يعتقد البعض أن القصاص حكم قاس على الإنسان، وان الرأفة به تقتضي معاملة الجاني بالسجن أوالعفو أو الكفالة أوما شابه، متذرعين أن في القصاص اجحاف بحق إنسانية الإنسان.
بينما الحق وحماية الإنسان يقتضيان القصاص واخذ الحق من سارق سرق مالا أو اختطف عزيزا على أحد.
كما يستهجن الناس مُجازات الفاعل إذا حُكم عليه بالتوقيف لبضع ساعات وقوفا على قدمية جزاءاً على ما كان قد فعل؟
وإذا كان العقل والعقلاء يستهجنون التساهل في عقوبة سارق مال إلا باستراجاع الحق إلى اهله، فكيف لا يستهجن العقل ولا يستقبح العقلاء ازهاق روح إنسانية، وكيف يُنْظَر بعين الرحمة والرأفة بقاتل مجموعة من البشر وازهاق أرواح الناس ودفنهم احياءا تحت التراب؟!
فكيف بسارق أرواح الناس وهو قاصد في فعله، عامد في قتلهم، مستهينا بالنفس الإنسانية، مستهتراً بالروح الاجتماعية التي تتعرض إلى هذا الطغيان.
فهل تقضي الإنسانية بالعفو عن القَتَلَةِ المجرمين، والصفح عن السفاحين، وتعمل على مصافحة الدمويين والارهابيين ليدخلوا ميدان التصرف بمقدّرات الناس من جديد، ويقتحموا ما يسمّونه العملية السياسية للحكم والهيمنة على مصالح الشعب في دورة جديدة من الحكم الدموي في العراق ؟!؟

إلا يؤدي تركهم بدون ردع، إلى التمادي اكثر وتعويد الاخرين على اقتراف الجريمة ذاتها؟
إلا يحتاج الأمر إلى إيجاد قوة ردع تتصدى لهذا النوع من الطغيان والاستهتار بالروح الإنسانية والمصالح الاجتماعية.

أن حكم القصاص يشبه إلى حد بعيد قوة الردع العسكرية في القانون الدولي حينما يستلزم الأمر قوة تردع حكومة ما تستهتر في أرواح شعبها أوشعوب غيرها، أو تردع عصابة تمادت مستهينة بأمن الناس، وأرواحهم البشر، واستقرار الشعوب.
من هنا تتبين حقيقة المنطق القرآني في التأكيد على الضمان الوحيد للحياة في تحكيم القصاص وتثبيت قانون (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).
ثم تأتي الآية لتبيّن الذين يعقلون أبعاد (الحياة) في حكم القصاص ويستوعبون طعمها، فخاطبهم ب(يا أُولِي الأَْلْبابِ) ()
فيأتي بعد ذلك أمر الرسول صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم مؤكدا على وجوب إحياء سنة القصاص بقوله:( أَيُّهَا النَّاسُ أَحْيُوا الْقِصَاصَ..) ()
ثم يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام أهمية تلك القوة الرادعة لطغيان الطغاة، والحامية لنفوس الناس وما يملكون فقال: (مَنْ خَافَ الْقِصَاصَ كَفَّ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ ) ()
ولم يترك النهج النبوي التأكيد على هذا المبدا الصائن للحياة، حتى جائت سيدة نساء العالمين الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام لتؤكد في إحدى خطبتيها في مسجد أبيها رسول الله صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّم مبيّنة للأمة التفصيل الكامل والمعالم الشاملة لأحكام الإسلام كاملة إبتداءا من اصول الدين وفروعه ومسؤوليات الأمة منذ بزوغ فجر الإسلام إلى فناء الدنيا، حتى أكدت في بيانها على الغاية القصوى للقصاص بقولها(..والقصاص حقنا للدماء..) ()
وهذا يكشف عن العلاقة الوثيقة بين ضمان الإستقرار وحفظ الأمن الفردي والإجتماعي وبين ضرورة فاعلية قوة الردع في مواجهة طغيان من يريد العبث في أرواح الناس والتصرف في ممتلكاتهم، ذلك حيث أنه (لا تهنأ حياة مع مخافة) ()كما في قال أمير المؤمنين عليه السلام.
ولكي يفهم البشر المباديء الحيوية لبناء المجتمع السليم والحياة القويمة عليهم معرفة حضارية الإسلام وإنسانيته التي تبين أن القصاص (حياة للجاني) كما هو (حياة للمجني عليه) أو من (يُراد الجناية) (بحقه)، و(حياة لمن يراد لهم التعويد على الجريمة والجناية) وكذلك فهو (حياة للمجتمع) الذي يراد له العيش في وسط الجريمة وإنتهاك كرامة الإنسان وإزهاق روحه.
وقد بين ذلك إمام العابدين وزين الساجدين عليه السلام في تفسيره قوله تعالى: ( ولَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُوُلي الأَلْبابِ)؟ قائلا:
( ولكم يا أمة محمد في القصاص حياة، لأن من همَّ بالقتل فعرف أنه يُقتصُّ منه فكف لذلك عن القتل، كان حياة للذي كان همَّ بقتله.
وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يَقتل.
وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص (يا أُولِي الألْبابِ)....) ()
وعليه فالغاية من القصاص الحيلولة دون طغيان الطغاة مما تسوّل لهم أنفسهم الجامحة نحو التعدي على الإنسانية بما فيه تدمير النفس إذا اعتدى، وإزهاق النفوس إذا تطاول عليها.
وبهذا يتضح أن في (القصاص) (حياة) (لحماية) (الأمن) و(سلامة) (أرواح الناس) من تطلعات المفسدين في الأرض.
و(في القصاص) ضمان لحماية (الأمن) من (العبث) في (معائش) الأمة واقتصادها.
و(في القصاص) (حياة) (بقصم) (ظهر المتعطشين) (لدماء) الناس.
كما (في القصاص) (حياة) من (إرهاب) (المرجفين) العاملين على إرباك المجتمع وإستقراره.
وكذلك (في القصاص) (حياة) (بقطع) (دابر) (سماسرة) (الثقافة) و(بائعي) (دين) الناس و(عقولهم) في سوق النخاسين.
وبالتالي ففي (القصاص حياة) (لا) (يعرف) اهميتها ولا يدرك (قدرها) ولا (يتذوق) (طعمها) إلا (ألوا) (الألباب).
فكونوا من اولي الألباب.. وفوزوا بالحياة والاستقرار(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوُن) ولا تتوانوا في الاقتصاص، (فكما) في (القصاص حياة) فإن في (التواني) عن إقامته (فساد) وفي ( تركه دمار) للبشرية و(هلاك للإنسانية).