&
بيروت- إيلاف:& تم الادعاء امس على صحيفة "النهار" اللبنانية وعلى كاتب مقال نشرته الصحيفة اعتبر انه يتضمن "مسا بالجيش" اللبناني. وادعت النيابة العامة الاستئنافية في بيروت على كل من رافي مديان والمدير المسؤول في جريدة النهار جوزف نصر في جرم نشر مقال يتضمن مسا بالجيش" اللبناني.
وحمل المقال الذي نشرته الصحيفة في التاسع من اب (اغسطس) الجاري على دور الجيش والجهاز العسكري. واحالت "قيادة الجيش المقال الى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي هنري لحود لاجراء المقتضى ولكنه اعتبر انه ليس المرجع الصالح للادعاء واحاله الى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت".وكلف قاضي التحقيق حاتم ماضي النظر في القضية. وفي ما يلي نص المقال بقلم رافي مديان:
تستدعيني صياغة مقاربة حول دور الجيش ونظرية وجوده تناول اشكالية الحرب او تفكير الحرب (Penser la guerre) بحسب المفكر الفرنسي ريمون آرون. يقول فيلسوف الدولة المعاصرة والجيش النظامي الكلاسيكي نيكولوس ماكيافيلي في تصوره الى الامير (De Medici) ان الدولة القوية تقوم على جيش قوي Good politics follow good arms وأن الحرب، اي الجيش، مصدر القانون والنظام، ولا قانون ولا استقرار بدون حرب. يرى الاستراتيجي العسكري البروسي كلاوسفيتز (Clausewitz) بأن الحرب استمرار للسياسة بوسائل اخرى، ويضيف آرون ان السياسة استمرار للحرب باشكال اخرى. ويعتبر الحكيم الصيني (Sun Tzu) الذي عاصر مجتمع الاقتصاد الزراعي "بأن الحرب استمرار للاقتصاد باشكال اخرى. اي بمعنى آخر ان الاستثمار في الحرب (الجيش/الأمن) هو استثمار اقتصادي. كتب مؤرخ الحروب الاغريقية ثوسيدايدس (Thucydides) بأن الحرب وسيلة لردع الحرب وتأمين توازن الرعب مع الخصم ولتحقيق توازن القوى معه (Balance of power). اشار المستشرف الاميركي الفين توفلر (Alvin Toffler) في كتابه "الحرب والحرب المضادة" (1993) ان كل نمط في الحياة يقابله نمط في التدمير. وان التطور النوعي في الاقتصاد العالمي من اقتصاد السوق الى اقتصاد المعرفة والاتصالات والمعلومات يحتم تغيير مفهوم الحرب، نظرية الحرب. ويضيف توفلر ان للحرب في العصر الحالي تأثيراً كبيراً على أوجه الانشطة الحياتية كإرتفاع اسعار النفط والمواد الغذائية، البورصة، الاعلام، مستوى المداخيل، السينما... الخ. هناك اندماج للحرب في الاقتصاد. فأين تقع نظرية الجيش اللبناني اليوم من كل هذه المقاربات؟ ما هو دوره ومشروعية وجوده في اطار النظام السياسي والمعادلة المدينية؟ ومن يحدد دور الجيش وعقيدته، العسكر أم القيادة السياسية، اي الحكومة كمركز للقرار والتخطيط وفق دستور الطائف؟؟
إعتُبرت مؤسسة الجيش بعد نهاية الحرب الاهلية اطاراً للانصهار الوطني ومساحة وبوتقة ينوجد فيها الاختلاط بين الشباب من مختلف المناطق والفئات والانتماءات (Melting pot) لعل هذا المجال يؤسس لهوية وطنية جديدة ويكون قاعدة بناء الدولة. استناداً لهذه الخلفية الرؤيوية لأهل الطائف جرى تطبيق التجنيد العسكري الالزامي كطريق للعبور الى الوطن الواحد الجامع، خارج الانقسامات والعصبيات الطائفية. ولكن هل يتمكن الجيش ان يكون وعاء الوحدة وحاضن الوطن في ظل صعود المناخات والحسابات الطائفية والمذهبية في المجالات الاخرى مثل التربية، التنمية (إنماء المناطق)، قوانين الانتخاب، التوظيف والتعيين في الادارة (التوظيف الاداري الطائفي بالمحاصصة)؟ وهل اصبح لدى شباب الجيش المناعة الكافية لمواجهة اختراق فيروس الطائفية؟ ام نستعيد السؤال الشهير للشهيد رشيد كرامي حول امكان انفراط الجيش عند استخدامه من جانب الحكم في المهمات الداخلية؟
من جهة اخرى، تُثار عند الشباب مخاوف من مقاصد الاصرار على التجنيد الاجباري وتوسيع حجم الجيش اضعاف ما كان عليه عام 1975 في ظل الصعوبات الاقتصادية والمالية. وهل هناك محاولة لتوسيع القاعدة الاجتماعية للجيش توصلاً لبناء حزب الجيش؟ فهل للجيش مشروع سياسي يتحقق عند وصول قادته الى رئاسة الجمهورية تنفيذاً للشعار الشعبوي: التجسيد الدستوري للارادة الشعبية؟ وفي هذا السياق لا أذيع سراً اذا قلت ان هناك عقدة من اي دور سياسي للجيش تاريخياً ومن كل تجربة من جانب قياداته للوصول الى الحكم. ولقد لعبت المؤسسة العسكرية في مرحلة ما قبل الطائف دور حامي نظام الامتيازات الطائفية ومنها رئاسة الجمهورية. ومن لم يقرأ عن نهاية التجربة الشهابية على يد المكتب الثاني وحكم الدكتيلو؟ وما يسمى بتدخل الاجهزة في السياسة والاعلام والتنصت من العقد في الوقت الحالي.
