سالم مريشيد&من السعودية: هل نحن في زمن أنا وبس.. أم اننا نكاد ندخل إلى هذا الزمن الذي تسوده الأنانية ويسيطر على الناس فيه حب الذات.. وتزيده بشاعة هذه الجفوة والقطيعة.. وجفاف القلوب من العاطفة والمحبة والايثار التي تسود حياة الناس اليوم..
زمن أسود تقوقع فيه كل إنسان على ذاته.. واصبح لا يفكر إلا في نفسه ومصالحه ولا يسأل حتى عن أقرب الناس إليه.. وبدأت فيه العلاقات الاجتماعية والانسانية تفقد الكثير من حضورها وبريقها وأهميتها.
لا نريد أن نفرط في التشاؤم ونقول ان هذه العلاقة والحميمية والمودة والحرص على التواصل فقدت وجودها وحضورها الحي الفاعل حتى بين الأهل والأقارب.. فربما يمر الشهر والأشهر دون أن يسأل القريب عن قريبه والذي يسكن في حي آخر من المدينة لا يبعد عنه إلا بضع كيلومترات.. وإذا زاره فإنها زيارة مجاملة خاطفة دون أن يسأله فيها عن أحواله وأوضاعه، أو يهتم بمد يد العون له إذا كان في حاجة.
أخوة هذا الزمن
"العم بركة الحربي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بقوله: حتى العلاقة بين الأخ وأخيه لم تعد بنفس القوة والمشاركة التي كانت عليها في السابق، وفي وقت عشنا فيه.. ولمسنا فيه عمق تلك العلاقات وما يشوبها اليوم من برود وجفاف وتراخ.
وأكد على ذلك بقوله انه يعرف شقيقين أحدهما حاله ميسورة.. وأعطاه الله من الخير الكثير.. والآخر يعاني من ضيق الحال والفقر وكثرة العيال.. ويعمل حمالا في الأسواق ولا يكاد ما يحصل عليه من ذلك العمل يكفيه لتوفير أبسط احتياجاته الضرورية، ويعيش في الكثير من الأحيان على صدقات المحسنين والذين يعرفون جيداً أوضاعه وحاله رغم انه يترفع أن يمد يده لأحد.
وقد حاول أكثر من شخص يعرف شقيقه الغني ان يلفت نظره.. ويحثه على مساعدة أخيه.. ولكنه يرد عليهم بلا مبالاة.. وانه لا يملك صندوقا خيريا، وفي بعض الأحيان عندما يلحون عليه يعدهم، ولكنه لا يفعل شيئا.. وقد بلغ به الكبر إلى حد الابتعاد عن شقيقه الفقير.. وتحاشي الاقتراب منه.. أو السلام عليه.. أو حتى السماح له بالذهاب إليه في مؤسسته التجارية الفخمة.
ويواصل العم بركة حديثه قائلا: واستمر الحال بين الشقيقين على هذا الحال.. حتى أدركت الأخ الغني المنية تاركاً أموالاً كثيرة جمعها ذهبت لذلك الأخ الفقير الذي كان الوريث الوحيد لأخيه الغني.. وأصبح ذلك الفقير في بحبوحة من العيش.. وأصبح من كبار أهل الاحسان والخير.. لأنه جرب الفقر.. كما انه أقام الكثير من الأعمال الخيرية باسم أخيه المتوفى داعياً من الله أن يصل أجرها إليه رغم ان أخاه الغني لم يفكر وهو حي أن يعمل أي مشروع خيري لوجه الله.. واصبح الأخ الفقير يردد في مجالسه بين الحين والآخر لقد حرمني أخي سامحه الله في حياته حتى من لقمة العيش.. وبعد مماته أصبح كل ماله لي.. وكأنه كان يجمعه طوال حياته من أجلي؟!
@ الأستاذ محمد عمر أديب موظف في أحد البنوك قال ان العلاقات الانسانية في الزمن تعرضت للكثير من عوامل التعرية التي أضعفتها.. وشوهتها.. بسبب انشغال الناس بالدنيا.. وحبهم بالمال.
ويضيف خلال الشهر الماضي توفي أحد عملاء البنك.. والذي يعتبر من العملاء الذين لديهم حساب جارٍ كبير بالملايين.. ولم يمض على وفاة ذلك العميل يومان حتى وجدت ابنه الأكبر أمامي في المكتب يريد سحب أموال أبيه المودعة في البنك.. ولكنني أخبرته ان الأمر لا يتم بهذه الصورة وعليه أن يحضر توكيلاً من جميع الورثة مصدقاً من المحكمة الشرعية يسمح له بذلك.. لأن سحب أموال المتوفى أو التصرف فيها لا يمكن أن يتم إلا بموافقة جميع الورثة.
