&
باريس: هاشم صالح
&كل ما كتبه أركون منذ أربعين سنة وحتى اليوم يندرج تحت العنوان العريض التالي: نقد العقل الإسلامي. إنه مشروع العمر وخلاصة الفكر.
ولكن ماذا تعني هذه العبارة بالضبط؟ ولماذا تشكل حاجة تاريخية ملحة سوف تسيطر حاجة تاريخية على القرن الواحد والعشرين كله (فيما يخص المسلمين بالطبع).
&
غربلة التراث العربي - الاسلامي
إنها تعني ما يلي، بحسب ما أفهم فكر أركون بعد أن عاشرته طيلة ربع قرن تقريبا: كل التراث العربي-الإسلامي منذ البداية وحتى اليوم ينبغي أن يتعرض لغربلة عامة شاملة، من أجل معرفة بنيته الداخلية وكيفية تشكله التاريخية طيلة القرون الستة الأولى بشكل خاص. فالمعرفة التي نمتلكها عن الفترة التأسيسية للتراث الإسلامي لا تزال لاهوتية - ايديولوجية تضعه فوق التاريخ أو فوق المشروطية الاجتماعية-التاريخية. لماذا يشكل ذلك حاجة تاريخية لا بد منها أو لا مندوحة عنها؟ لأن المسلمين، كل المسلمين وليس فقط العرب، وصلوا الآن إلى مفترق طرق: فإما أن ينخرطوا في هذه العملية الجراحية الخطيرة وإما أن يستسلموا للمقادير وينقطعوا عن حركة التاريخ كليا في عصر العولمة الكونية. وبالتالي فإن نقد الذات التراثية وفي العمق أصبح ضرورة ملحة لا يمكن تأجيلها بعد اليوم.
والواقع أن الانفجارات والحروب الأهلية (الصريحة والمستترة) التي تحصل حاليا في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي سوف تجبرنا عاجلا أو آجلا على الانخراط في هذه المصارحة التاريخية مع أنفسنا. لطالما أجلناها، لطالما أشحنا النظر عنها، خوفا من عواقبها. ذلك أن "مواجهة الذات لا تقل خطورة عن معارك الرجال" كما يقول آرثر رامبو. ويراهن كاتب هذه السطور على الحقيقة التالية: لو لم تخض أوروبا معاركها مع نفسها، لو لم تصف حساباتها مع ذاتها التاريخية-أي مع تراثها المسيحي العريق- لما استطاعت أن تقلع حضاريا وأن تسيطر على العالم.

يجب استعادة المسائل الحارقة التي دشنها الاستشراق
فأزمة الوعي الأوروبي مع نفسه كانت قد وصلت إلى حد من التفاقم يهدد بالانفجار أو بالانهيار. وأزمة الوعي الإسلامي مع نفسه حاليا وصلت أيضا إلى درجة خطيرة من التفاقم والتأزم. ومن يستطيع ان يواجه الوضع، إن لم يكن المفكرون الكبار؟ أليسوا هم أطباء الحضارات عندما تمرض أو تشيخ وتنسد أمامها الآفاق؟ ضمن هذا الجو يظهر مشروع "نقد العقل الإسلامي" لكي يشخص لنا المشاكل ويفتح لنا الطريق. يقول أركون في بعض ما كتب: "إن كل المسائل الحارقة التي دشنها الاستشراق في بداية القرن العشرين ينبغي أن تستعاد من جديد وتدرس على ضوء التعاليم المستحدثة للعلوم الإنسانية: كعلم الألسنيات الضروري جدا لدراسة النصوص المقدسة أو التاريخية، أو كعلم السيميائيات أو الدلالات اللغوية وغير اللغوية وكعلم النفس التاريخي الذي ازدهر كثيرا في فرنسا داخل إطار مدرسة الحوليات الشهيرة، وكالنقد الأدبي وكعلم الاجتماع وكالانثروبولوجيا. كل هذه العلوم لا ينبغي أن تجيش بمناهجها ومصطلحاتها من أجل تشخيص مشاكل التراث الإسلامي.
