&
تونس- آمال موسى: يعتبر المفكر التونسي&هشام جعيط من المتحمسين جدا لقضية الحداثة لذلك فهو يرى انه لا يمكن للعرب والمسلمين ان يلجوا باب الحداثة والمشاركة في العالم المعاصر إلا اذا كونوا لأنفسهم طموحا عاليا في مجالات الفكر والمعرفة والعلم والفن والأدب وقرروا بصفة جدية الأخذ عن الغير وما أبدعته الحداثة في كل الميادين.
أن هذا الرأي المتحمس أورده صاحبه في كتابه الجديد الصادر عن دار "الطليعة" ببيروت والذي عنونه بـ"أزمةالثقافة الاسلامية"& ويصدر هذا الكتاب بعد أشهر قليلة من صدور كتابه "في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة".
في كتابه الجديد "أزمة الثقافة الاسلامية" يتطرق هشام جعيط الى تشكيلات عديدة أهمها أزمة الثقافة في بلداننا والنزعة الانسانية والعقلانية في الاسلام والاسلام والسياسة وخصص فصلا كاملا لتناول مسألة جدل التاريخ والثقافة والدين في المغرب الاسلامي.
يتساءل الدكتور هشام جعيط، لماذا لم ينجب المغرب للانسانية خلافا للأندلس رجالا من طراز ابن رشد، ابن ميمون، ابن حزم وابن زيدون، ولا قصوراً من طراز الحمراء؟ ويضيف أن ذلك كان حال مصر أيضا حيث لم يبنْ المماليك وهم في ذروتهم الاقتصادية سوى جوامع جميلة وحيث ان الازدهارات الثقافية الأرفع، خارج المركز العراقي لم تتطور إلا في الأقاصي: الأندلس وخراسان.
ومنذ العصر الروماني يسجل جعيط عند الكتاب والفنانين وجود هذا الاحساس بالمرارة الاقليمية المغربية، هذا الوعي الممزق بالابتعاد عن المركز أي عن وسط ثقافي حيوي وتضاف الى ذلك صورة الانكار التي يعكسها هذا المركز وذلك من آبولي الى ابن خلدون وحتى أيامنا هذه يجد المغرب نفسه محشورا بين مركزين (فرنسا والمشرق) فلا يستطيع التطلع إلا لدور الوسيط.
ويرى المفكر ان هذا العجز عن التمركز الثقافي الذاتي يشهده المغرب من عدم قدرته المزمنة على التوحد سياسيا حول سلالة مستقرة لأمد طويل وغير منقطعة عن المجتمع بايديولوجيا محلية خاصة.
ويعتبر الدكتور هشام جعيط انه قد جرى تمجيد النهضة التي لم تكن سوى مشروع لغوي وأدبي لتنقية اللسان العربي مع انها كانت صفرا من زاوية الفكر. ويتفق صاحب الكتاب مع وجهة نظر المستشرق الفرنسي جاك بيرك حيث اعتبره محقا في التقليل من قيمة مشروع النهضة بالمقارنة مع الحيوية المغربية الروحية. ويرى جعيط ان اصلاحية الأفغاني وعبده الاسلامية جاءت متأخرة جدا ولم تمض الى العمق اذ أنهما في البداية فقط كان يمثلان وعيا ووجدانا وفيما بعد صار الأفغاني& داعية جامعة اسلامية تحت هراوة مستبد وفشل عبده في صوغ فكر ديني قوي ومستنير.
ولكيفية الحضور الاستعماري في كل من المغرب والمشرق الدور الكبير في تفسير الحالة الثقافية لذلك وصف المفكرين المستعمر في منطقةة& المغرب بالثقيلة وفي منطقة المشرق بالناعمة. وفي هذا السياق تم الحديث عن الجزائر التي توصلت الى حالة صعلكة واجتثاث ثقافي بسبب الاستعمار بينما قاوم المغرب الأقصى وتونس على نحو أفضل وشهدا نهضة ثقافية اعتبارا من الثلاثينات نهضة متلازمة مع الحركة الوطنية.
ويرى هشام جعيط بأن الابتعاد عن مشرق العصر الناصري قد أنقذ المغرب من أدلجة صارمة ومفرطة حيث أعطت المواجهة الطويلة مع فرنسا ثمارها ليس فقط عبر الرواية الجزائرية، بل أيضا خصوصا عبر ولادة فكر مغربي ناضج وقوي.
أما فيما يتعلق بالظاهرة الاسلامية فهي حسب منظور جعيط تعبر حقا عن القاعدة الاسلامية للمغرب التي ما برحت حية في الاعماق ولكنها بالقدر نفسه وربما أكثر كانت تمثل الرد على تجريد النخب الوطنية من اسلاميتها وهو ما فسره المفكر بثمرة التغليب الاستلابي السياسي، لسياسي متسلح بالقوة وبالنفوذ.
