قرأتُ رأيا ً لأحد الكتّاب التنويريين مفاده أن الأصولية الدينية ستنتهي خلال العشرين السنة القادمة بعد سيطرة دامت أكثر من ثلاثة عقود..

ربما يصدق توقعه ونشاهد ضمور الأصوليات الدينية في السنين القادمة أمام موجة الانفتاح والعقلانية الفكرية و التي بدأت تأخذ مواقعَ ثابتة في العديد من أقطار العالم الشرقي والغربي ولا شك في أن العالم سيكون طبيعيا ً من دون هذه الأصوليات المحتقنة والمتشنجة بخطابها التعصبي والحقود والانغلاقي وتعود النزعة العقلانية والمنطقية والإنسانية إلى التحكم في علاقاتنا مع بعضنا البعض ومع العالم الآخر وهي النزعة التي كانت سائدة أيام الحضارة العربية الإسلامية ( الكلاسيكية ) على حد تعبير المفكر ( محمد أركون )..

ومن المعلوم أنه منذ أن انتكست الحضارة الإسلامية ( الكلاسيكية ) تحول العالم العربي والإسلامي إلى مرتع يعج بالتعصب والكره ونبذ الآخر والانغلاق..

أليس من المفارقات الغريبة أن نرى في ( أسبانيا ) على سبيل المثال أن تيارات العنف الديني يهدون لها القنابل والموت والتفجير بعد أن كنا نجود بالعلم والحضارة والثقافة أيام تاريخ تراثنا الأندلسي..

هل سيحترمنا العالم المتقدم وهو يرى إننا نخترع ونفرخ ونقدم لهم ( بن لادن ) و ( الظواهري ) و ( الزرقاوي ) و ( صدام حسين )..

وهل سيحترمنا العالم الحديث والحر القائم على التنوع والتعددية والتنوير والحداثة حينما ندافع ونتعاطف مع تلك النماذج الإرهاربية المتخلفة ونبرر لهم أفعالهم الإجرامية بحق الإنسانية والضمير..

وهل سيحترمنا العالم وهو يتابع قمة المجموعة الثمانيَ ليفاجأ بعنف التفجيرات الأصولية تصيب قلب ( لندن ) الحبيبة بالأذى والشرخ وهي التي كانت ولا زالت الملاذ الآمن لكل الهاربين والمقهورين من بطش الأنظمة الاستبدادية..

بالطبع لن يحترمنا العالم ما دمنا نتعاطف وندافع عن تلك النماذج التي أساءت للإنسانية والإسلام وقد يكون التأييد الحماسي الأصولي بشقيه الديني والقومي لفعل الإجرام أكثر خطورة من الجريمة نفسها..

وكما يقول الكاتب القدير ( أمير الدراجي ) هم يقدمون لنا ( فولتير ) و نحن نخترع ونصنع في مختبراتنا الأصولية ( بن لادن ) وغيره من الأصوليين الإرهابيين..

ويقدمون لنا ( منظمة أطباء بلا حدود ) و ( حركة الخضر ) ونحن نهدي لهم ( القاعدة ) و ( أنصار الإسلام ) وكل حركات القتل والعنف والكره..

يقدمون ( مارتن لوثر ) ونحن مشغولين بالتسبيح والحمد لكهنة الدين..

لذا من الصعوبة أن نؤمن إننا نستطيع أن نكسب رهان التقدم والحداثة واحترام العالم الحر الحديث لنا ونحن غارقون إلى الآن في بحر الأصوليات الدينية المتعصبة والقومية الشوفينية..

قد تكون أولى الخطوات في طريق التخلص من هيمنة الأصولية المشبّعة بمزاج النرجسيات وفكر الثنائيات القاتلة التي صنّفت العالم إلى ( إيمان وكفر ) هي نسف منظومتها الفكرية القائمة على مبدأ الانتماءات الدينية الضيقة والمهووسة بتقديس الهويات المرتكزة على الاعتداد الشوفيني بها والتي أصبحت تعني عداوة الآخرين لتحل مكانها النزعة الإنسانية الكونية التي لا تقوم في منظومتها الثقافية على تأسيس فكر العداء وقمع ( الآخر ) المختلف ثقافيا ً وفكريا ً وحضاريا ً بل تساهم في بناء الحياة الطبيعية الحرة وتتشارك في الإرث الإنساني ضد كل أشكال الفاشية و الاستبداد والعنصرية والتعصب الديني والقومي..

أما أولئك الذين يراهنون على الأصوليات الدينية في كسب رهان المستقبل فهم واهمون لأن الحياة لا يمكن لها أن تبقى رهينة لفكر الإنغلاق والتخلف لذلك وجدنا أن أوروبا التي دخلت مراحل التنوير والنهضة والحداثة كانت فيه الأصوليات الدينية المسيحية تلفظ أنفاسها الأخيرة واستطاعت الحداثة الغربية أن تؤسس للثقافة الإنسانية الكونية التي ذوّبت القوميات واللغات والأعراق في إطارها العام..

وكما يقول المفكر الألماني المشهور يورغن هابرماس :

( فإن ميزة الكونية التي بلورتها الحداثة الغربية هي أنها كونية تتأسس على المساواة التي تقتضي القدرة على الخروج من سجن الخصوصية الذاتية، والنظر إلى الهوية في سياق اختلافي، هو وحده الذي يسمح بقيام حوار حقيقي بين منظومات ثقافية وحضارية متغايرة )..

أمام أنسنة القيم وتجذير النزعة الإنسانية في المنطلقات الفكرية ونبذ فكر الإنتماءات الدينية الضيقة التي تأسس لثقافة الثنائيات القاتلة والنظر إلى الهويات ضمن سياقها الاختلافي ستنتصر الإنسانية وتنحسر الأصوليات المقيتة..

كاتب كويتي

[email protected]