ياسين النصيِّر
&
&
&
عندما تقرأ للشاعر عبد الرزاق الربيعي قصائد لا تشعر أن هذا الشاعر قد كبر أو دخل مرحلة الأزمنة العراقية المعقدة خاصة أزمنة الأجيال والحقب والفواصل العشرية، فهو شاعر لا يستكن لتجربة مفردة مادتها من مألوف هذا التجوال غير المريح بين الأفكار وأحداث العراق والآمال المحبطة. شاعر يجد في البحث عن الأفول والخيبات التاريخية مادة للقول الشعري. ولأنه لا يركن إلا لبقايا التاريخ،نجده يبحث عن صور هذه البقايا في ما يحيطه من مألوف ويومي وعادي وغالبا ما يستيقظ ليجد مملكة أخرى منهارة فيضيفها لسجل الانهيارات الكثيرة.&
في ديوانه " جنائز معلقة" وابتداء من العنوان ومن ثم الاقتباس من الشاعر السومري دنجي رامو الشاعر مرورا بلك القصائد المهمة" كوكتيل، سميرا ميس، أمطار، على مائدة الملك الضليل قراءة في اضبارة الماء وغيرها يضعنا الشاعر في مملكة الأفول فيحمل شيئا من مراث معاصرة لحالات بقيت معلقة في ذاكرة الزمن. والقصيدة الأولى " كوكتيل في مفتتح قرن" تستبطن هذه الحال كلها وتعمقها& وتفتح بها جنائزه وبما مر من تواريخ& على الأمكنة العربية فجاء" الصفر" في القصيدة محصلة الزمن العربي المعاصر.فيتحول الصفر من دلالة رقمية إلى استعارة الخسارة
وحينما دنوت من التقاويم
هالني الأمرُ
فيا لحموضة
قرن
ثلاثة أرباع مساحته أصفار!!!
ما توحي به لغته المشحونة بالساخر والفكهة والرومانسي الواقعي تجعل القصيدة بسيطة ومنسابة دونما تعقيد حتى أنها تبدو بلا عمق أو تجذير في حين أن ما تحت سطح الصورة الكثير من التأويل الذي يشتغل عليه الشاعر. لكنه وهو ابن عشيرة الفقراء العراقيين لا يريد أن يعنى كما عني الآخرون& بالكتابة عن حروب الشقاء والفقر والخوف والانهيار والدمار، إذ لابد له من صوت& ينفرد به عندما يسرد لنا مرابع الحزن،& هذه حتى لو كانت القصيدة عن المطر. فهو من شعراء الثمانينات ولكنه لم يتميز إلا في أخرها، والثمانينات تعني الحروب لا حربا واحدة، وتعني الرحيل لا رحلة واحدة وتعني الممالك المنهارة لا مملكة واحدة ، وتعني بعد ذلك كل الحرمان لا جزء منه. وقد اكتوى الربيعي بنارها جميعها الحروب السياسية التي أتت على أسرته والحروب الدولية التي كان ضمن جندها. وحروب الحرمان التي هجرته عن مرابع قصيدته. والشاعر في هذا كله لم يكن متاجرا بما حل به وقد يكون أمر الهجرة إلى اليمن بحثا عن ملجأ هو الذي قاد قصيدته في أوائل الثمانينات قبل الهجرة تلك التي كتبت عن مدعية النبوة سجاح فكان الذهاب إلى موطنها فوجد في تلك الربوع رغبة في البحث عن الأفول& دراميا فكتب مسرحية البهلوان عن امرأة لا يعيش لها أطفال فنذرت إن عاش طفل لها جعلته هزأً للناس أي الشخصية المسخرة& وبدأت تجربته تنضج وتتضح ليأتي ديوانه هذا حاملا كل الرياح القديمة الآفلة " سجاح والهزأ" فالتجربة غير المصفاة من الحروب والأفول واحدة من خيالاته الشعرية التي تمنحه الدخول للممالك الخائبة..
