تحت عناون "نرجسية المثقف العربي" نشر السيد ولد أباه مقالة كاملة في "الشرق الاوسط" بتاريخ 15 حزيران (يونيو) الماضي منتقدا فيها بعض تصريحات محمد أركون ومشروعه الفكري.
في الواقع انه انتزع عبارة واحدة من سياق مقالاتي التي نشرتها "ايلاف" تباعا، وبنى عليها احكاماً تعميمية لا يمكن ان تمر دون مناقشة. لا أعرف كيف استنتج الاستاذ ان اركون يتهم الثقافة العربية بالجمود والانغلاق والتعصب؟ انه يتهم تيارا منها، وليس كل التيارات. ثم ما العيب في الاشارة الى نواقص ثقافتنا وفكرنا اذا كان ذلك سيؤدي الى استشعار الخطر وتدارك النقص؟ وهل يمكن لفكر ان يتقدم بدون مصارحة نقدية؟
لا ريب في ان تيار التقليد والجمود لا يزال مسيطرا فيما يخص تفسير التراث الديني ليس فقط في المجتمعات العربية وانما في العالم الاسلامي كله. وهذا أمر واضح للعيان وليس بحاجة الى برهان. ولكن هذا لا يعني عدم وجود تيار اخر يمثل التجديد. صحيح انه لا يزال اقلية في مجتمعاتنا، ولكنه مرشح لأن يصبح اكثرية يوما ما بفعل عوامل التقدم والتطور (متى سيصبح اكثرية بعد خمسين سنة او ستين سنة؟ لا أحد يعرف) ففي المجتمعات العربية توجد قوى جديدة صاعدة تشد الى الامام بقدر ما توجد قوى قديمة تشد الى الخلف.
زحزحة الجبال أسهل من تغيير العقليات!
صحيح ان انتشار هذا التيار التجديدي لا يزال ضعيفا بالقياس الى التيار التقليدي الراسخ الجذور منذ مئات السنين. ولكن المستقبل له. المستقبل تحسمه جدلية الصراع الدائر بين التيار الليبرالي الاصلاحي الذي يدعو الى تأويل التراث بطريقة منفتحة ومتصالحة مع روح العصور الحديثة، وبين اتباع التأويل الحرفي الذي يتشبث بالقراءة الموروثة الجامدة. ودائما ما هو موروث يكون راسخا في العقليات ويصعب تغييره. ولذا يقول بعضهم بان زحزحة الجبال أسهل من تغيير العقليات. وبالتالي فان حسم هذا الصراع الدائر حاليا في كل المجتمعات الاسلامية، واحيانا بشكل ساخن وعنيف، لن يتم بين عشية وضحاها. وانما سوف يستغرق عدة عقود من السنين.
ولهذا السبب يعلن محمد اركون نفاد صبره احيانا ويتمنى لو ان التغيير يحصل بسرعة اكبر. وهذا أمر مفهوم ومشروع انسانيا. فالمفكر الغيور على مصلحة أمته ( واركون غيور على الاسلام اكثر مما يتصور السيد ولد أباه) يتمنى لها ان تتقدم باقصى سرعة ممكنة، ان تخرج من محنتها وورطتها، ان تصبح ذات شأن بين الأمم.
لا يمكن فهم اركون بدون امتلاك الثقافة الحديثة
اما النقطة الثانية التي يثيرها السيد ولد اباه فهي ان اعمال اركون سهلة وليست صعبة الى مثل هذا الحد. كم اتمنى ان يكون ذلك صحيحا! أحب ان افضي له بسر شخصي: لقد أمضيت اكثر من عشرين سنة من حياتي في قراءة هذا الفكر وترجمته والتعليق عليه. ومع ذلك فلم اشعر باني فهمته جيدا او استوعبته بكل ابعاده ومعانيه، الا قبل سنة او سنتين فقط. لماذا؟ لاني لم اكن امتلك الثقافة الحديثة عندما وصلت الى فرنسا قبل ربع قرن. وهذه ليست حالتي فقط، وانما حال معظم الطلاب والباحثين العرب الذين يفدون الى الجامعات الاوروبية من اجل شهادة الدكتوراه. ينبغي ان نعلم ان اركون يستخدم ترسانة العلوم الانسانية بكل مناهجها ومصطلحاتها من اجل اضاءة التراث الاسلامي من الداخل. وهذه العلوم غير متوافرة حتى الان في اللغة العربية على الرغم من بعض الجهود التي بذلت هنا وهناك. لقد قلت لاركون اكثر من مرة عندما كان يحتج احيانا على طول شروحاتي وتعليقاتي: اشعر بالحاجة بعد ترجمة كل كتاب الى تأليف ثلاثة كتب حوله من اجل شرحه وتوضيحه والتأكد من انه اصبح قابلا للفهم والاستيعاب من قبل القارئ العربي.