ولكن كيف طرح هشام جعيط في كتابه هذا اشكالية الحركة الاسلامية المعاصرة في منطقة المغرب الكبير، ذلك المغرب الذي قال عنه منذ الصفحات الأولى بأن الاسلام هو المبدأ الموحد له وهو المبدأ المرجعي الذي تستبطنه في العمق كل الجماعات.
يقول جعيط ان الحركة الاسلامية في شكلها الراهن تتوطد كظاهرة عامة في الاسلام المعاصر بصفتها حركة مطلبية قوية جدا بصفتها النواة الصلبة للاسلام وبصفتها ظاهرة جديدة.
ويرى جعيط ان هناك جذور قديمة لهذه الظاهرة تلخصها الوهابية التي كانت أهدافها مكافحة الصوفية الوثنية وتطبيق الشريعة تطبيقا صارما، وفوق ذلك كانت الوهابية في طهرانيتها الدقيقة تطرح نفسها كأنها متممة ومواصلة لمذاهب قديمة ومقبولة كالحنبلية.
ويبين جعيط ان انتشار الحركات الاسلامية في المغرب كان بهدف حفظ الذات في مواجهة النفوذ الاستعماري ثم تعاظمت الأسباب. وسيقول& بهذا الصدد: "ولئن كان صحيحا أن الاسلام لم يمس في الجزائر فمن الصحيح أيضا ان الافراط في النزعة التنموية الاقتصادية غيب الاسلام كروح وثقافة. وفي تونس ذهبوا الى أبعد من ذلك في مدى خمسة عشر عاما& (1956-1971) منذ التشريح الجديد الذي كان يُخالف النص القرآني الى السماح علنا بعدم احترام فريضة الصوم. وهذه الاجراءات كانت غير مناسبة على الأقل لسببين أو ثلاثة أسباب:
- في هذه النقطة لا يمكن أن تنفرد تونس وتتميز عن محيطها.
- الحركة الوطنية التي تحولت الى دولة كانت قد اشركت ضمنيا الاسلام في معركتها على مستوى الجماهير ولو كوجدان عام.
- من المفارقات ان الاجراءات التشريعية الخاصة بالمرأة كانت مجزأة تماما وبعده، لا يمكن انكار ان ذلك التشريع قد أعطى المرأة هامشاً أوسع من الحرية وأفسح المجال أمام شعور بالتسامح الديني النسبي.
ولكن من أين جاءت& تحديدا الحركة الاسلامية الراهنة في المغرب العربي؟
عن هذا السؤال يجيب هشام جعيط الذي يرى أن الأنسب تفسير ذلك بالتحديث السريع للدول الناشئة بعد الاستقلالات، التحديث الذي جرى تصوره كأنه اغتراب أو ارتهان الأمر الذي جعل الحركة الأسلامية كأنها ثأر للثقافي وكأنها عودة مبدئية الى الداخلي والذاتي.
ويضيف جعيط بأن الحركة الاسلامية هي قبل كل شيء في مستوى القادة حركة سياسية تستهدف& السلطة. وبهذا المعنى فهي تقع في خط حركات& التحرر المناهضة للاستعمار والتي أصبحت دولا قائمة وبالتالي مكللة بالنجاح، لذلك فالسياسي يدخل هنا في اللعبة لأن الجيل السابق طرحه بصفته الوسيلة الوحيدة لكل تدخل في صميم الجسم الاجتماعي.
ويتساءل هشام جعيط كم من الوقت ستصمد الحركة الاسلامية في المغرب العربي لأن التاريخ تطوري وهو حاليا متداخل بقوة وسواء تقلدت السلطة أم لم تتقلدها فان الحركة الاسلامية تمثل بكل تأكيد رغبة عميقة لدى شرائح واسعة من السكان المتأثرين بانهيار الطوباويات الاخرى والمأخوذين باليأس.
أزمة الثقافة في بلداننا
وفي موقع آخر من الكتاب تعرض الدكتور هشام جعيط الى أزمة الثقافة في بلداننا العربية مبيناً غياب الانتاج الثقافي منذ أن تفككت الرقاع الحضارية الكبرى بمفعول صدام الحداثة أو الاختراق الغربي.
ويقصد جعيط بالثقافة، الثقافة العليا الفكرية والروحية والعلمية والفنية اذا بقيت في نظره الثقافة الشعبية حية الى حد ما.
