&
بيروت - ريما زهار : لقد حققت البلدان العربية إنجازات كبيرة فى ميدان التعليم، بخاصة منذ أواسط هذا القرن، إلا أن الإنجاز التعليمى فى عموم الوطن العربى، حتى بالمعايير التقليدية، مازال متخلفاً بالمقارنة بباقى العالم، وفى بعض الأحوال حتى بالنسبة للبلدان النامية.
بداية، انتشر التعليم بين النشء، على حين صمدت الأمية أمام محاولات القضاء عليها، فظل مستوى التحصيل التعليمى الإجمالى منخفضاً بوجه عام بين السكان البالغين فى البلدان العربية. ولا ريب فى أن البلدان العربية قد حققت تقدماً واضحاً فى مكافحة الأمية، إذ يقدر أن انخفضت نسبة الأميين بين البالغين من قرابة 60% فى عام 1980 إلى حوالى 43% فى منتصف التسعينيات. لكن يرد على هذا الإنجاز تحفظان مهمان: الأول، أن معدلات الأمية فى الوطن العربى مازالت أعلى من متوسط العالم، وحتى من متوسط البلدان النامية. والثانى، أن عدد الأميين ما فتئ يتزايد، حتى أن البلدان العربية تدخل القرن الواحد والعشرين مثقلة بحوالى سبعين مليون أمياً، غالبيتهم من النساء.
العقل البشري
وحيث يطرد تأكيد البحوث العلمية حديثاً على الأهمية القصوى لسنوات الطفولة المبكرة فى تشكيل العقل البشرى وتحديد مدى إمكاناته المستقبلية، استقرت ضرورة التركيز على التعليم قبل المستوى الأول. ولكن هذا ميدان آخر تتخلف فيه البلدان العربية عن متوسط البلدان النامية.
فبينما تضاعف عدد الأطفال الملتحقين بالتعليم قبل المستوى الأول فى البلدان العربية بين عامى 1980 و1995، لم يتعدَّ العدد مليونين ونصف المليون فى السنة الأخيرة، بما يوازى نسبة استيعاب أقل من متوسط البلدان النامية. غير أن الأسوأ من هذا القصور هو انخفاض نصيب البلدان العربية من جملة أطفال البلدان النامية الملتحقين بالتعليم قبل المستوى الأول عبر الفترة المعتبرة ( من 4.8% فى عام 1980 إلى 4.0% فى عام 1995). كذلك ما برحت نسبة البنات فى هذه المرحلة التعليمية، رغم تزايدها باطراد، تقل عن نظيرتها فى البلدان النامية (42% مقابل 47% فى عام 1995).
البيانات
وتحكى بيانات الالتحاق بمستويات التعليم الثلاثةفى البلدان العربية قصة تطور كمى مطرد. فقد زاد عدد الملتحقين بمراحل التعليم الثلاث من 31 مليوناً فى عام 1980 إلى ما يقارب 56 مليوناً فى عام 1995. إلا أن المشاهدة الأهم هى تباطؤ التحسن فى نسب الاستيعاب فى التسعينيات، فى مستويات التعليم الثلاثة، عن معدل إنجاز الثمانينيات، بخاصة فيما يتصل بالمستويين الثانى والثالث. كذلك يعيب التطور الكمى الكبير فى الالتحاق بالتعليم عامة فى البلدان العربية نقص نصيب البنات من الملتحقين، بخاصة فى المستوى الثالث (العالى)، على الرغم من تزايده.
وهكذا تدل البيانات المتاحة، حكماً بنسب الالتحاق، على أن المستوى الأول من التعليم النظامى فى البلدان العربية قد قصر حتى الآن عن استيعاب الأفواج الجديدة من المواطنين العرب، مع تحيز واضح ضد الإناث، سواء قارنا بالبلدان النامية أو العالم ككل.
ورغم تفوق نسب الاستيعاب الإجمالية فى المستويين الثانى والثالث فى البلدان العربية (54%، 13%) عن البلدان النامية (49%، 9%) فى منتصف التسعينيات، إلا أنها تقصر بشدة عن المستوى السائد فى البلدان المصنعة (106%، 60%)، ويزداد القصور، مقارنة بالبلدان المصنعة، فى حالة البنات. ويتأكد هذا الاستخلاص من انخفاض نصيب المستويين الثانى والثالث من الملتحقين بالتعليم فى البلدان العربية بالمقارنة بالبلدان المصنعة، وبشكل واضح فى المرحلة الثالثة (6% فى البلدان العربية مقارنة بحوالى 20% فى البلدان المصنعة).