متى سيتم تأسيس المعهد العربي للفلسفة والعلوم الانسانية؟
نعم ان فكر اركون صعب، ولولا اني بذلت جهودا مضنية في الترجمة لما وصل الى الساحة الثقافية العربية. وقد اشتكى الكثير من الدارسين والطلبة من صعوبة هذا الفكر وامتلائه بالمصطلحات الغريبة والعويصة وبلغوني شكواهم اكثر من مرة. وكنت دائما اقول: اذا لم تتشكل مكتبة للعلوم الانسانية في اللغة العربية فاننا لن نستطيع ان نفهم فكر اركون كما ينبغي. وبالتالي فاني انتهز هذه المناسبة لتوجيه النداء التالي الى جميع المسؤولين عن الثقافة& العربية: متى سيتم تأسيس المعهد العربي للفلسفة والعلوم الانسانية؟ متى ستُنقل كل انواع المعرفة الحديثة الى لغتنا العربية؟ اذا كنتم غيورين على هذه اللغة، اذا كنتم لا تريدون ان ينصرف عنها أبناؤها وبناتها فزودوها بامكانيات البقاء والصمود امام هجمة اللغات الاجنبية الحديثة كالفرنسية والانكليزية. وهي لغات تحتوي على& الاف المراجع في مختلف الفروع والعلوم: من علم الالسنيات والسيميائيات، الى علم التاريخ، الى علم الاجتماع، الى علم الانثربولوجيا، الى علم الاديان المقارن، الى علم الاجتماع الديني، الى علم النفس والتحليل النفسي، الى الابستمولوجيا وفلسفة العلوم،.. ينبغي ان تنشأ مراكز بحوث في المغرب والمشرق لكي تنقل أمهات الكتب العلمية والفلسفية الى اللغة العربية.
وينبغي ان يتناقش الباحثون العرب من مغاربة ومشارقة حول توحيد المصطلحات. وهذه معركة لا تقل اهمية عن المعارك العسكرية. فمن ينتصر في مجال العلم ينتصر في كل المجالات الاخرى. ينبغي ان يعلم القارئ انه توجد في اللغات الاجنبية آلاف المصطلحات والنظريات الفكرية التي لم تترجم بعد الى اللغة العربية، بل ولم نسمع بها حتى مجرد سماع.
فكر اركون لم يجيء بعد. انه مرشح للمجيء.
ثم يتحدث الاستاذ الكريم عن تراجع بريق المشروع الاركوني، لكأنه فهم واستوعب لكي يتراجع! في الواقع ان ترجمته لم تكتمل بعد، بل وان نصف نصوصه على الاقل لا تزال تنتظر من يترجمها ويشرحها. لا يا صديقي، السيد ولد أباه، ان مشروعه صامد وليس هابطاً، انه واعد بالمستقبل، والايام بيننا. ولا اقول ذلك دفاعا شخصيا عنه. فالمسألة تتجاوزني وتتجاوزه شخصيا بعشرات المرات. المسألة تهم فكر أمة بأسرها، فكر يقف الان على مفترق طرق: فاما ان ينخرط في خط العقلانية النقدية والمصارحة الكبرى واما ان يتهيب العملية وينكص على اعقابه، وعندئذ سوف يدفع الثمن غاليا. وسوف يكون الثمن تهميشا على مسرح التاريخ بين الأمم. لماذا اقول بان هذا الفكر مرشح للتوسع والانتشار؟ لسبب بسيط هو انه يلبي حاجة تاريخية،لانه يعانق اللحظة التاريخية العربية الاسلامية. وسوف تنكشف أبعاده ورهاناته العميقة بمرور الزمن. ذلك ان فكر اركون لم يجيء بعد. انه مرشح للمجيء.