بالطبع فإن المسلمين التقليديين سوف يحتجون ويغضبون مثلما احتجوا وغضبوا ضد الاستشراق الكلاسيكي ومنهجيته الفيولوجية - التاريخية التي تعود إلى القرن التاسع عشر."ولكن لا يهم. ينبغي أن نواصل العملية حتى النهاية لأنه بناءً على نجاحها يتوقف المصير التاريخي لشعوب بأسرها. فالتحرير الفكري المنشود لا يمكن أن يحصل إلا بعد الانخراط في هذه العملية الجراحية الخطيرة. والواقع أن احتجاجات المحافظين أو التقليديين عائدة إلى الفراغ الفكري والتأخر الثقافي الذي تعاني منه الساحة العربية أو الإسلامية منذ عدة قرون. فعلى الرغم من تأسيس الجامعات، بل وتكاثرها منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن الوضع فيما يخص "تحرير التراث" لم يتغير كثيرا. فلا توجد كليات لتعليم الدين بطريقة حديثة وقادرة على مواجهة التعليم التقليدي السائد في كليات الشريعة أو الأزهر أو النجف أو قم أو القرويين أو غيرها كثير. لا توجد كليات لتعليم تاريخ الأديان المقارن مثلا، أو علم الاجتماع الديني.
لا يزال التراث الديني في بلداننا يعلم مثلما كان يعلم قبل سبعمائة سنة! يضاف إلى ذلك أن الايديولوجيا الكفاحية أو الجهادية تسيطر على الأذهان والعقول منذ المدارس الابتدائية والثانوية وصولا إلى الجامعات والمعاهد العليا. وبالتالي فكيف يمكن لك في مثل هذا الجو أن تدخل نظرة جديدة عن الدين: أقصد نظرة قائمة على البحوث العلمية والتاريخية؟ كثيرا ما يأسف اركون للتأخر الهائل الذي يعاني منه الفكر الإسلامي عندنا بالقياس إلى الفكر المسيحي في أوروبا. والواقع أن المسألة تعود إلى ظروف قاهرة وليس إلى تفوق أزلي لدين على دين.
فالمسيحية في أوروبا اضطرت إلى تجديد رسالتها اللاهوتية وإعادة تأويل نصوصها الدينية بسبب الصعود الذي لا يقاوم للعقل العلمي والفلسفي منذ القرن السابع عشر على الأقل.
نقول ذلك على الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية قاومت التطور وحاولت إيقافه أو عرقلته طيلة مائتي سنة على الأقل! ولم تعترف بالمنهجية التاريخي ومشروعية تطبيقها على النصوص المقدسة إلا بعد انعقاد المجمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني عام 1962 - 1965 . ولم تعترف بحقوق الإنسان وبعض مبادئ فلسفة التنوير الأخرى إلا في ذلك التاريخ. ولكن "من الأفضل أن يحصل الشيء متأخرا على ألا يحصل أبدا. " كما يقول المثل الفرنسي. في الواقع أن الرهان الحاسم الذي دارت حوله كل المعارك الفكرية منذ سبينوزا وحتى الفاتيكان الثاني مرورا بفولتير وروسو وديدرو وكانط وهيغل ونيتشه.. يتلخص في كلمة واحدة: حرية الوعي والضمير. هل الإنسان حر في أن يؤمن أو لا يؤمن؟ هل هو حر في أن يؤدي الطقوس والشعائر أو لا يؤديها؟ وهل الإيمان القائم على القسر والإكراه له قيمة أو معنى؟ وهل الإنسان حر في أن يغير عقيدته إذا ما أملى عليه ضميره ذلك؟ وهل التعددية الدينية أو المذهبية أمر مشروع في المجتمع أم أنه ينبغي إجبار الناس كلهم على اعتناق دين واحد أو مذهب واحد؟
هذه هي الأسئلة التي طرحها فلاسفة التنوير وخاضوا من أجلها المعارك حتى انتصرت أخيرا، وأصبحت تشكل مكتسبا أساسيا من مكتسبات الحداثة الكونية. ولكنهم لم يستطيعوا التوصل إلى هذا المكتسب إلا بعد القيام بتفكيك اللاهوت المسيحي القديم. فاللاهوت التقليدي يقول لك بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة التي لا تناقش ولا تمس. وبالتالي فكل شخص يقع خارجها، أي لا يعتنقها، هو شخص مدان. على هذا النحو تشكلت الأنظمة اللاهوتية الثلاثة وسيطرت طيلة العصور الوسطى. أقصد الأنظمة اللاهوتية اليهودية، فالمسيحية ،فالإسلامية.
وقد مارست دورها،كما يقول أركون في إحدى أطروحاته الشهيرة، على هيئة أنظمة للنبذ والاستبعاد المتبادل. فكل عقيدة تتهم العقائد الأخرى بأنها خرجت على الطريق المستقيم (الأرثوذكسية) أو انحرفت أو حرفت الخ. وبالتالي فهي تنبذها أو تستبعدها عن جنة الخلاص أو النعيم الأبدي.
