عبدالله الحكيم


&
فجر كاتب سعودي في ذاكرتي التي لا تتجاوز مساحتها سنتيميتر مربع قضية من نوع آحر عندما أثار بمقال له في صحيفة محلية موقفا محافظا عال التردد حيال الرواية السعودية، فقد زعم أحدهم باختصار شديد أن الابداع السعودي في حقل الرواية غير مرض للذوق الرفيع، اذ لا يوجد عمل روائي بقيمة أدبية قادرة على التجاوز أو النقل بحد وصف الكاتب اثبات الوجود على الأقل.
وشخصيا فقد أتضح لي من خلال قراءة مقالات تجنح ناحية التدجين الأحادي الرؤية التي لا تمانع الصحافة المحلية من ترويجها بحسب المفهوم التجاري لخطاب النوايا الحسنة أن الرواية السعودية أفتقدت في مراحل نموها شروط الابداع الأصيل.
هنا يفترض الا تخفى علينا (عراقة) هذه الرؤية، فهناك كتاب لا زالوا يرون أو يعتقدون أن من بين مهامهم التربوية تلقين الروائين السعوديين درسا روحيا في كيفية توظيف الحس الروائي من خلال الأعمال الأدبية. وطبعا نحن لا نخترع طرحا جديدا أو نلحق بهم اتهامات غير لائقة، اذ هم يكتبون للناس علنا أنه لا يفترض أن تكون هناك تجاوزات مخلة مثل تسييس العمل الروائي كما نجد ذلك في أعمال (تدين) أصحابها، ناهيك عن اخراج هؤلاء الكتاب لاعمال من الطور الروائي لكون تلك الأعمال تتوافر فيها عناصر للخروج عن انماط سلوكية وأدبية.
وكما هو الحال في طرح على هكذا نحو، يضيف الينا أحدهم أن يجب علينا - كما لو كنا في احد مراحل دروس مادة التعبير التدجينية - أن نتفق أن الرواية ليست عملا عاديا وليست ريبورتاجا صحافيا، بل أنها عملية تفريغ لما كان وسوف يكون.
شخصيا أعتبر القارئ العربي أيا كانت درجة تعليمه وصيغة تفكيره محظوظا جدا لاعتبارات من بينها أن كتابا يدعون تنويرا على هكذا نحو ولدوا متأخرين، فلو قد جاء هؤلاء الكتاب متقدمين بعض الشيئ فربما ألتحقوا بأعمال الرقابة على المطبوعات، وبالتالي فلن تصل الينا أعمالا تركها الأولون باللغة العربية أو بلغات الهند أو فارس منقولة الى العربية.
هنا تحضرني قصة ولن أتردد في طرحها اذا تحوم في صدري منذ منتصف الثمانينيات الميلادية.
قدر لي وقتئذ حضور ندوة تناقش تعثر الكتاب السعودي.
كنت أعمل بوظيفة محرر تعيس، وطلب مني أحد رؤوساء التحرير المنتهية فترة صلاحياتهم المهنية التوجه نيابه عنه الى أحد قاعات شركة تهامة للدعاية والاعلان.
كان هناك الذي يتحدث هو الناشط السياسي لاحقا، محمد سعيد طيب. وكانت القضية التي يتحدثون عنها ببساطة شديدة، نقلا عن ذاكرتي المغلقة، كيف أن رقابة المطبوعات أعاقت طبع احدى الروايات بسبب أن البطلة أو احدى شخصيات الرواية من داخل العمل الروائي كانت تخطط السفر، يعني الانتقال من مكان الى مكان آخر. أنتهينا اذن.
شخصيا لست على يقين بما اذا كانت تلك المرأة سافرت لاحقا او لم تسافر من خلال السجل الروائي الموقوف طباعته وفتئذ لافتقاده مسوغات يمنح الحق للمحرم الافتراضي بمنح الشخصية الروائية اذونات سفر من أساسه.
هنا يمكنك التفكير على النحو الآتي:
فاما أن تسمح جهات الرقابة بطبع الرواية التعيسة التي لا أدري الى هذه اللحظة من هو ذلك الليبرالي الكبير الذي أراد أن يجعل منها انثى متمردة بهذه الكثافة وهي التي لم تكن تمتلك وثيقة سفر في حينه، وبذلك فقد كانت الرقابة تقترف ذنبا لكونها بالتوقيع على موافقة طبع العمل الروائي، فهي أيضا تجيز تمريرات ليبرالية تلحق الضرر بالمحرم الافتراضي الآيلة اليه أساسا من داخل العمل الروائي ومن خارجه حقوق الحراسة والرعاية.