فكر اركون ليس ورشات باردة!
ثم يصف الاستاذ الناقد ولد أباه ان فكر اركون بانه عبارة عن ورشات اكاديمية باردة عاجزة عن التواصل مع مطامح الامة وهمومها. ومن قال لك ذلك؟ ان كل من يعرف اركون عن كثب، أو كل من حضر دروسه ومحاضراته، يعرف جيدا مدى انخراطه في هموم الفكر الاسلامي، ومدى حرصه على تجديد الدراسات الاسلامية. كل حياته كرسها لتحقيق هذا الهدف، وليس صحيحا انه يكتفي بالتنظير التجريدي. فاطروحته الضخمة عن مسكويه هي عبارة عن تطبيق للمنهجية التاريخية الحديثة على الفكر العربي الاسلامي في القرن الرابع الهجري. ودراساته عن القرآن (انظر كتابه: قراءات في القرآن) ما هي الا تطبيق للمنهجية الألسنية والتاريخية والاجتماعية على النص التأسيسي الأعظم. واعتقد انه أضاءة& بشكل يعجز الوعي الاسلامي في صيغته الحالية ان يستوعبه. هنا ايضا نحن بحاجة الى خمسين سنة او اكثر لكي ننتقل من مرحلة ما قبل الحداثة الى مرحلة الحداثة والمسؤولية الفكرية. ودراساته عن الغزالي، والتوحيدي، وابي الحسن العامري، والماوردي، وعشرات غيرهم هي دراسات تطبيقية. ثم يجيئون بعد ذلك ويقولون لك بان اركون يضيع وقته في التنظيرات. ولكن التنظير ضروري يا سيدي، فاي تطبيق عملي بدون اطار فكري او وضوح نظري لا يؤدي الى نتيجة تذكر، انه كمن يمشي على غير هدى، او كمن يخبط خبط عشواء.
بالطبع فان التنظير ينبغي ان يرتكز على وقائع محسوسة ودراسات ميدانية او تطبيقات عملية والا لكان فارغا لا جدوى منه.
المجتمعات الاوروبية عرفت كيف تشخص مشاكلها
بقيت نقطة اخيرة أحب ان اتوقف عندها قليلا. كثيرا ما اسمع بعض المثقفين العرب يهاجمون العلوم الانسانية باعتبار انها كلام مثلها مثل بقية الكلام. وهكذا يخلطون بينها وبين الايديولوجيا أو تنظيرات الاحزاب السياسية العربية. وهذا خطأ كبير ينتج عنه ضرر اكبر بالنسبة لنا. فنحن في الساحة الثقافية العربية بحاجة الى العلوم الانسانية اكثر من غيرنا. لماذا؟ لان الخطابات الايديولوجية سواء أكانت ذات أصل شيوعي ستاليني، أو قومي متطرف، أو اصولي متزمت تملأ هذه الساحة من اقصاها الى اقصاها. ولا يمكن تحجيم هذه الخطابات الايديولوجية الا بادخال العلوم الانسانية بكل مناهجها ومصطلحاتها. نعلم التاريخ يعلمنا التفكير التاريخي، وينمي الوعي التاريخي لدينا، وعلم الاجتماع يشرح لنا اكراهات الواقع ومكوناته،& وقل الامر ذاته عن بقية العلوم الانسانية. ونحن ننتمي الى مجتمعات غير مدروسة او غير محللة علميا على عكس المجتمعات الاوروبية المتقدمة التي أضيئت في كل جوانبها من قبل الاختصاصيين والخبراء الباحثين. ولذلك فعندما تنشب مشكلة ما في هذه المجتمعات فانهم يعرفون كيف يشخّصونها بسرعة لانهم يمتلكون كافة المعطيات. واما نحن فلا أحد يعرف تركيبة مجتمعاتنا، بل ولا أحد يجرؤ على معرفتها. ولهذا السبب فاننا نتخبط خبط عشواء ولا نعرف كيف نشخص مشاكلنا ناهيك عن حلها او ايجاد علاج لها. ولهذا السبب ايضا فان المشاكل تنفجر فينا وتمزق مجتمعاتنا ونحن نتفرج. ليس غريبا اذن ان تسيطر علينا الخطابات الايديولوجية التي لا تعبأ بحقائق الواقع والتاريخ والتي تريد تغيير الواقع قبل معرفته، في حين ان معرفته ينبغي ان تسبق تغييره.