كل طائفة تعتقد أن الله اصطفاها وحدها دون سواها. وهكذا اشتعلت المعارك والحروب على مدار التاريخ بين الأديان ولا تزال. بل وحتى داخل الدين الواحد ساد النبذ والاستبعاد من خلال حديث الفرقة الناجية (انظر ما حدث بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، أو بين السنة والشيعة في الإسلام، الخ) وبالتالي ما الحل؟
الحل هو تفكيك كل هذه الأنظمة اللاهوتية المغلقة والكشف عن تاريخيتها ونزع القدسية عنها. فهي عبارة عن تركيبات بشرية حصلت في لحظة من لحظات التاريخ. وينبغي أن نعرف كيف حصلت، وكيف تشكلت وترسخت في الأذهان على هيئة حقيقة مطلقة: أي مقدسة لا تناقش ولا تمس. وهنا تكمن مهمة نقد ليس فقط العقل الإسلامي، وإنما العقل الديني بشكل عام. وهنا تكمن أيضا إحدى أطروحات أركون الأكثر خطورة وثورية. هنا يتجلى الطابع التحريري لهذا الفكر الذي يكسر الحواجز والجدران شيئا فشيئا حتى نخرج من أقفاصنا وسجوننا التراثية لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج.
فكر أركون في جوهره موجّه كله ضد التعصب والانغلاق على الذات: سواء أكان هذا التعصب قوميا أم دينيا أم طائفيا. انه فكر النزعة الإنسانية التواقة إلى إقامة جسور التواصل بين جميع البشر. فكل انسان له الحق في أن تحترم كرامته وإنسانيته. لذلك يلح اركون على القول بأن منظوره انثروبولوجي: أي إنساني يشمل جميع التراثات والثقافات البشرية، وليس فقط التراث المسيحي أو الإسلامي أو البوذي أو غيرها. ولكن هذا المنظور الشديد الاتساع يتطلب منا التخلي عن مفهوم الحقيقة المطلقة. بمعنى أنه لا يحق لأي تراث دينيا كان أم ثقافيا أن يزعم بأنه يمتلك - أو يحتكر- لوحده الحقيقة المطلقة. ولا يحق له أن يزعم بأنه الهي، وبقية التراثات بشرية، بما يعني أنه فوق النقد والمساءلة أو التفحص التاريخي. هذا الشيء لم يعد ممكنا بعد الآن. بعد أن كشفت الحداثة عن تاريخية كل الأنظمة اللاهوتية والفكرية السابقة التي سيطرت على البشرية طيلة قرون وقرون لم يعد هذا الشيء ممكنا. بل أن الحداثة أثبتت أن مجتمعاتٍ بأسرها قادرة على أن تعيش خارج النظام اللاهوتي كليا دون أن تنطبق السماء على الأرض! بل أنها أكثر المجتمعات البشرية تطورا وازدهارا وامتلاء بالحريات. (انظر مجتمعات أوروبا الغربية).
ولكن ذلك لا يعني القضاء على الدين أو بالأحرى العاطفة الدينية والروحية. فاركون من أشد الناس حرصا عليها ودفاعا عنها. وهو يعرف القيمة الروحية والتنزيهية العالية للتراث الإسلامي ويتواصل معها من خلال كبار الشخصيات كابن سينا و ابن عربي والتوحيدي و"إشاراته الآلهية" ذلك أني لم أتحدث حتى الآن عن نقد أركون للعقل العلموي المتطرف في ماديته واحتقاره لكل ما هو روحاني يتجاوز الماديات. ولم أتحدث عن نقده لتطرفات الحداثة الغربية وانحرافاتها سواء في الداخل أم في الخارج، أثناء المرحلة الاستعمارية أو فيما بعدها. وذلك لأني مشغول بشرح الخطوط العريضة لمشروعه فيما يخصنا حاليا بشكل مُلّح: أي نقد العقل الديني واللاهوتي.