واما أن يحضر كاتب العمل الروائي فيلغي سفر احدى هذه الشخصيات، لأنه ببساطة شديدة لا يجوز لها السفر وهي فتاة سعودية باستغلال القناة الروائية، وبذلك تستطيع الرقابة في ظل وجود هذا الخيار التغاضي عن ظهور أنثى تظهر وتختفي داخل العمل الروائي شريطة دورانها في منطقة تقع تحت الوصاية الجغرافية.
_ لا ادري كيف تطور الاشكال لاحقا، ولا أدري من هو الذي فض النزاع المذكور. ومن ناحيتي كانسان أفلت من عوامل التعرية التدجينية بنسبة تكفل له التعايش مع الآخرين، بدأت أتساءل بقليل من الاستهبال والسخرية:
هل يعقل أن يكون حضرة الرقيب انسانا محافظا درجة أنه يلاحق بقلمه الأحمر فتاة لا أحد يعلم شيئا عن مواصفاتها الجسمانية أو النفسية داخل عمل روائي مكتوب بالحبر التقليدي السائل.
لكن الأهم من الرقيب والكاتب والمرأة التي لم يقرروا بعد اجازة سفرها من عدمه، أن تلك المرحلة بما لها وما عليها أفرزت بالعدوي والتدجين جيلا من كتاب الوعظ.
وهكذا فقد نمى هذا الجيل لاحقا واكتسب من خلال قراءاة مكثفة في الأعمال التجارية وفي أعمال أرسين لوبين والنصائح المترجمة لديل كارينجي التي كانوا يبثونها عبر قاعات المدارس في أوقات الفسحة الصغرى، ولاحقا آمن ذلك الجيل الذي لم يتدرب جيدا على كيفية أن يتجاوزا بقدراته العقليه الحدود التقليدية للتعامل مع الذات وكيفية التعامل مع الآخر.
لقد آمن ذلك الجيل وبطريقة مثالية بقضية الخصوصية السعودية والتي رأينا قبل حوالي شهر من تاريخه كيف أن مطبوعة سعودية محلية تعنى بالثقافة ادارت لمبدأ الخصوصية ظهر المجن، وهكذا لاحقا أنعكس هذا الايمان المصيري
بالخصوصية على الموقف النقدي من نظرية الأدب ممثلا في محاولة لايجاد تعريف تقليدي للرواية.
هنا يمكننا فهم كيف أن هناك أمثال الكاتب المحلي تركي العسيري وغيره من لا يزال يرى أنه يفترض للأدب السعودي أن يكون صورة ناطقة لأعمال الأسرة السعيدة.
وفي النهاية انهم يريدون هذا الجيل أن يقف بأثر رجعي أمام أشكال تعبيرية
كنا نمارسها في المدارس ونحن صغارا منذ أيام الطفرة.
لقد كان اصدقائي البائدون جميعهم يكتبون في كراريسهم المدرسية الآتي:
الجو غائم والناس سعداء جدا في الشوارع، فيما تحاول الأمهات الانتهاء مبكرا من طهي وجبات شهية.
ذات مرة كتبت في كراستي أيضا:
لا توجد لدينا جرائم مطلقا، فأبي وأمي ملاكين وأخوتي جميعا يعيشون في مجتمع ملائكي أيضا.
أنني أعجب بحق الله كيف لو أن الحياة الأدبية سابقا عرفت أمثال هؤلاء الناس بوصفهم عناصر حربة لرأس الرقابة التطوعية حيال أدبيات الرواية، اذ كيف تكون قد وصلت الينا أعمالا على نحو طوق الحمامة لابن حزم او الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي أو ألف ليلة وليلة، فكل هذه الأعمال وغيرها أمثال كليلة ودمنة لعبدالله ابن المقفع لا تقع على مرمى الحقل المثالي للوعظيات النبيلة.
على أية حال لا نفترض أن تكون تعساء ولا حزانى الى هذه الدرجة، فهناك من لا زال يشترك معنا من الأمم الأخرى في التلذذ بنكهة المثالية التعيسة.
أنظر اليهم الان مثلا في أحد محاكم دول أوربا الشرقية وهم يدينون وراقا لاقدامه على ترجمة ونشر كتاب Mein Kempf بالسجن ثلاث سنوات، مع العلم أن كتابا على هذا النحو ترجم الى العربية منذ زمان بعيد وقد كان متوافرا وربما لا يزال في معظم الاسواق العربية.
شخصيا اخشى أن تتسرب العدوى الى عالمنا العربي حيال كتابين الأول منهما هو الكتاب الأخضر الذي سقطت أشجار التوت عن ذاكرة صاحبه تماما، وأما الأخير ممثلا في ( هكذا نخاطب العقل الغربي) لمؤلفه صدام حسين فقد منحته بطوع ورضى لصبي راجيا منه التبول عليه لكي يغسل ببراءته ما بقي من صدأ للاثم الرقابي على سوءة الكلمة ممثلة في جميع أشكال وصيغ الكتابة.
كاتب صحافي سعودي
[email protected]