لم يعد من الممكن بعد الأحداث الإرهابية العبثية التى طالت العاصمة البريطانية مؤخراً، والتي قام بها شباب مسلمون ولدوا وتربوا فى الغرب، ولا رابط بينهم وبين جماعات الإرهاب الدولية، إلا أن يقف المسلمون جميعا، رجال دين وحكاما ومثقفون ليدركوا خطورة إستمرار مثل هذه الأفعال على العلاقات الدولية بينهم وبين بقية شعوب ودول العالم.
إن تصرف كهذا يوضح بجلاء ان هؤلاء الشبان قد إعتدوا على الوطن الذى ولدوا وتربوا وفيه، بعد أن تجردوا من كل ولاء له (هذا إن كان هذا الولاء موجودا فى الأصل)، وهو وضع فى غاية الغرابة ولا يمكن فهمه إلا من خلال قبول الفكرة العنصرية التى يعتنقها العديد من المسلمين وهي أن الرابطة الدينية الإسلامية (أي الإنتماء إلى الأمة الإسلامية) تجُب كل الروابط الوطنية، بل والإنسانية جميعا. وهي عقيدة تؤكد مرة أخرى الرؤية الفقهية الإسلامية التاريخية على تقسيم العالم إلى دارين: دار الإسلام (البلاد الإسلامية) ودار الحرب (البلاد غير الإسلامية)!
إن ما يجعل أي مراقب لهذه الإعتداءات الوحشية التى تكررت ضد مدنيين أبرياء فى عدة دول غربية، وما تبعها من تصريحات وتعليقات لمسلمين أعلنوا فيها أن تلك العمليات ما هي إلا رد على ما يحدث فى فلسطين، والعراق وأفغانستان، هو أمر فى غاية الخطورة إذ أنه يشير بجلاء إلى وجود هذه الثقافة الإرهابية التي ربطت الإسلام بالعدوان على الأبرياء دونما ضابط قانوني أو أساس أخلاقي. فالحرب لها قانونها والدفاع على النفس له حيثياته.
لاشك أن حادثة قتل المخرج الهولندي ثيو فان جوخ على يد مغربي مقيم فى هذا البلد لهو مثل واضح آخر على هذا الفكر الإرهابي العنصري – المؤسس على مرجعية دينية متخلفة. وهو فكر كان وراء أحداث فردية مماثلة، آخرها قتل إيهاب الشريف، سغير مصر فى العراق، باعتباره "مرتداً عن الإسلام،" حسبما أفتى قاتلوه. وهو ماسبق وحدث فى مصر نفسها حيث قُتل المرحوم فرج على فودة على أيدى شباب يؤمنون بهذا الفكر، كما قتل غيره من المصريين مسلمين وأقباطا. وهو أيضا ما كاد يحدث للكاتب البريطانى (الهندي)، سلمان رشدي، بناء على فتوى آية الله الخميني، الذى هلل لها في حينها العالم الإسلامي كله!!
نحن الآن – إذا تحلينا بالأمانة والموضوعية – لابد أن نُقر أننا فى مرحلة متقدمة من "صراع الثقافات": ثقافة الإرهاب فى مواجهة ثقافة التعايش. ثقافة الحرية فى مواجهة ثقافة القهر والإكراه. نحن فى النهاية فى صراع بين الدولة الدينية – التى تؤسس على دين ما وتقهر ماعداه - والدولة الديموقراطية – التى تكفل حرية جميع الأديان والأفكار فى تعايش وتعارف! نعم، الواقع يقول ان صراعا بين الشرق والغرب قد بدأ!!

ماذا يريد المسلمون حقا.. وكيف يحققونه؟
هذا هو سؤال الساعة. وهو سؤال يحتاج إلى عمل واضح، ولا يحتاج إلى تبرير أو وعظ أو دفاع عن الإسلام والمسلمين. هو سؤال لايمكن أن يجاوب عليه بالرد الإيجابي إلا أناس يدركون خطورة هذا الفكر السلفي المنافى للعقل والعصر، والمدمر لمستقبل العالم أجمع.
نحن فعلا أمام أكبر تحد يواجه الإنسانية، ولذلك فهو يتطلب تضافر كل القوى المحبة للسلام والتعايش، وليس المسلمين وحدهم. ومع ذلك فهناك جزء كبير من المسئولية يقع على حكومات البلاد الإسلامية، هذا إذ صحت النيات. وهذا إذا أدركوا مدى الخطر الداخلي الذى ما برح يتربص بهم على كل المستويات على مدى عقود، ولكنهم لم يتحركوا لمواجهته بشكل جذري من خلال إعادة تكوين العقل الجمعي لشعوبهم لتتعايش مع العصر والآخر، في فضاء الحرية قبل أي شئ آخر.