ويرى نفس المصدر ان الثقافة& الحديثة قابلة لكي تحتضنها البشرية كافة مؤكدا ان هذه الثقافة غربية الأصل والشكل وان الفلسفة فهمها العرب الماضون لكن الغربيين تقدموا بها أشواطاً عظيمة، فالرسم صار عالميا والموسيقى الكلاسيكية يجب أن تكون كذلك.
ويضيف هشام جعيط بانه صحيح ان لدينا تراثاً مندرجا في الشخصية، في الصين كما في الهند أو العالم الاسلامي أو افريقيا من لغة ودين وثقافة موروثة ولكن ذلك لا يمنع من اقتحام مغامرة الاسهام والمشاركة في بناء الثقافة الحديثة.
إلا ان الدكتور جعيط يسجل غياب هذه المشاركة مع انه يقر في نفس الوقت بانه ل وجود الان لحضارات وانما فقط لرقاع انسانية مطبوعة بتقليد حضاري منغرس في التاريخ ويفرز هوية ولغة وانتماء دينيا إذ لو وجدت الآن حضارات لأبدعت معها ثقافات ذات خصوصية وقوة ولكن الواقع انه حصل ابداع في الأشكال الحديثة من سينما ورواية ومسرح وفن تشكيلي وغير ذلك وهو ابداع هزيل.
ويتساءل هشام جعيط مرة اخرى: ما الذي أصاب هذه الحضارات- الثقافات منذ مائة وخمسين سنة؟ ويضيف على اثر هذا التساؤل، بانه صحيح، ان صعود الغرب قد تنامى وهو أمر يدخل في جدلية التاريخ البشري الا ان ما وقع هو ظهور الحداثة كقفزة جوهرية في تطور البشرية وليس كمرحلة من مراحل تاريخ محلي هو تاريخ أوروبا. بينما تشهد الحضارات الاخرى من الداخل اهتراء لقوى الخلق والابداع والتغيير وذلك تحت ضربات الغرب الجشع.
ويفسر جعيط هذا التراجع بالاهتزاز الكبير في النظرة الى الذات وفي الصورة الذاتية للأنا. ويعدد المفكر التونسي، أسباب مستوى الثقافة العربية التي منها، ضعف الماضي الحديث من عدة قرون، الأنظمة الدكتاتورية وعدم مأسسة الثقافة والمعرفة بصفة جدية وانعدام طبقة من الميسورين الشغوفين بالأثر الثقافي وجهل الحكام أنفسهم.
كل هذه الأسباب أدت الى أزمة الثقافة في بلداننا، تلك البلدان التي كان فيها احترام ومحبة للمعرفة ثم افتقدت هذه الميزة فتلبد المجتمع وأصبح لا يطمح الى أي انجاز نبيل وصار العرب يحتقرون بعضهم البعض لأنهم يحتقرون أنفسهم في الجملة "حالة العالم العربي متردية جدا في مجال الارتقاء بالانسان ومواكبة عصره، ولعل ايديولوجيا التنمية تدخل أيضا في المسببات، لقد قتلونا بانجازات النسيج والبناء والجلد والحديد والبلاستيك".
وتحدث هشام جعيط في هذا السياق عن الشباب العربي فرأى انه يهفو الى المطالعة ولكن تكوينه ضعيف وغلب عليه الايديولوجيا وكذلك شأن البورجوازية المتوسطة أو الثرية المنغمسة في المادة بصفة غريبة ولا تشتري كتاباً!.
وبخصوص موقعنا الأدبي والثقافي، يرى جعيط انه الى حدود عام 1960 كانت أوروبا هي المركز في هذا المجال أي مدن كباريس ولندن، فهي التي تمنح الشهرة وهي التي تترجم الاثار الادبية وهي التي تستقبل المنفيين، اذ عرفت باريس بـ راموز& وبورخس وجويس وبيكيت وكافكا وموزيل، ولندن صارت تعرف بالأفارقة والهنود من& طاغور الى نايبول، في حين، يعتبر هشام جعيط، بخصوصنا نحن العرب فلم يُعرف طه حسين على نطاق عالمي إلا بكتاب "الأيام" المترجم والذي قدمه اندريه جيد، وهو ما يفيد، ان هناك المركز وهناك الاطراف التابعة، وانتقلت الآن المركزية الى الولايات المتحدة الاميركية.
هذا ويسرب المفكر موقفه من كتابات& ادوارد سعيد، اذ يقول فيه ان كتابه عن الاستشراق مغلوط تماما وأثره عن صراع الحضارات سطحي وتبعا لهذا الموقف استغرب المؤلف تعامل العرب مع مؤلفات ادوارد سعيد بلهفة وتقبل كبيرين.