عبد الله الدامون من الرباط: لم يفز خوسي لويس ثاباتيرو بالأغلبية المطلقة في انتخابات الأحد الماضي في إسبانيا, ورغم ذلك فإن فوزه على رأس الحزب الاشتراكي العمالي في حد ذاته حدث. فالمواهب لن تعوز هذا القيادي الشاب من أجل عقد التحالفات مع أحزاب صغيرة في رمشة عين لممارسة الحكم. إن المناورة والدهاء التفاوضي إحدى أهم ميزات "ثاباتيرو" الذي يهوى أيضا الركض صباحا وصيد السمك في النهر. ربما يعرف أكثر من غيره الحكمة التي تقول "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر".
ثاباتيرو في الثالثة والأربعين من عمره وسيقود الحكومة الاشتراكية المقبلة في إسبانيا التي جرت في أجواء الحداد بعد تفجيرات قطارات مدريد الدامية. الأحياء أبقى من الأموات, لذلك لملمت إسبانيا جراحها وانطلقت. ثاباتيرو متعود على المآسي منذ أن أعدم جده القبطان الشهير "لوثانو" بالرصاص على يد خصومه السياسيين اليمينيين.
حفيد القبطان فاز اليوم على الخصوم أنفسهم, لكن ليس بالرصاص, بل بصناديق اقتراع نظيفة. قال إنه سيكون رئيسا لكل الإسبان. دعا "بوش" و"بلير" إلى ممارسة النقد الذاتي وعدم تبرير قصف المدنيين في العراق بالحرب على أسلحة الدمار الشامل الوهمية, ووعد بسحب الجنود الإسبان من هناك قبل نهاية حزيران (يونيو) المقبل.
الرجل الهادئ, كما يسميه أصدقاؤه وخصومه, يرفض اعتبار فوزه نتيجة لتفجيرات قطارات مدريد. إنه مقتنع أن الإسبان أرادوا التغيير, فجاء هذا التغيير كما أريد له.
يقول رفاق وأصدقاء خوسي لويس ثاباتيرو إنهم لم يروه يوما ثملاً. فالرجل يصر على الاحتفاظ بكامل قواه العقلية ليل نهار لأنه يعرف ان العقل وحده من سيوصله إلى رئاسة الحكومة, لذلك لم يتورع بعض خصومه باتهامه بالتحريض على تنظيم مظاهرات أمام مقرات الحزب الشعبي عشية الاقتراع لمطالبة حكومة خوسي ماريا أثنار بالكشف بسرعة عن مدبري التفجيرات "والكف عن عن الكذب على الشعب" عبر تلفيق التهم لمنظمة "إيتا" الباسكية الانفصالية.
ولد "خوسي لويس رودريغيث ثاباتيرو" في الرابع من آب (أغسطس) سنة 1960 في مدينة "بلد الوليد" (شمال مدريد). كان عمره خمسة عشر عاما عندما مات الجنرال "فرانسيسكو فرانكو" الذي حكم البلاد بيد من فولاذ أربعين عاما. في الثامنة عشرة من عمره حضر رفقة والده مهرجانا خطابيا لرئيس الحكومة السابق "فليبي غونزاليث" في مدينة "خيخون" (أقصى شمال). انبهر بسحر الكلمات فتوجه رأسا إلى مقر الحزب الاشتراكي وانخرط في صفوف الشبيبة الاشتراكية.
اثنان وعشرون سنة بعد ذلك, وفي أوج أزمة حزبية داخلية, سيتربع ثاباتيرو على قمة الحزب بفارق تسعة أصوات عن منافسه القوي خوسي بونو أحد بارونات الحزب الأكثر قوة. وباستثناء حفنة من الأصدقاء والسياسيين لا يفوق عددهم عدد أصابع اليدين, فلا أحد كان يتوقع وقتها أن يطول العمر السياسي لهذا الشاب في منصبه, لكن الذي حصل أن هذا العمر طال كثيرا حتى تربع على رأس الحكومة الإسبانية وكأنه يحقق حلمه الطفولي بخلافة القيادي الكاريزمي "فليبي غونزاليث" الذي انبهر بكلماته أيام الصبا.
بدأ ثاباتيرو عمله على رأس الحزب أربعة أشهر بعد حصول الحزب الشعبي على أول أغلبية مطلقة في تاريخه. كان الحزب الاشتراكي وقتها غير متعود على المعارضة بعد خمسة عشر عاما من الحكم. اعتزال فليبي غونزاليث العمل السياسي أدخل هذا الحزب في متاهة مظلمة حار معها بارونات الحزب في الخروج منها.
ثاباتيرو كان إذن مجرد حل مؤقت لوقف ديناصورات الحزب عن التضخم, ولتجاوز فترة حالكة بأقل الخسائر الممكنة. أما المتفائلون بنباهة هذا الشاب فكانوا يمنحونه "مائة يوم من الرحمة" حتى يروا ما يمكن أن يفعله, وإذا لم يحدث شيء, فسيشعلون له المحرقة كما أشعلت لسابقيه مثل خواكين ألمونيا وجوزيب بوريل. لكن "الرجل ابن جده" كما يقال, وثاباتيرو يتحدر من عائلة يسارية بامتياز. وأسرته عانت كثيرا خلال الحرب الأهلية من تصرفات "الوطنيين" اليمينيين الذين لم يكونوا يتورعون عن إطلاق الرصاص على خصومهم ولو لمجرد الشبهة. جد "ثاباتيرو" القبطان "لوثانو" وضع أمام جدار وخرم جسده بالرصاص, تماما كما حدث للقبطان "أورليانو" في رواية غابرييل غارسيا ماركيز "مائة عام من العزلة".
"مائة يوم من الرحمة" التي منحت لثاباتيرو استمرت لسنوات خاض خلالها "حربا" شرسة وهادئة ضد حكومة "أثنار" وكأنه يعد لطبخة غير مسبوقة. كانت الإنجازات الاقتصادية الكبيرة لحكومة "خوسي ماريا أثنار" عصيا غليظة في عجلة الحزب الاشتركي وزعيمه ثاباتيرو الذي لم تتوقف الإشاعات عن إزاحته في أي وقت, لكن هذا الرجل الذي يكره ربطات العنق مثل سلفه فليبي غونزاليث عول كثيرا على الأنفاس الأخيرة من المباراة. وحين اقترب موعد الرابع عشر من آذار (مارس) كانت الكثير من الشكوك تخيم على قدرة الحزب الاشتراكي على تجاوز الرفاه الاقتصادي الذي ملأ به "أثنار" أفواه الإسبان. المراقبون حاروا في التكهن بمن سيفوز, قبل ان يدلي "أسامة بن لادن" بصوته الحاسم, ويفوز الحزب الاشتراكي بزعامة الشاب "ثاباتيرو" بالانتخابات ويربح ثلاثة ملايين صوت إضافية عن انتخابات سنة 2000. لكن "ثاباتيرو" يرفض الاعتراف بصوت "القاعدة" في هذه الانتخابات ويقول إن الإسبان كانوا يريدون التغيير. من يدري؟ فربما كان الرجل على حق.