ويتعين أن تكون المقارنة بالبلدان المصنعة أساس المعيار الواجب تبنيه للأهداف المستقبلية للتعليم فى البلدان العربية. ويعنى ذلك أن يستمر سعى البلدان العربية لتوسيع نطاق الالتحاق بمراحل التعليم كافة، مع التركيز على التعليم قبل المستوى الأول والمستويات الأعلى- عماد المهارات المتقدمة. ولهذا التصور تبعات مهمة بالنسبة لتمويل التعليم لا يجب التنصل منها، كما تدعو بعض المنظمات الدولية، بتعلة الحاجة لإعادة توزيع الموارد المخصصة للتعليم لمصلحة التعليم الأساسى، على حساب المستويات الأعلى، تحقيقاً للعدالة الاجتماعية. فالمطلوب توفير موارد أكبر للتوسع فى جميع مستويات التعليم فى البلدان العربية، بخاصة الأعلى منها.
مخصصات الإنفاق
والواقع أن هناك مؤشرات مزعجة على تدنى القيمة الحقيقية لمخصصات الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية. لقد ارتفع الإنفاق على التعليم فى البلدان العربية، بالأسعار الجارية، من 18 بليون دولار فى 1980 إلى 28 بليوناً فى 1995. ولكن معدل الزيادة منذ عام 1985 كان أقل بكثير من الفترة (1980-1985). أما إذا أخذنا فى الاعتبار معدلات التضخم، وقد كانت شديدة الارتفاع فى كثير من البلدان العربية، لتبيَّن أن القيمة الحقيقية للإنفاق على التعليم فى البلدان العربية كان فى انخفاض منذ بداية الفترة المدروسة.
الرسوب
وتتكاثر الشواهد على تدهور الكفاءة الداخلية للتعليم فى البلدان العربية، كما تتبدى فى ارتفاع نسب الرسوب والإعادة، الأمر الذى يؤدى إلى طول بقاء الطلبة فى المراحل الدراسية.
إلا أن نوعية التعليم هى المشكلة الأخطر. ورغم قلة الدراسات المضبوطة، تعم الشكوى من تردى نوعية التعليم فى البلدان العربية، وتؤكد الدراسات القليلة المتاحة غلبة سمات ثلاث أساسية على ناتج التعليم فى البلدان العربية: تدنى التحصيل المعرفى وضعف القدرات التحليلية والابتكارية، واطراد التدهور فيها.
ويقوم كذلك خلل جوهرى بين سوق العمل ومستوى التنمية، من ناحية، وبين ناتج التعليم من ناحية أخرى، ينعكس على ضعف إنتاجية العمالة، ووهن العائد الاقتصادى والاجتماعى على التعليم فى البلدان العربية. وليس أدل على ذلك من تفشى البطالة بين المتعلمين، وتدهور الأجور الحقيقية للغالبية العظمى منهم.
نهضة البلاد
ويترتب على هذه السمات قيام مشكل مزدوج على المستويين الفردى والجماعى: فالتعليم، بشكله الحالى فى البلدان العربية، لم يعد مدخل الفقراء للصعود الاجتماعى، أو حتى للوفاء بالحاجات الأساسية، على حين يبقى تعليماً أرقى هو السبيل الوحيد لنهضة البلاد.
· فلا يُتوقع أن يمكن القضاء على الأمية، الهجائية فحسب، بين الرجال فى البلدان العربية قبل انقضاء ربع القرن القادم. وبالنسبة للنساء فسيكون علينا الانتظار حتى ما بعد عام 2040.
· ويُتوقع أن تتمكن البلدان العربية من نوال مستوى الالتحاق بالمستويات الثلاثة للتعليم الذى ساد فى البلدان المتقدمة فى منتصف التسعينيات، ولكن ليس قبل حلول عام 2030.
.
وهكذا يظهر أن بلدان الوطن العربى، رغم إنجازاتها الواضحة، مازالت عاجزة عن تقديم الحد الكافى من التعليم لأجيالها القادمة. ويتردى الإنفاق على التعليم فيها لدرجة تنذر بالخطر. وليس من قبيل المبالغة القول بأن النوعية المتدنية قد أمست أخطر مساوئ التعليم فى الوطن العربى، الأمر الذى يلقى ظلالاً قاتمة على الإنجاز الكمى للتعليم. إن كل ذلك يكاد ينبئ بكارثة مستقبلية فى القرن الواحد والعشرين، قرن تسارع المعارف والقدرات البشرية المتطورة، إن استمرت الأوضاع الراهنة فى مضمار التعليم فى البلدان العربية.
أزمة التعليم
وعليه يمكن القول بأن أبرز سمات أزمة التعليم فى البلدان العربية عجزه عن الوفاء بمقتضيات تطوير المجتمعات العربية، خاصة فى العصر الذى نعيش قرب مطلع القرن الواحد والعشرين. الأمر الذى يكاد يكرس قطيعة عن مجرى التحول الهائل الذى يمر به العالم، وصولاً لعالم المعرفة والمعلومات والتقانة الواحد، الذى هو فى الوقت نفسه عاصف بمقدرات البلدان العربية.