يجب التفريق بين العلوم الانسانية والخطاب الايديولوجي
بالطبع فان العلوم الانسانية ليست هي العلوم الدقيقة. فقوانين علم الاجتماع ليست في نفس حتمية او صحة قوانين علم الفيزياء او الكيمياء. هذا أمرى مفروغ منه. ولكن هذا لا يعني ان العلوم الانسانية هي عبارة عن ايديولوجيا! يكفي ان نقارن بين تحليلات عالم الاجتماع الرزينة والرصينة وبين الخطابات الايديولوجية الطنانة الرنانة ذات التهديدات والمبالغات والشعارات الديماغوجية لكي نتأكد من ذلك. نعم ان العلوم الانسانية حققت قفزات كبيرة في معرفة الانسان والمجتمع واكتشاف القوانين التي تتحكم بالانسان والمجتمع. ولكن علميتها ليست من نوع علمية العلوم الفيزيائية والرياضية. هذا كل ما في الأمر، لا اكثر ولا اقل.
لكيلا يظل كلامي تجريديا، او عموميا فسوف اضرب المثل التالي من اجل توضيح الفرق بين الخطاب الايديولوجي/ وخطاب العلوم الانسانية. قرأت في الايام الماضية على صفحات احدى الجرائد العربية المشهورة مقالا عن الاحداث الاخيرة في الجزائر، وفوجئت بان صاحبه يقول بان البربر هم عرب في الاصل، ولكن الاستعمار هو الذي حولهم الى بربر لتقسيم المجتمع! هذا الكلام مضاد لأبسط وقائع التاريخ والجغرافيا. وهو يضر بالفكرة العربية، او بالقومية العربية، اكثر مما يضر بالبربر. وكنت قد قرأت قبل عشر سنوات او يزيد كلاما مشابها عن اكراد العراق، حيث قيل بانهم قبائل عربية وفدت من شبه الجزيرة العربية. هذا الكلام الايديولوجي الذي يمكن وصفه بانه عنصري وغبي هو الذي يؤدي الى تقسيم المجتمع وترسيخ العصبيات العرقية او القومية فيه. فلو اننا قبلنا بالتعددية واحترمنا كل مكونات المجتمع وسمحنا لها بالتعبير عن نفسها لما فوجئنا بمثل هذه الانفجارات التي تهدد الوحدة الوطنية. ويمكن ان اقول الشيء ذاته عن الانقسامات الطائفية والمذهبية. وللاسف فلا يوجد حتى الان أي منظر فكري او حتى سياسي قادر على تشخيص هذه المشاكل الملحة والحارقة.
ولكنني اعتقد اننا لو سمحنا بادخال العلوم الانسانية الى معاهدنا وجامعاتنا لتغير الوضع ولكنا استطعنا تحليل كل هذه المشاكل بطريقة موضوعية علمية، ولما كانت هذه الخطابات الايديولوجية العمياء تسيطر علينا وتسد الافق. ولكن لحسن الحظ فان الخطاب الاديولوجي العربي ابتدأ يتهاوى الان ويفقد مصداقيته مثلما حصل للخطاب الشيوعي السوفييتي بعد ان سيطر علينا مدة خمسين سنة! وبتهاويه وانحساره عن الساحة فسوف ينفسح المجال لتوليد فكر اخر ذي وجه يحترم التعددية والاختلاف ويرى فيهما نعمة لا نقمة. نعم، نحن بحاجة الى الفكر مثل الخبز، وربما اكثر قليلا.
هاشم صالح، باريس،& في 12 حزيران (يونيو) 2001

&