مازن عباس
&
&
&
لا ادري لماذا في الفترة الأخيرة بدأت ألاحظ تراجع في موضوعية إيلاف في التعاطي مع الأوضاع الروسية فتارة يدور الحديث عن صبي روسي مريض نفسيا وأزماته الجنسية، وتارة يدور الحديث عن مشاركة الجالية العربية مزعومة في انتخابات البرلمان الروسية او عن فزع موسكو من ذكري ميلاد ماوتسي تونج،وما إلى ذلك من موضوعات يمكن القول أنها من خيال موقع إيلاف،والمشكلة أن هذا الخلل ليس فقط في ما ينشره موقع إيلاف،وإنما يكاد يكون منتشرا في أغلبية وسائل الأعلام العربية. وأتذكر بهذه المناسبة تعليق مصور تلفزيوني (سيرجي) كان يعمل معي في تغطية أحد الأحداث السياسية في روسيا،عندما قال لي: أحد زملاءك بعد بحث طويل دعاني لتصوير مجموعة من مدمني الخمر وهم يحتفلون براس السنة الميلادية،ماذا بكم يا معشر الصحفيين العرب..الكثيرون منكم دخلوا منازلنا،وتزوجوا من روسيات وعاشوا معنا حياة هادئة محترمة..لماذا تبحثون عن الظواهر المريضة وغير الطبيعية لتقدموها لمشاهدين في بلدانكم وكأنها مثال عن أسلوب الحياة الروسية؟ وانتم تعيشون معنا وتشاهدون كيف نحيا حياتنا اليومية بشكل طبيعي وعادي لا يختلف كثيرا عن أسلوب حياتكم في بلدانكم،لماذا تمارسون التضليل الإعلامي؟
&ولم أخض نقاشا مع (سيرجي) ولكن عبارته عن التضليل الإعلامي ظلت عالقة في ذهني،ومع اعتقال صدام والSHOW الذي نظمته الفضائيات والصحافة العربية،شعرت بأزمة مؤسساتنا الإعلامية،وعدت بالذاكرة إلى مرحلة الحرب الامريكية في العراق،وحملات الفضائيات و الصحافة العربية التي كانت تتحدث عن اكتشاف جرائم صدام و سياسته الدموية وعن المذابح التي كان يقوم نظامه بها، وقفز إلى ذاكرتي مسلسل بن لادن الأمريكي،ثم مسلسل صدام،وتذكرت عندما كانت بعض الفضائيات تريد استضافة شارون في بث مباشر وما قامت به الفضائيات الأخرى من استضافة لقادة إسرائيليين علي شاشاتها تحت عنوان الموضوعية والسبق الصحفي والموضوعية في نقل الحدث و وجهات نظر الأطراف المتنازعة،وتذكرت أيضا الصراع علي تسمية أطراف النزاع في الشيشان(مقاتلين)..(انفصاليين)..(مجاهدين) وذلك علي خلفية الموضوعية في التعامل مع الحدث،بل أن البعض ذهب لاعتبار أبو سياف"مجاهد" في نفس الوقت الذي يرفع فيه شعار الموضوعية،ومر في مخيلتي أحداث جورجيا التي اعتبرها الإعلاميون العرب ثورة بيضاء(وفق معايير الموضوعية في نقل الحدث وحرفية المهنة)،و فجر اعتقال صدام هذه الذكريات لأنه كان قمة المهزلة والتضليل!! ولم أجد سوي تسمية تاريخية لهذا النوع من الأداء الصحفي (صحافة الإثارة) أي الصحافة التي تنافس المسلسلات البوليسية الامريكية،التي عادة ما تبدأ بمشهد قتل أو إطلاق نار لتشدك معها حتى النهاية،وبعد أن ينتهي المسلسل تشعر انك لا تتذكر منه شيئا،لأنه تافه ولا يستهدف اكثر من شغل ذهنك لفترة محددة وإفراغه من آية أفكار أخرى،وبالتالي المسلسل الأمريكي اقل خطورة من أعلام الإثارة العربي،لان هذا الأعلام لا يجمد عقلك فحسب وإنما يركز اهتمامك علي قضايا هامشية ليس لها أي تأثير علي المشكلة الأساسية،ويكسر كافة الحواجز النفسية في اللاوعي،والتي بنيتها أنت بنفسك بشكل واعي ضد العديد من الأطراف أو الأشخاص استنادا لموقف وطني تدافع عنه.