ولكن.. هل يمكن أن يتصالح الإسلام مع العصر؟
هناك العديد من الدراسات، الحديثة المتعمقة، التي تبين إمكانية تصالح مبادئ الإسلام العامة مع نظريات ومفاهيم سياسية حديثة، كالديموقراطية والحرية والمساوة والعدالة فى مجتمع متعدد، غير ثيوقراطي من قريب أو بعيد. وقد إنتهى من قام بهذه الدراسات الجادة إلى هذه النتائج بعد دراسة القرآن دراسة منهجية منفصلة عما جاء به معظم المفسرين والفقهاء المسلمين فى عصور تلت عصر النبوة، من جهة، وبعد أن فصلوا عن مبادئ الإسلام الأولى ما ورثه المسلمون من عادات وإعراف متعارضة مع تلك المبادئ، من جهة أخرى.
فعلى عكس إعتقاد فريق من المسلمين بأن الديمقراطية – كنظام حكم - بدعة غربية تتعارض مع الإسلام – كدين و دولة، يرى مسلمون آخرون إمكانية قيام نظام حكم ديموقراطي مدني فى المجتمع الإسلامي. وإن كان كلٍ من الفريقين يؤسس دعوته – كما هو الحال فيما يتعلق بمسائل أخرى - على أسس إسلامية، إلا أن الفريق الداعي الى الديمقراطية يؤكد صحة رؤيته مُذكراً بأن "فلسفة الإجتهاد في الإسلام تُبنى على مكونات التعدد فى الإطار الشرعي، وهذا فى حد ذاته إقرار بالتعددية فى التصور والرؤية والمنهج. ومن هنا فإن كان الإجتهاد الذي يؤسس لمشروعية الإختلاف والتنوع والتعدد فى مسائل الفروع فى الفقه والشريعة الإسلامية ممكناً، فمن الأولى أن يكون ممكناً فى المسائل المرتبطة بالحياة والمجتمع."(1)
أن يدور الآن الجدل الفكري داخل العالم الإسلامي حول قضايا إجتماعية وسياسية وثقافية معاصرة على خلفية دينية فى مواجهة خلفية أخرى عصرية غير معادية للدين – بحثا عن حلول عملية لتحديات جديدة - هو أمر يمثل مرحلة هامة فى عملية التحول الديموقراطي. ومع ذلك هو جدل لن يُحسم إلا من خلال الممارسة الديموقراطية فى المستقبل السياسي المأمول حيث تتعايش مختلف الجماعات وتتلاقح كافة التيارات الفكرية من أجل التعايش البنّاء، دون عنف أو أكراه.
الإجابة على هذا السؤال لا تزال فى طور الصياغة، وهي بكل تأكيد تتطلب توفر عوامل أخرى أكثر من مجرد موائمة جوهر الإسلام مع الحداثة أو ما بعدها. ولذلك لا يستطيع المرء أن يتحدث إلا عن إمكانية التوائم والمصالحة.. والتطوير.
الشئ الوحيد الذي يمكن أن يدعم عملية التطوير هو إننا فى بداية مرحلة تغيير ستتسع مساحتها الجغرافية فى عالم بلا حدود، وستتعمق جوانبها الثقافية فى زمن إزدياد المعرفة بسرعة الزمن الحاضر، تحت قوة ضغط تحديات الواقع.

الحريــة للجميع هي محور التغيير
أما عن إمكانية التمتع بالحرية فى المجتمعات الإسلامية الحديثة، فقد خلُص الفيلسوف ريشارد ك. خوري، عبر دراسته المنشورة فى كتابه "الحرية والحداثة والإسلام" إلى أن: الحرية (بشقيها الإيجابي والسلبي) لا تقوم فقط على العقلنة والعصرنة والتحديث العلمي، إنما تتوقف على المدى الذى يُسمح فيه للفـرد بالإزدهـار فى كل جوانب الحيـاة الإنسـانية، ماديـا وروحيا وفكريا. ومثل هذه الحرية لا يمكن ضمانها إلا فى مجتمع يقبل التعدد بكل أنواعه، وإلا فسيسيطر عليه الدوغمائيون ويفرضوا على كل أفراده ما يتصورونه "الطريق الأفضل"، وهذا هوالحادث الآن – بدرجة أو بأخرى - فى البلاد العربية والإسلامية.
