&
مبنى الجامعة
بيروت : ريما زهار : اصبح موضوع الجامعة اللبنانية اشبه بـ "قميص عثمان" الذي يثير حوله زوبعة من الخلافات، تارة بسب تعيين العمداء وطوراً بداعي التوحيد, ويحاول كل طرف سواء اكان معنياً بهذه القضية او متطفلاً، تحقيقاً لمكاسب خاصة، ان يشد بـ "قميص الجامعة" لمصلحته، فأصبحت في حال يرثى لها، ما حول "قميصها" خرقة, ولم ينجح الواقع المزري الذي بلغته الجامعة في دفع النقاش في مصيرها ومستقبلها في اتجاه علمي واكاديمي بعيداً من المصالح السياسية والطائفية التي تتحكم في المجتمع اللبناني.
قضية مزمنة
ورغم ان قضية الجامعة اللبنانية مزمنة، اعيد وضعها على نار قوية، اثر القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في أيار مايو الماضي بتوحيد الفروع في محافظتي بيروت وجبل لبنان، واوعز الى اللجنة الوزارية المؤلفة من وزراء التعليم العالي والثقافة والشؤون الاجتماعية والتنمية الادارية: عبد الرحيم مراد، غسان سلامة، اسعد دياب وفؤاد السعد، والمكلفة درس موضوع الجامعة، بالشروع في وضع خطة لدمج فروع كليات الجامعة ومعاهدها في بيروت وجبل لبنان اعتباراً من السنة الدراسية المقبلة 2001 ـ 2002 .
واثار هذا القرار حملة اعتراضات واسعة واوجد ازمة في البلاد التي انقسمت مجدداً بين "شرقية" و "غربية" وفق التسميات التي كانت معتمدة في اثناء الحرب، خصوصاً ان الفروع المطروح توحيدها تتوزع بين هاتين المنطقتين.
لماذا التفريع ثم التوحيد؟
تقودنا الاجابة عن هذا السؤال الى التعمق قليلاً في تاريخ الجامعة اللبنانية ونشأتها ومدى تأثير الحرب اللبنانية على واقعها ودورها وادائها.
لمحة تاريخية
تأسست الجامعة اللبنانية نتيجة نضالات شعبية وطالبية طويلة توجت بتظاهرات شباط&فبراير عام 1951 واعتقل خلالها عشرات الطلاب، واستشهد فرج الله حنين احد ابرز مناضلي الحركة الطالبية في الجامعة اليسوعية، وفق ما يشير المهندس اميل شاهين في دراسة حملت عنوان "الجامعة اللبنانية: عودة الى التاريخ", وتنفيساً للاحتقان، صدر مرسوم انشاء دار المعلمين العليا لاعداد اساتذة التعليم الثانوي وكوادر الموظفين في الدولة، لتتشكل يذلك نواة ما عرف لاحقاً باسم "الجامعة اللبنانية"، والتي استقبلت اول فوج من الطلاب بلغ عددهم 68.
وعام 1953 صدر المرسوم الرقم 25 الذي استحدث مراكز للدراسات المالية والادارية وسمي في ما بعد "معهد الادارة والمال"، واستبدل اسم "دار المعلمين العليا" باسم "معهد المعلمين العالي", وعام 1959، وبناء على نصيحة "بعثة ايرفد" تم اصدار مرسوم بتأسيس معهد العلوم الاجتماعية وصدر مرسوم آخر في العام نفسه قضى بتأسيس كلية الحقوق، ليصبح بذلك للجامعة اللبنانية كيان يتمثل في ثلاث كليات ومعدين, وصدر عام 1959 المرسوم التنظيمي الرقم 2883 الذي نظم الجامعة اللبنانية, لذا يعتبر البعض ان عام 1959 هو عام تأسيس الجامعة اللبنانية، الا انه لم تتخذ في ذلك الحين شكل الجامعة في مفهومها العلمي والاكاديمي في ظل غياب الكليات التطبيقية كالهندسة والطب وغيرها,

ثلاث
&وظل انشاء مثل هذه الكليات دونه عقبات عدة، يحددها المهندس شاهين في دراسته بثلاث:
اولاً: لم يكن انشاء هذه الكليات وارداً في برنامج الحكومات المتعاقبة، اذ ان كل ما كان يهمها عدم اغضاب الجامعات الاجنبية عبر انشاء كليات تتعارض مع ما هو موجود فيها.
ثانياًَ: ان وجود كليات ومعاهد يتطلب تنظيماً يحدد هيكليتها الادارية والاكاديمية والحالية ويعطيها الاستقلال والشخصية المعنوية مما يفترض وجود قانون ينظم الجامعة .
ثالثاً: يستدعي وجود كليات ومعاهد اضافية، وجود ابنية ومواقع للدراسة والنشاطات المتنوعة, واكثر الابنية الموجودة هي من مخلفات الجيش الفرنسي وغير كافية او صالحة او مشتتة, وبالتالي، فان هذا الواقع يفرض وجود بناء جامعي موحد.