غضب الابن الأكبر مني.. مدعياً انه لا يريد بقاء مال والده في البنك لأن ذلك حرام.. وان الورثة جميعهم موافقون على قراره.. وبعد ان اقتنع انه لن يسمح له بسحب مال أبيه إلا بعد احضار التوكيل انصرف غاضبا ولم يعد؟!
ويضيف الأستاذ أديب إن ذلك الابن لم يصبر حتى يجف التراب الذي دفن فيه والده، وجاء ليستولي على حقوق كل اخوته الورثة ويتحكم فيها.. لأن حب المال والدنيا أنساه عذاب الآخرة.. وعاقبة أكل مال الأيتام بدون حق.. ولم يمض إلا اسبوع حتى وجدت أحد أبناء المتوفى يأتي ويحذرني من أن اسمح لذلك الأخ بأن يسحب قرشاً واحداً من مال أبيه حتى يتم حصر التركة وتوزيعها بالطريقة الشرعية على جميع الورثة!
تخلى عني الأبناء
@ في أحد شوارع جدة كان الرجل العجوز يتنقل ببطء وتثاقل بين أرتال السيارات.. يمد يده لهذا.. ويمد يده لذاك.. هذا يشيح بوجهه عنه.. وذاك يدعو له بالرزق من عند الله.
ويعود إلى مكانه على جانب الرصيف إذا بدأت السيارات في التحرك.. ثم يعود لمد يده طلباً للإحسان إذا توقفت السيارات عن الحركة عند الاشارة.. كان ذلك منذ فترة.
وقد استوقفني منظره الحزين.. وآثار الزمن تخط في وجهه آثارا غائرة.. اقتربت منه.. وبادرته:عليك ان تحذر من السيارات المجنونة.. رد بصوت متعب يا بني كل هذه الحياة التي نعيشها اليوم مجنونة.. بعد ان تخلى فيها القوي عن الضعيف، وبخل فيها الغني على الفقير، وأصبح كل إنسان لا يفكر إلا في نفسه فقط؟!.
قلت له: ان إنساناً في مثل سنك يفترض الآن أن يكون في رعاية وعناية ابنائه الذين تعب في تربيتهم في وقت شبابه وقوته.. وعليهم ان يريحوه وهو في مثل هذا السن.. ولم أدر انني قد نكأت فيه جراحا غائرة.. كان يحاول أن ينساها.. رد وحشرجة صوته تشبه النحيب يا بني في هذا الزمن حتى أبناء الانسان الذين من صلبه لا يفكرون إلا في أنفسهم.. لقد تخلى عني الأبناء.. وذهب كل منهم إلى حال سبيله.. ولم يكد أحد يفكر في أمري.. أو يهتم بي.. انه زمن العقوق.. وزمن القلوب المتحجرة!!
أحسست ان دمعة تنزلق على خده الذي حفر فيه الزمن آثاره بوضوح ولم أرد ان ازيد أحزانه.. فأخذه ابن زميلي المصور بيده.. وهو يعبر به الجانب الآخر من الطريق، وسط ارتال السيارات التي تنطلق بجنون.. واصحابها لا يكترثون بإعطاء الفرصة لقاطعي الطريق من العجزة والنساء والأطفال بالعبور براحة وطمأنينة؟!.. وآخرون كانوا على أرصفة الأسواق في جدة.. يواصلون الحياة.. والحصول على لقمة العيش من خلال بيع المساويك والعصي وغيرها.. بعد ان هجرهم الأبناء والأقارب.
حرمه الله الأجر
@ العم عايد كان في حاجة لمبلغ عشرين ألف ريال من أجل إيصال التيار الكهربائي إلى منزله.. أول مرة في حياته يجد نفسه مضطرا للاستدانة.. ولم يجد أحداً يذهب إليه إلا أحد أقاربه ومعارفه الذين عمل معهم في مكان واحد لفترة طويلة.. وكان الله بفضله وكرمه وسع في رزق ذلك الشخص حتى اصبح مليونيرا يملك الكثير من المال والعقار.
ذهب العم عايد إلى ذلك القريب الصديق، وهو متأكد تمام التأكد انه لن يرده، فالمبلغ تافه بالنسبة له.. كما ان صلة القرابة والمعرفة الطويلة ستكون سبباً آخر في الثقة.. ولكن العم عايد ما كاد يفاتح ذلك الشخص حتى بادره بالاعتذار انه لا يملك شيئا.. وانه، وانه.. مما اضطر العم عايد إلى الخروج من عنده.. وهو يشكره.. وسهل الله أمر& ايصال التيار الكهربائي دون أن يضطر للتفكير في الاستدانة من شخص آخر.
قال لي العم عايد: ان ذلك الشخص الذي أعرفه جيدا.. يملك حسابات في البنوك لا تقل عن أربعمائة مليون ريال.. ولكن الله لم يوفقه لفعل الخير.. وحرمه الأجر.. رغم انه كان يمكن ان يفعل خيراً وماله سيعود له.. ويكون قد كسب الجميل.