والواقع أن اركون يتخذ الإسلام كمثال من جملة أمثلة أخرى على نقد العقل الديني. ولذلك يكثر من المقارنة في بحوثه بين الإسلام والمسيحية واليهودية (أي الأديان التوحيدية الثلاثة). بل وأحيانا يذهب إلى أبعد من ذلك ويقارنها بأديان الشرق الأقصى كالبوذية والهندوسية الخ. وذلك لأنه يريد أن يفهم سر الظاهرة الدينية من خلال عدة تراثات كبرى وليس من خلال تراث واحد فقط. وهذا هو المنظور الانثروبولوجي بالمعنى الواسع الذي أشرنا إليه آنفا. فظاهرة الدين -أو التقديس- موجودة في جميع المجتمعات البشرية. ولهذا السبب نصفها بأنها انثروبولوجية : أي إنسانية. فالإنسان ضعيف أمام مشاكل الحياة والموت وما بعد الموت، الإنسان لا يريد أن يموت. ولذلك يتعلق بظاهرة التقديس وينسج حولها التراثات اللاهوتية والدينية الشديدة التعدد والاختلاف. وهذه الأنظمة هي التي تحميه من خطر العدم والفناء. لكي أعطي القارئ فكرة عن ضخامة مشروع أركون، يكفي أن أعدد عناوين الكتب الخمسة التي سيصدرها في الفترة المقبلة بكلتا اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
مشروع نقد العقل الإسلامي
الكتاب الأول: كيف نفهم الإسلام اليوم؟
من أهم فصوله: مكانة المثقف في السياقات الإسلامية والمهام الملقاة على عاتقه. مفهوم العقل الإسلامي. كيف نقرأ القرآن اليوم. الإسلام أمام تراثه والعولمة. الوحي، الحقيقة، التاريخ طبقا لأعمال الغزالي..الخ
الكتاب الثاني: الإسلام الكلاسيكي. من أهم فصوله: مع مولود معمري في تاوريرت ميمون. تبريرات. عودة إلى مسألة الأنسنة في السياقات الإسلامية. مفهوم الشخص في التراث الإسلامي. الذاكرات الجماعية والوعي الإسلامي..الخ
الكتاب الثالث: الجدلية الكائنة بين الإسلام والحداثة والعولمة. ومن أهم فصوله: الإسلام في التاريخ. زحزحة موقع لاهوتي (حول المناقشة السنية الشيعية). وظائف الدين في أفق عام 2010 في الحوار بين الأديان إلى الاعتراف بالظاهرة الدينية. من أجل تعليم الانثروبولوجيا الدينية..الخ
الكتاب الرابع: من أجل فكر مغاربي. من أهم فصوله : الفكر العربي وأنماط حضوره في الغرب الإسلامي. الأسس العربية - الإسلامية للثقافة المغاربية. اللغات والمجتمع والدين في المغرب المستقل. مقاربة تاريخية وانثروبولوجية. موت الحسن الثاني. الجزائر : قدر تاريخي. مكانة ابن رشد في تاريخ الفكر..الخ
الكتاب الخامس (بالإنجليزية) : اللامفكّر فيه داخل الفكر الإسلامي المعاصر. من أهم فصوله: التفكير في المستحيل، التفكير فيه واللامفكر فيه داخل الفكر الإسلامي. حدود العقل في القرن الواحد والعشرين: العقل الديني والعقل العلمي والعقل الفلسفي في السياقات الإسلامية. المكانة المعرفية والوظائف المعيارية للوحي. مثال القرآن. القرآن والممارسات النقدية المعاصرة الخ.
هكذا نلاحظ أن البروفيسور محمد اركون يواصل مهمته في إضاءة الطريق أمام المسلمين وإخراجهم من الورطة التي وقعوا فيها بعد عصور الانحطاط والتخلف عن ركب العالم الحديث. انه يريد لهم أن يتقدموا، أن ينهضوا، أن يتحلحلوا. ويحاول جاهدا بلورة منهجية جديدة لإعادة قراءة نصوص التراث وتفكيك الإنغلاقات المزمنة التي تسيطر على وعي الملايين. كما ويكشف لهم عن الصفحات المشرقة في تراثهم الديني والفكري أي ما يمكنهم الإبقاء عليه والاستفادة منه وكذلك ما ينبغي أن يطرحوه ويتخلصوا منه لأنه يكبلهم أو يقيدهم بالأغلال. وبالتالي يمنعهم من إقامة المصالحة التاريخية المنشودة بين تراثهم والحداثة. وهي مصالحة لن تتم إلا بعد المصارحة: أي القيام بأكبر عملية نقد داخلية شهدها التراث الإسلامي حتى اليوم. وهذا ما يتنطح له حاليا مشروع نقد العقل الإسلامي.
&
&