اخذت هذه المطالب تتبلور مع تطور الجامعة الوطنية ازياد الحاجة اليها، وساهم التفاف الحركة الطالبية حول مطالب الجامعة في تحقيق المزيد من المكاسب, فانتزع "اتحاد طلاب الجامعات اللبنانية" المرسوم 3107 الصادر عام 1965، والذي يؤسس معهد الفنون الجميلة, وانتزع عام 1966 مرسوماً آخر بانشاء معهد الاعلام، ومرسوماً بانشاء كلية ادارة الاعمال عام 1967. وكان الانجاز الاكبر القانون الاساسي لتنظيم الجامعة الذي صدر في 16-12-1967 تحت الرقم 757 الذي كرس استقلالها الاكاديمي .
تفريع قسري

شعار الجامعة

تركزت حتى عام 1975 مراكز الكليات والمعاهد في بيروت وضواحيها الا انه عام 1976، وبسبب الحرب اللبنانية، انشئت فروع للكليات في محافظات جبل لبنان والشمال والجنوب والبقاع، بناء على قرار التفريع الذي اصدره وزير التربية الرئيس الراحل
كميل شمعون، بسبب الحال الامنية وصعوبة الانتقال, واتخذ القرار في حينها طابعاً موقتاً بسبب انقطاع الاتصال بين المناطق من جراء النزاعات الداخلية, غير ان الموقت صار دائماً ولم تنجح منذ عام 1990، تاريخ انتهاء الحرب سوى تجربتي توحيد يتيمتين شملتا كليتي الطب والصيدلة، وتعذر توحيد كليات الزراعة والتربية والاعلام والصحة رغم القرارات المتخذة في هذا الشأن في مجلس الجامعة وحتى في مجلس الوزراء!
واستقر الوضع الجامعي على كلتين في كل اختصاص لا تفصل بين الواحدة والاخرى سوى بضعة كيلومترات, وتلك مسافة يقطعها اللبنانيون يومياً في انتقالهم الى اعمالهم ومنها.
اعادة قرار مجلس الوزراء الخاص بتوحيد فروع الجامعة في بيروت وجبل لبنان فتح ملف الجامعة اللبنانية على مصراعيه, وزاد الطين بلة، التشبيه الذي استخدمه الرئيس اميل لحود في تبريره قرار توحد الجامعة، اذ اعتبر ان الجيش اللذي اعيد توحيده عام 1990 اصبح جيشاً وطنياً نتيجة دمج الالوية وتوزيعها على كل المناطق اللبنانية, واراد لحود تعميم التجربة على الجامعة الوطنية لتحقيق الانصهار الوطني وتقويتها وتعزيز دورها وتوحيد المناهج والمستوى التعليمي.
من نافل القول، ان قضية توحيد الجامعة وما خلفته من انقسامات حادة في الاراء تنطلق من خلفية سياسية وطائفية في الدرجة الاولى, اما الهم الاكاديمي والحديث عن الديموقراطية وحرية التعبير، فليسا سوى "اكسسوار" يستخدم لتبرير حجج المعترضين على التوحيد، من دون ان ينفي ذلك وجود غايات خاصة عند بعض الساعين وراء التوحيد, في اي حال، فان المكان المخصص للبناء الجامعي، لا يزال ينتظر صفاء النيات تحقيقاً للوحدة الجامعية, اذ تملك الجامعة الوطنية مجمع الحدث في ضاحية بيروت الجنوبية، وتقارب مساحته 800 الف متر مربع، وتملك ايضاً مجمع الفنار في الضاحية الشرقية لبيروت وتقارب مساحته 35 الف متر مربع.
امر واقع
يرى مؤيدو توحيد الجامعة الوطنية وهم في معظمهم ابناء الفروع الاولى في غرب بيروت، ان الفروع كانت امراً واقعاً فرضته الحرب وزواله بات ضرورياً مع انتهاء اسبابه الموجبة، خصوصاً ان بقاءه يكرس واقعاً تقسيمياً يجب العمل على ازالته, ويرد المعترضون على التوحيد، وهم عملياً ابناء الفروع الثانية في شرق بيروت، ان التفريع لا يشكل واقعاً تقسيمياً، انما هو مصدر غنى وتنافس يؤدي الى تحقيق الانماء الثقافي المتوازن, ويذهب هؤلاء ابعد من ذلك، فيعتبرون ان في توحيد الجامعة الوطنية قمعاً للحريات، في حين ان التفريع يعكس مناخاً ديموقراطياً ويشجع حرية الرأي, ولعل اكثر ما يثير هؤلاء هو كيفية الجمع بين طلاب ينتمون الى حركة "امل" او الى "حزب الله" مع طلاب في حزب الكتائب اللبنانية او "القوات اللبنانية".
ويستند معارضو التوحيد الى قانون تنظيم الجامعة في دفاعهم عن التفريع, اذ نصت المادة الخامسة من هذا القانون الصادر عام 1967 على الاتي: "تنشأ الكليات والمعاهد وتُلغى ويُدمج بعضها ببعض بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير التربية الوطنية والفنون الجميلة بعد استطلاع رأي مجلس الجامعة اللبنانية او بناء على توصية".