عقوق الوالدين.. وقطيعة الأرحام
@ العم سلامة عبدالله أكد ان علاقة الناس في هذا الزمن قد تغيّرت كثيرا عما كانت عليه في السابق.. وهذا الزمن يمكن ان نطلق عليه زمن "العقوق والقطيعة".
ويضيف ان الانسان يشعر بالألم والحزن عندما يرى واقع العلاقات الانسانية بين الناس اليوم.. فالجار لا يكاد يرى جاره.. ولا يفكر في زيارته والقريب لا يسأل عن قريبه.. وربما يمر الشهر والشهران والأخ لا يدري عن أخيه شيئا، ولا يعلم بأحواله.. وهذا نتيجة انشغال الناس بالدنيا وبحثها اللاهث عن الماديات مما جعل كل انسان لا يفكره إلا في نفسه فقط.. ويتناسى حتى أقرب الناس إليه.
ويوضح العم سلامة إلى وقت قريب لا يمكن أن يمر على الانسان يومان دون أن يزور قريبه أو جاره ويطمئن على أحواله وأوضاعه نتيجة الارتباط الوثيق بين الناس.. ولأن الناس تحمل قلوبا مليئة بالحب والعاطفة.. اما اليوم فقد امتلأت قلوب الناس بحب الدنيا والمال.. ولم يعد فيها مكان تنبت فيه زهور الحب الانساني الصادق الخالي من كل مصلحة.. والذي يجمع الناس ويجعلها حريصة على التواصل.
@ الأستاذ عبيد الرفاعي موظف بالشؤون الصحية بجدة يؤكد ان علاقة الناس لم تعد بالقوة والحضور الذي كانت عليه بالأمس.. وإذا أردت دليلاً حياً على ذلك فاذهب إلى المستشفيات ستجد فيها الكثير من المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة قد وضعوا في المستشفيات من قبل ابنائهم أو ذويهم ولم يعد أحد منهم يحرص على زيارتهم.. أو السؤال عنهم.. وكذلك في دور العجزة التي تخلى فيها القادرون عن رعاية العاجزين فلم يجدوا غير دور العجزة والأربطة مأوى لهم يحفظهم حتى تدنو منيتهم، ويدعون هذه الحياة غرباء بعد ان تخلى عنهم أقرب الناس إليهم.
ويستدرك الأستاذ الرفاعي قائلا: لا شك ان الصورة ليست قاتمة إلى الدرجة المخيفة في مجتمعنا.. فلا زال مجتمعنا بخير مقارنة بالمجتمعات الأخرى.. ولكن هناك جفاء واضح في علاقات الناس في هذا الوقت الحاضر مقارنة بما كان عليه الحال بالأمس.. وهذا الجفاء والجفاف في العواطف في ازدياد مع الأسف.. ولهذا أصبحنا نرى ونسمع الكثير من الظواهر الغريبة على مجتمعنا.. والتي إذا لم تعالج أسبابها، وتخضع للدراسة والبحث من جميع الجوانب.. فإن مجتمعنا سيفقد الكثير من نقائه وتميزه.
الكثير من قضايا الجشع
@ الشيخ عبدالعزيز الغامدي رئيس لجنة اصلاح ذات البين بمحافظة جدة يقول: ديننا الإسلامي يحثنا على التواصل ولا سيما مع ذوي القربى.. ولكن المؤسف انه بسبب ضريبة الحضارة التي يتبجح بها من تبجح تقطعت أواصر التواصل بين الأقارب والأسر بسبب الطغيان المالي والمادي والعولمة.. أو القنوات الفضائية.
وانني عبر جريدتكم أوصي بصلة الأرحام التي أصبحت تشتكي إلى الله من القطيعة.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي: "وصل الله من وصلك، وقطع الله من قطعك" يعني الأرحام.. واليوم مع الأسف أصبح الكثير من الناس لا يرى قريبه إلا في مناسبة فرح.. أو عزاء.
وأوضح الشيخ الغامدي: ان هناك من القضايا التي تنتظرها اللجنة بين الأهل والأقارب والاخوة نتيجة الجشع والطمع في أكل أموالهم.. وخاصة فيما يتعلق بالمواريث فالكثير من الناس إذا توفي والدهم يحاولون أن يستولوا على كل أموال آبائهم.. ويحرمون اخوتهم من الميراث خاصة البنات المغلوبات على أمرهن.
كما ان هناك الكثير من القضايا التي تنتظرها اللجنة بين أفراد الأسرة الواحدة ما كان لها أن تحدث لو تمسك الناس بدينهم.. ولم يطغ على القلوب البُغض والقطيعة والعقوق والعياذ بالله.