&ما يميز تجربة عبد الرزاق الربيعي هو هدوؤها وتسلسل صورها المتراكمة، فالقصيدة& عنده& بينة متكونة من بنى متعددة متراكمة. ثمة بناء عمودي في النص ليس هناك من سعة في الجوانب، ولا من ضيق في تسلسل الصور ، التجربة عبارة عن حلقات منفصلة ولكنها في تشكيل واحد نازل& إلى الأسفل وليس في تصاعد أو اتساع جانبي، بمعنى أن الشاعر& يبدأ القصيدة من بؤرة متوهجة كلية ثم ينزل بصورها إلى القاعدة كما لو كان ينزل بها بحبل إلى قاع البئر. فمن بداية& النص وإلى نهاية، ثمة شحوب في الصورة رغم سعة الاستعارة،وثمة سياق واحد رغم امكانية أن تفتح الاستعارة له مجالات عدة، وثمة قصديه بالوصول إلى النهاية رغم أن ما النص من احتمالات قول كثيرة، قد يعود سبب هذه الظاهرة في نظري إلى أن الشاعر ما يزال محكوما بالقصيدة المقطعية والقصيدة الجملة وهي أساليب فنطازية لم تثمر في شعرنا العراق الكثير من الإبداع، فالاختزال والقصر الأسلوبي ليس مبعثه كفاية الكلمة والصورة الشعرية كما يدعي الشكلانيون، بل قلة الثقافة في مد أعناق الرؤية إلى ابعد من اللفظ المكثف وعد ذلك انتصارا لقصيدة الجملة التي برع فيها الشاعر رعد عبد القادرة ومن قبله& الشاعر حسين عبد اللطيف منذ الستينات لكنها لم تنتج شعرا يقرأ ويتداول بل أن اقترابها من الكناية والحكمة جعلها كسيحة القديمة والعينين.& الشاعر عبد الرزاق الربيعي سليل الدراما الشعبية والحكايات التي& تحكى وترى وتعاش يوميا، وهي غالبا ما تكون خالية من الأسرار الكبيرة والمستويات الغائبة عن القارئ أو السامع العادي، فالشاعر يرد أن يوصل حكايته الذاتية بأيسر الطرق لذا لا موضوع اجتماعي كبير ولا هتافات الشوارع السياسية ولا أقول& العصور بل هو بهدوئه يقول حكايته للناس أحيانا بصوت عال يسمع، وهدفه هو قول الشعر عن مثل هذه الأوضاع الشعبية التي التبس فيها ما& خيالي بما هو واقعي ، ما هو غريب بما هو حاضر ،ما هو ماضي بما هو تجربة شخصية، ما هو استعارة تراثية بما هو حالة معاشة.. لذا فاليومي والمألوف في شعره سياق داخلي قبل أن يكون صورا واستعارات. فليس لعبد الرزاق الربيعي نفس طويل في تتبع مسار النص الشعري إلا من خلال المقطعات الصغيرة في القصيدة الغنائية وفي تعدد الأصوات في القصيدة الدرامية.& فروحه لا تركن للمألوف الذي يشبّع بالصورة التراثية& دون أن يطعمه بالحياتي الكثير من القصائد تستعير شخصيات تراثية وتدمجها في سياق النص فلا تبدو عثرة أو تكية بل هي ضمن السياق النفسي للشاعر عندما يرى الصورة الحياتية تستطيل في تلك الاستعارات كما في قصائد "سد مأرب، وعلى مائدة الملك الضليل، وخطوط، وسماء متحركة"& يقف ولا يوسع العبارة. ومن " قصيدة سماء متحركة"& تجمع بين فنون السرد والشعر معاً، فيها الحوار وفيها التراث والمعاصرة وفيها القصائد القصار،وفيها روح الدراما وتعدد الأصوات، وفيها الغنائية والتركيب وفيها بعد ذلك اللغة التي لا تقف عند مفرداتها الكلامية. ولعل هذه القصيدة النموذج الذي ينبئ عن ديوان عبد الرزاق القادم. لابد للشاعر من تقليب الحدث مرات، ومن يقرأ قصيدة "كابوس" وقصيدة "أمطار" وقصيدة" كوكتيل في مفترق قرن" "وسماء متحركة" وغيرها من القصائد يجد أن الشعر وإن يعتمد المقطاعات القصيرة فهو ببناء هرمي يستطيل اعتمادا على توسع رؤيته ولكن رؤية عبد الرزاق ما تزال شاحبة فلا منظار كبير يعتمد ولا فنار يرشده إلى ميناء شعري لم تطأه سفن الرحالة الشعراء..