ماذا نريد من الجيش؟
جيش كبير (لوطن صغير) أم جيش صغير من المحترفين؟ جيش مترهل عالم - ثالثي يساهم في حل المشكلة الاجتماعية بإمتصاص جزء كبير من البطالة؟ - على غرار بعض الجيوش العربية الكبيرة التي تستوعب قدرات الشباب لأكثر من ثلاث سنوات وتُخرجها من سوق العمل؟ - وألا يتناقض الحجم الكبير للبنى العسكرية في المجتمع مع استمرار تبني الحكم استراتيجية المقاومة، اي حرب العصابات، وما يفرضه من عمل مجموعات انصارية صغيرة في المواجهة مع اسرائيل؟
لقد خفّضت فرنسا مدة خدمة العلم عام 1982 من سنة الى عشرة أشهر ومن ثم الغته نهائياً عام 1996 وجعلت من الخدمة العسكرية خدمة اختيارية. والجيش الاميركي أنهى الخدمة العسكرية الالزامية منذ نهاية حرب فيتنام عام .1975 الجيش الاسرائيلي جيش صغير من المحترفين، عصري، ويعتمد على احتياط كبير يتلقى تدريبات سنوية. الجيش السويسري يعتمد التدريب السنوي لاسابيع قليلة للمواطنين وهو جيش كبير من ميليشيا الاحتياط، حيث كل فرد يحتفظ بسلاحه في منزله ويعرف تماماً مهماته في فترات الحرب. كل الجيوش الحديثة تتكون من اعداد محدودة من المحترفين والتقنيين والخبراء في مجالات علوم المعلوماتية والاتصالات والادارة. وهذه تعتمد على استثمار الطاقة المعرفية لدى الموارد البشرية. فالحرب بالنسبة اليها تبدأ من الجامعة وتهدف الى شل قدرة العدو على المبادرة والتخطيط وليس الى ابادته. أنا اعتبر ان مسألة التجنيد الاجباري تطال حرية الشباب وحرية ان يكون لديهم خيار خاص كرفض الحرب ونبذ استخدام السلاح كوسيلة عنفية. فلماذا لا نجعل هذه الخدمة اختيارية؟ او نحولها الى خدمة اجتماعية حسب طرح النائبين فريد الخازن ومصباح الاحدب؟ ألا يمكن للشباب الجامعيين العمل في ادارات مدنية وفي مجالات صحية واعمارية وبيئية وخدماتية وثقافية وانتاجية وبحثية؟ لماذا لا يتمكن الشباب المهاجر من تأدية الخدمة في سفارات لبنان في الخارج كمعاون/ خبير تقني (Coop rant T chnique)؟
أما بعد، هناك ترد لمستوى الحياة العسكرية في الثكنات وعدم ملائمة بيئتها وغياب التأهيل النفسي وهناك تفش للقسوة والاخضاع والقمع النفسي والجسدي والاهانات الموجهة من الضباط للمجندين. نحن في حاجة الى تحسين مُناخ العمل والعلاقات الانسانية في الثكنات والمراكز العسكرية. وحادثة وفاة مجند في معسكر عرمان في الشمال بعارض قلب منذ حوالى ثلاثة اشهر بسبب إهمال وقسوة ادارة المعسكر دليل على استمرار العقلية العثمانية في هذا الجيش.
أنا اقترح العودة الى التدريب في المدارس في صفوف البكالوريا كما كان يحصل قبل عام 1975 بدلاً من التجنيد الاجباري - اسبوعين او ثلاثة اسابيع لكل سنة: تدريب على النظام المرصوص واستخدام الاسلحة - ويمكن ان تتضمن المناهج التربوية لصفوف البكالوريا مواداً وحصصاً تتعلق بخدمة العلم، اي مواد نظرية وتثقيفية وحصصاً آخرى تطبيقية (تدريب).
من جهة اخرى نستطيع توزيع جيش الاحتياطيين على ألوية اختصاص: لواء هندسي/ فني/ بنى تحتية، لواء منشآت وتحصينات، لواء طبي، لواء اداري، لواء دفاع مدني، لواء بيئي، لواء مدرعات، لواء مدفعية، لواء مشاة، لواء برمجة ومعلوماتية، الخ... هناك نظريات متعددة حول خدمة العلم وسبل تأديتها، ولكن علينا في هذا المجال ان نأخذ في الاعتبار مسألتين: اولاً - ان لقانون التجنيد الاجباري مدة سنة كاملة تأثير اقتصادي سلبي على الشباب الذين يضطرون احياناً لمغادرة وظائفهم واعمالهم دون ضمانات بالعودة اليها. ثانياً - أن الخدمة الالزامية في مؤسسة الجيش تحمّل الشباب قيماً اجتماعية اساسية. فما هي القيم العليا التي يتربى عليها الشباب في الجيش؟ أهي قيم الديموقراطية والتعاون والشراكة أم قيم الطاعة العمياء على اساس "نفّذ ثم اعترض"؟
المسألة هنا في مجال التضحية الوطنية لا تتأتّى من نظام اوامري تراتبي يلغي التفكير والمعرفة ودور العقل. فجيش عصري من المقاتلين الاحرار وحده يستطيع الدفاع عن أمة حرة ووطن سيد. وأخشى ان يتحول اي جيش يزداد فيه عدد المجندين رغماً عن إرادتهم الى جيش من مسلوبي الحوافز والارادة... كما ان اي جيش يزداد فيه عدد الأميين يتحول الى جيش لا يحمي وطناً ولا يحرز نصراً...