&فعندما نستضيف شارون أو بيريز علي شاشات الفضائيات العربية،هو بالتأكيد سبق صحفي أن يتحدث مسؤول إسرائيلي عبر وسائل الأعلام العربية إلى المشاهدين العرب،ولكن من سيحقق هذا السبق شارون أم وسيلة الأعلام؟ وماذا سيقول شارون باستثناء تبرير سياساته الهمجية والعدوانية حتى يحمل هذا الحوار صفة السبق الصحفي؟ الأهم من هذا وذاك..هل أصبحت وسائل الأعلام العربية تنتمي إلى هونولولو أو كولالمبور حتى تصبغ نفسها بصفة الحياد الموضوعي لتنقل لمشاهديها وجهات نظر بين أطراف النزاع أم انه مازالت توجد ثوابت في القضايا العربية؟ أو لعل من يعمل في وسائل الأعلام العربية يري انه لابد من إعادة النظر في ثوابت الموقف العربي،وقد يكون هذا الحوار مشروع..! ولكن هذا السلوك بالتأكيد يكسر الحاجز النفسي كما أراد الرئيس (المؤمن) أنور السادات و يشكل بداية لتطبيع العلاقات مع رموز إسرائيل.
&ولعل الشأن العراقي كان معبرا بشكل اكثر وضوحا عن حالة التضليل الإعلامي عندما أعلنت الفضائيات والصحف العربية عن اكتشاف المذابح التي كان ينظمها صدام حسين، بعد مرور اكثر من عشرين عاما من الجهود المكثفة التي بذلت من قبل القوي الكردية و الدينية العراقية والشيوعيين،بل وحتى من البعثيين المنشقين عن صدام،إضافة للحقائق التي كشف عنها أقارب صدام الهاربون من بغداد منذ سنوات ماضية،والذين رفضت العواصم العربية استقبالهم فعادوا لتنفذ فيهم أحكام الإعدام من قبل صدام وأعوانه. مأساة ومهزلة الأعلام العربي انه يتحدث اليوم عما تحدث عنه منظومة كاملة من مؤسسات حقوق الإنسان والقوي السياسية والنقابية منذ عشرات السنين،مما يعني بالضرورة أن الإعلاميين العرب لا يسمعون سوي أنفسهم ولا ينقلون سوي ما يعتقدون انه يجب نقله حتى لو كان وهما،أو حدثا في التاريخ الماضي تناقلته ثقافات و وعي الشعوب،قبل أن تدركه وسائل الأعلام ذات السبق الصحفي!! وإلا ما معني أن يتحدثوا عن اكتشاف مذابح صدام؟ فإذا كانوا أخر من يعلم فهذه مشكلتهم التي تعكس تدهور قدراتهم المهنية أو عدم احترامهم لشرف المهنة!
&المثير ان الإعلاميين العرب قد انغمسوا في اللعبة،عندما نسوا أو تناسوا أزمات الإدارة الامريكية الناجمة عن سياساتها الاستعمارية (الاستعمار في شكله التقليدي)وانغمسوا في مسلسلات بن لادن وصدام،وتلك الشرائط التي لم تكن تقدم أو حتى تشير لأي تغير واقعي أو ممكن في تطور الأحداث السياسية،وقدموا خدمة جليلة للسيد بوش وزملائه للتغطية علي حملات الكونجرس ضد الحرب في العراق،وعلي الفضائح المالية التي تورط فيها السيد ديك تشيني نائب بوش بحكم صلاته مع مؤسسة(هانلي بورتين) التي حققت عشرات الملايين من الدولارات من خلال توريدها البنزين للقوات الامريكية في العراق. وتكاملت ملامح المأساة الإعلامية مع اعتقال الديكتاتور العراقي السابق في وقت وصلت شعبية بوش فيه إلى اقل من 50% و كان يواجه أزمة ضغوط الشركات الامريكية التي تريد احتكار عقود إعادة بناء العراق،ليصبح صدام و اعتقاله الخبر الرئيسي، في وقت انتهي فيه دور صدام سياسيا، ولن يؤثر اعتقاله أو عدم اعتقاله علي مسار وتطور الأوضاع في العراق، خاصة وانه كان واضحا عدم وجود آية صلة بين صدام و المقاومة العراقية، اكثر من هذا تكشف القصة الامريكية نفسها عن أن الشرائط التي كانت تذاع لصدام ما هي إلا صناعة أمريكية، لأنه لا يمكن لهذا الرجل العجوز ذي العقلية الديكتاتورية التي لا تري في الوجود سوي ذاتها ومن مخبأه أن يقود وينظم حركة مقاومة ويسجل شرائط تدعو لها...وما إلى ذلك؟ ولكن كما هو مبدأ جوبلز وزير أعلام هتلر: فلنقم بإثارة حملة إعلامية أو إطلاق خبر..سيصدقه 70% ثم سينساه بعد أيام 40% و بعد شهر لن يتذكره أحد، و المسألة الأساسية في ذلك هي التأثير الآني!
