إذا كانت البشرية قد عرفت خلال تاريخها أشكالا متعددة من الاستبداد السياسي والاستئثار بالسلطة فإن اقتران هذا الاستئثار بوجود بنية للسلطة تتسم بالازدواجية والسرية هو أخطر أشكال الاستبداد على الإطلاق، فالاستبداد أي كان شكله هو انحطاط أما استبداد التنظيم السري فوباء لا يدع مجالا للإصلاح إلا بالاستئصال!!!
وللأكاديمية البريطانية المعروفة ليندا ميلفرن كتاب مهم لفهم الظاهرة خصصته لكارثة رواندا وعنوانه "شعب مضلل"، وقد أصدرت هيئة الاستعلامات المصرية ملخصا له كان المصدر الرئيس للمعلومات التي استندت إليها في القضية التي ينظرها القضاء لإبطال قرار تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان حيث تورد فيه ملفرن معلومات موثقة عن صفقات أسلحة مصرية غير شرعية شحنت أولاها تحت مسمى "معونات" واستخدمت في عمليات إبادة المدنيين التي راح ضحيتها ما يقرب من مليون إنسان وقام بطرس غالي رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان بدور الوسيط لإتمام الصفقة وقت أن كان وزير دولة للشئون الخارجية.
والكتاب يكشف عن معلومات مثيرة تتصل ببنية السلطة في رواندا قبل الكارثة مباشرة فالرئيس الرواندي السابق هابيريمانا كان مرتبطا بعلاقات وثيقة مع العائلة المالكة البلجيكية وفرنسا واستنادا إلى دعمهما المطلق تحول إلى الرئيس/ الملك ورغم هذا فإن القوة الحقيقية كانت تكمن في يد زوجته أجاسي التي كان الروانديون يلقبونها باسم شخصية رهيبة من تاريخ بلادهم. وحسب كتاب ملفرن فإن أجاسي أحاطت نفسها بمجموعة من "متحجري القلوب"وكونت مافيا شديدة الإحكام سميت "أكازو" أي حكم القلة ومعناها "المنزل الصغير" وحسب أحد المنشقين على هذه المافيا ذات الخطاب الثوري فإنهم تعاملوا مع الدولة كشركة خاصة يحق لهم أن ينتفعوا منها قد ما يستطيعون، أما الرئيس وقادة "الحركة الثورية الحاكمة" فوقعوا في شباك هذه المافيا.
ولم تكن هذه المافيا السرية من صناعة العقلية الشعبية التي تبحث عن الغامض والسري والمثير بل أشارت إلى وجودها تقارير رسمية من بينها تقرير جوهان سويفن سفير بلجيكا (1992) في رواندا الذي جاء فيه أن هذه الجماعة السرية تخطط لإبادة التوتسي. ولم تكن السرية مقصورة على رواند القابعة في قلب أحراش أفريقيا ففي فرنسا التي كانت تدعم هذه المافيا السرية استصدرت قرارات رسمية بمضاعفة المساعدات الفرنسية لرواندا ثلاثة أضعاف وبقيت القرارات التي تخص رواندا سرا حتى تظل فرنسا غير مسئولة عن جريمتها!!!
وتشير دراسة ملفرن إلى دور الإعلام "الخاص!!" في صنع الكارثة ففي عام 1993 انخفضت أسعار أجهزة الراديو فجأة وأعلن عن تأسيس إذاعة خاصة ساهم فيها أعضاء مافيا الأكازو ولعبت هذه الإذاعة دورا كبيرا في إعداد الشعب نفسيا لارتكاب جريمة الإبادة. وعندما اغتيل الرئيس هابيريمانا كانت السيدة أجاسي على أول طائرة فرنسية تقلع من مطار العاصمة حيث تعيش في شقة فاخرة بباريس، ولا يفوتني طبعا أن أشير إلا أنها زارت القاهرة بعد سقوط النظام الذي تحكمه من خلف الستار ورغم كل هذه الكوارث ورغم أنها لم تكن لها أي صفة رسمية استقبلت استقبالا رسميا وفتحت لها صالة كبار الزوار!!!! وحظيت بتقدير شديد.
و"دولة التنظيم السري" أحد أهم مفاتيح فهم الواقع السياسي في جمهوريات الخوف العربية، فلا عبد الناصر وهو يحكم بإرادة الفرد المطلقة كان مضطرا لإنشاء تنظيم سري داخل التنظيم السري الأكبر المسمى الضباط الأحرار ولا كان مضطرا لإنشاء التنظيم الطليعي، ما لم تكن الأجندة السياسية الحقيقية غير قابلة للإعلان. ويصدق هذه على البنية السياسية للنظام البعثي المنهار في العراق وصديقه اللدود في سوريا، فالأقلية العلوية مختبئة خلف حزب البعث وخلف الطائفة العلوية تختبئ شبكة من العلاقات أشار إلى بعضها العماد مصطفى طلاس في كتاب الذي تسبب في إقالته من منصبه "ثلاثة أشهر هزت سوريا" وظهر فيها للمرة الأولى الدور الرهيب الذي تلعبه في الواقع السياسي السوري طائفة "عبدة الرب أبو سليمان المرشد" وهو سوري ادعى الألوهية في النصف الأول من القرن العشرين ووفرت له فرنسا ذات الخبرة العريقة في بناء مثل هذه النظم السياسية والغرام المشبوه بها.
وفي وجود دولة التنظيم السري لا معنى للحديث عن الإصلاح ما لم يتم تفكيك هذه البنية وكل دولة تريد ألا تقع في قبضة الأشباح ينبغي تولي هذه القضية اهتماما كبيرا.
ثم ما حكاية تلازم اسم مصر وفرنسا في موضوعات مشبوهة من فنادق أمريكا حتى أحراش أفريقيا؟!!!!