أن تجربة عبد الرزاق الربيعي& الشعرية قريبة جدا من تجربة الشاعر عبد الكريم كاصد،في الكثير من مفاصلها، وان اختلفا فبعد الكريم كاصد قد ثبت منذ زمن بعيد أقدامه بوصفه أحد رواد حركة اليومي والمألوف في الحداثة الشعرية ، واستثمر ثقافة نقدية وتحليلية لهذا الغرض فخلص اليومي من عاديته وسطحيته وعيوبه في حين أن عبد الرزاق إذ يستثمر المناخ ذاته يبقى في إطار البحث المستمر لذا تراه في تجربة غير مكتملة في كل ديوان وتفصح تحولاته بين القصيدة الغنائية والدرامية على هيمنة الموضوع الاجتماعي والتراثي عليه.& وكلا الشاعرين يعتمد المفردة المحملة بالاشتقاق، قصيدة " الغرف " عند عبد الكريم& كاصد مثلاً وهي الأقدم، وقصيدة " أمطار" عند عبد الرزاق وهي الأحدث كمثال وهناك استعارة الشخصيات ضمن لحمة البناء الحاضر، وهناك القصائد القصار. وربما لا تخص هذه التجربة شاعرا دون آخر فالمناخات القريبة تجعل من البنية الفنية شديدة الالتصاق بما هو أكثر استيعابا لحركة الواقع اليومية التي يعتمد فيها على الاستعارة& الواقعية واليومية الكثيرة لا بل إن الشعر عنده هو الاستعارة الحياتية لما يشعر به ولما يعيشه. ولأنه في العراق جاءت كل استعاراته اتجاهية، فاستعارة الاتجاه هي الغالبة والديوان يعتمد على استعارة المدن والتواريخ وانهيار الممالك القديمة ليبني فوقها مدينته الجديدة& أي استعارة الحلم. وتتلخص الاستعارة& الاتجاهية عند عبد الرزاق بالقديم والقديم يعني دائما هو " تحت" وهذه الاستعارة هيمنت ليس كمفردة بل كغطاء كوني سميك على التجربة كلها، في حين بدا الشعر يتحرك "تحت"& هذه الخيمة دون أن يرى بصيصا للنور. وائما تقترن مفردة& الـ " تحت" بالأسفل، فهي& أما قبرا أو مملكة ضائعة أو جبا ليوسف أو أسطورة قديمة أو مدينة بلا قلاع& أو جنائز معلقة، أو مزمار العتمة، أو كثبان، أو اضبارة الماء، أو سد مأرب، أو غيبة ...ألخ.
في أبعاد تجربة شعرنا العراقي في هذه السنوات المريرة يكمن الكثير من المطر الغامض والمحتمل والمحمل بالرعود، وقد كتبت عن هذا الوعد الكثير، ليس لان الشعر العراقي ما يزال في المقدمة وعليه أن يحافظ عليها ليس لسبب ما، إنما لأن الشعر العراقي أبن واقع مر ويمر بأعظم تجارب القرن العشرين في الوطن العربي مرارة لا يقترب منه إلا الشعر الفلسطيني ولكن الشعر الفلسطيني حمل بالنضالي المشرف أكثر مما حمل بالفني المجرب عدا درويش الذي نعرف. ولذا فتجارب شعراء الثمانينات ليست إلا بداية لحركة في الحداثة الجديدة نرى أفقها بوضوح.