ركز معارض التوحيد على" عبارة "تنشأ لها فروح حيث تدعو الحاجة" واسقطوا من حسابهم ان الغاءها او دمجها ممكن ايضاً وفق مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء.
خطأ كبير
يرفض الدكتور شربل كفوري مدير الفرع الثاني في كلية الهندسة، الحديث عن توحيد الجامعة، ويعتبر ان مقاربة الموضوع من هذا المنطق تنطوي على خطأ كبير، "فالجامعة في وضعها الحالي موحدة، فليس الاجتماع في مبنى واحد هو ما يحدد التوحيد او يكرسه".
ويقول : "انا مع وحدة الجامعة وهي موحدة اصلاً، لكنني لست مع دمج الفروع العشوائي والقسري في الشكل الذي طرح فيه اخيراً", ويعتبر كفوري ان قرار الدمج جاء استنسابياً واقتصر على فروع جبل لبنان وبيروت, والاهم من هذا وذاك، "ان القرار جاء سياسياً ولم ينطلق من معطيات اكاديمية بحق، علماً ان كل قرار يخص الجامعة يفترض ان يتخذ فيها وليس خارجها".
ولعل اكثر ما يثير كفوري، هو الحديث عن ان دمج الفروع يهدف الى تحقيق الانصهار الوطني, اذ يعتبر ان الناس يتواصلون في كل الامكنة، ولا حاجة لاقحام مثل هذه الحجج في الحديث عن الجامعة الوطنية, ويضيف:
"نحن موحدون على مجموعة مبادئ وقيم وطنية، الا ان السياسيين هم الذين يعملون على التقسيم عبر مبدأ المحاصصة والطائفية والمذهبية، فليكفوا عن التدخلات السياسية والفئوية والدنيا بالف خير".
ويؤكد ان دمج الفروع "غير ممكن لاسباب موضوعية، ففي الجامعة اللبنانية نحو 70 الف طالب، فكيف لنا ان نجمعهم في حرم واحد على غرار الجامعات الخاصة التي لا يتجاوز عدد الطلاب فيها الـ 5 آلاف؟"
ضرورة اكاديمية
واذا كان الدكتور عدنان الامين يتفق مع كفوري على ان موضوع الجامعة وقرار توحيدها او دمج فروعها هو سياسي وليس اكاديمياً، الا انه يعتبر في المقابل ان توحيد الجامعة بعيداً عن كل الصخب الطائفي والسياسي الذي يشوب النقاش في هذا الموضوع، "ضرورة اكاديمية قبل اي شيء آخر".
ويعتبر ان "توحيد الجامعة يفسح المجال واسعاً امام حشد الطاقات التعليمية وتوفير الابنية المناسبة والتجهيزات المواكبة لاخر التطورات التقنية، ويؤمن التجانس في التعليم, كما انه يتيح امكان تقويم ذاتي لنوعية التعليم امام الطلاب، اذ يصبح في اماكنهم ان يجروا مقارنة بين الاختصاصات", والاهم، فان توحيد الجامعة في رأي الامين، يوفر الحركة الاكاديمية بحيث لا يشعر الطالب بانه منعزل في كلية واحدة، ولا يملك ادنى فكرة عن الاختصاصات الاخرى التي تدرس في كليات الجامعة الموزعة بين المناطق.
ويؤكد ان "لا حياة جامعية طبيعية من دون وجود حرم جامعي، يؤمن التواصل بين الطلاب من الاختصاصات المختلفة والاهتمامات الاكاديمية".
ولعل اكثر ما يزعجه هو القول ان التوحيد يقمع الحريات في حين ان التفريع يتيحها, ويعتبر ان العكس هو صحيح، "اذ ان التوحيد يتيح السجال بين الطلاب مهما اختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والمعتقدات الدينية، ويعزز الحوار ويعمقه, اما التفريع فيحقق سيطرة جهة واحدة ويؤكد سطوتها، ويلغي مقومات الحوار البديهية, فالتفريع في هذا المعنى تكريس للنظام عنصري وتعزيز للفرز الطائفي, ولو كان اكتشافاً ناجحاً، فما السير الذي يجعله وقفاً على لبنان؟ اذ ليس ثمة جامعة واحدة في العالم انقسمت على ذاتها في فروع وانتشرت في ابنية سكنية في المناطق, انه منطق البيض والسود الذي يطبق اليوم في الجامعة الوطنية، المنقسمة على ذاتها في فروع عدة, فلكل طائفة فرعها الخاص وجامعتها الوطنية الخاصة".
توحيد الفروع ودمجها، واحد من العناوين الكثيرة التي تثار كلما ذكرت الجامعة اللبنانية, اذ ان المشاكل فيها اكثر من ان تعد او ان تحصى, الا ان حل عقدة التوحيد، يفتح الباب واسعاً امام ازالة العوائق الاخرى التي تعتري مسيرة هذه الجامعة وتطورها، شرط الا يعتمد المنطق السياسي نفسه في حل ازمات الجامعة اللبنانية المتراكمة.