُناة في الحالتين اشتراك وشِراك، يجمعها في إدارة العالم الراهن، تحت راية المكر "الأمريكائيلي"، حتّى يفيق الغافلون "الشاخرون"... وكفى (!).


طالعوا المقال السابق، المُشار إليه في مطلع هذه الكتابة، من خلال هذا الرابط:
http://www.amin.org/views/amin_alimam/2003/apr28.html
كاتب صحافي سوداني
[email protected]