&أما مع الشيشان وأزمة أفغانستان،حيث كان يجب التحلي بالموضوعية في التعامل مع الحدث ونقل مختلف وجهات النظر دون التأثير علي المشاهد أو القارئ، كان يحلو للبعض مساندة من يدعون الإسلام لانهم يرفعون رايته لذا جعلوهم مجاهدين. وكان يحلوا للبعض الأخر تجاهل حق القوميات في تقرير المصير والتعامل مع القضية من منطلق مكافحة الإرهاب،وكأنه ظاهرة لقيطة قادرة علي الوجود والنمو بشكل مستقل دون دعم القوي العالمية المستفيدة من أعمالها. وفجأة غابت الموضوعية المزعومة وبدأ الأعلام العربي يتحدث عن الوهم الأمريكي المسمي بالإرهاب والذي لا أنكر وجوده وإنما أقول عنه كما قال المثل العربي المعروف (وانقلب السحر علي الساحر)فبعد أن ترعرع التطرف الديني في أحضان الإدارة الامريكية ولم يكن الأعلام العربي يتعرض له بآية اتهامات،بمجرد ما أن قررت واشنطن شن الحرب ضده لتحقيق مصالحها أيضا،بدأنا نتحدث عنه! وتنعدم الموضوعية في التعامل مع أحداث جورجيا التي تحدث عنها البعض علي أنها ثورة،والتي لا تنطبق عليها حتى معايير الثورة وفق تعريف علم الاقتصاد السياسي،ناهيك عن ملامحها وطبيعتها التي تكشف بوضوح عن صراعات في القطب الواحد للسيطرة علي السلطة ولإنقاذ نفس النظام الذي كان شيفرنادزة يمثله!
&و يمكن القول أن حالة التضليل في الأعلام العربي تعود لعدة أسباب:
1-&أن عددا من الصحفيين والمراسلين العاملين في وسائل الأعلام العربية يفتقدون للقدرة والثقافة والوعي لتحليل الأحداث الجارية ولفهم خلفياتها،والمسألة بالنسبة لهم كلمتين وانتهينا من الموضوع وغالبا ما يتم نقلهم عن الصحافة المحلية.
2-&أن مؤسسات الأعلام العربية تفتقد لصفة المؤسساتية والتي تقوم بالدرجة الأولى علي التعاطي مع الأحداث السياسية وفق رؤية ومنهجية محددة وليست المسألة(سمك..لبن..تمر هندي).أي كل صحفي أو مراسل يقول ما يقدره سبحانه وتعالي علي قوله.
3-&أن هناك خطوط حمراء في بعض القضايا تفرض علي هذه المؤسسات التخلي عن موضوعيتها، مما يعني أن الحديث عن حرية الصحافة في بلادنا هو أمر وهمي وليس له أساس من الصحة.
وفق هذه الأسباب يمكن اعتبار التضليل الإعلامي ليس فقط هدفا مقصودا من جانب البعض وإنما يعكس حالة من التخلف الحضاري في بلادنا التي مازالت تعاني من ازدواج في الوعي والشخصية، وتباين هائل في مستوي وعي وثقافة قطاع محدود من السكان ومستوي ثقافة و أدراك الأغلبية الساحقة ذات الوعي المحدود.
حيث يمارس التضليل من جانب هذا القطاع المحدود علي الأغلبية التي يمكن أن تصل فيها نسبة الأمية لأكثر من70% في بعض البلدان العربية.و لعل هذا يفسر نزوع أغلبية الفئات الحاكمة في العالم العربي لتأسيس العديد من وسائل الأعلام، حتى تضمن في هذه المرحلة الحرجة ولاء الأغلبية الساحقة ذات الوعي المحدود بشكل اكثر فاعلية. والأمثلة علي ذلك كثيرة، حيث نجحت بعض وسائل الأعلام من جعل صدام حسين بطل قومي،وحقيقة الأمر انه سفاح دموي،لا يعبأ بمصير شعبه أو وطنه،بينما نجحت وسائل أعلام أخرى في تصوير الاحتلال الأمريكي للعراق علي انه تحريرا له من صدام، لا ن الأمريكيين هم من فاعلي الخير ولا يلهثون وراء النفط أو الثروات القومية لبلادنا، وإنما هم حماة الديمقراطية و الشعوب!!
&لذا أود في الختام أن أتساءل هل البديل للصحافة العربية الوطنية التي كانت علي مدار النصف الثاني من القرن العشرين هو صحافة الإثارة،أم أننا نسعي حقا إلى نقل الحقائق ومحاولة فهم ما يحدث..! لتفيدوني أفادكم الله!!!

موسكو صحفي مصري مقيم في موسكو
[email protected]&&