و يرى الدكتور/ خورى، مثل العديد من المفكرين العرب والمسلمين المهتمين بتجديد الفكر الإسلامي أن مصدر المشكلة فى التفاسير الإسلامية الجامدة التي سمحت للسطحية الدينية بالسيطرة على العقل الجمعي، وبالتالي أدت إلى إنتشار التطرف، وشيوع السلبية فى مواجهة الإستبداد، وفى النهاية الإصرار على ربط الإسلام بالدولة الحديثة، الأمر الذى لم يخدم الإسلام كدين إنما، على العكس، أضعفه.
ولكي تتحقق حرية أكبر فى العالمين العربي و الإسلامي، لكل مواطنيه مسلمين وغير مسلمين، يؤكد الدكتور/ خوري أنه لا مفر من أن يأخذ المسلمون موقفا إيجابيا من الحداثة بعد أن تغلغلت فى معظم المجتمعات. وخصوصا أن الواقع الاقتصادى، وثورة الإتصالات وإتساع رقعة العولمة، تدعم من قوة الحداثة وتأثيراتها على كل المجتمعات. فمن خلال هذا الموقف وفي هذا المناخ الجديد - الذي يشكل فرصة للإسلام - يمكن إظهار قوته فى المجال الأخلاقي الروحي ليساهم فى إزدهارالحرية بكل تجلياتها.(2) وهو الأمر الذى حدث مع المسيحية بعد حركة الإصلاح البروتستانتية.
ويبدو من هذا التحليل أن التغيير فيما يتعلق بمبدأ الحرية - حرية الفكر والعقيدة والتعبير والإبداع - يتطلب تدخلاً سياسياً، خارج النطاق الفقهي السائد اليوم، حتى تكون الحرية مطلقة، وحسب المفهوم الإنساني المتعارف عليه حالياً، وهو فى الواقع مفهوم يتفق مع ما جاء فى القرآن بتكرار واضح، إلا أنه لا يزال – وبكل أسف - مقيداً حتى عند الغالبية العظمى من الإصلاحيين.
وفى خط فكري مشابه، ولكن على مساحة أوسع تشمل كل الأديان، يقدم الباحث المسلم الجنوب أفريقي، فريد إساق، فى كتابه "القرآن والتحرر والتعددية"(3) رؤيته الأكاديمية والعملية في كيفية تطبيق فكر إسلامي إصلاحي فى مواجهة الظلم بكل أشكاله السياسية والإجتماعية.
وكما فى كل الدراسات الجادة الساعية إلى تجديد الفكر الإسلامي وتصالحه مع العالم المعاصر، و فى مواجهة التحديات التى تواجه الإنسان والعالم، كان إتجاه هذا المحاضر الجامعي نحو تأويل النص القرآني، بشكل منهجي ونقدي، ليُقدم لنا رؤى هامة تحتاجها الشعوب الإسلامية للخروج من الأزمة التي تعيشها اليوم، ولكي تتمكن من تعاملها مع الآخر – غير المسلم - من أجل التغلب على التحديات الإنسانية الكبرى.
في هذه الجزئية، يقدم لنا الباحث رؤيته، وهي تتفق مع باحثين آخرين ومفسرين مجددين، حول معاني إسلام ومسلم، وإيمان وكفر. ويخلُص من دراسته للقرآن بأن كلمة "مسلم" لا تعني بالضرورة المسلم، المولود في الإسلام، بل إنها تشمل أيضا كل إنسان مؤمن بالله (وخاضع له)، وخصوصا أتباع الديانات الكتابية الأخرى.
ولقد إستشهد الباحث بعدة آيات قرآنية تؤكد على هذه المعاني، ومنها: "قولوا آمنا بالله وما أُنزل على إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة – 136)
وعلى نفس المنوال، يتناول الباحث معنى كلمة "إيمان" وتعنى – بالإضافة إلى معان آخرى - الإعتراف بالله والثقة فيه، وترجمة هذا الإيمان وإرتباطه بالأعمال الطيبة، سواء كانت كثيرة أو قليلة. الأمر الذى الذى يبين – كما يقول الباحث - أن هناك درجات للإيمان؛ وهو في النهاية يشكل علاقة روحية شخصية بين الإنسان والله، ولا يستطيع غيره تعالى قياس مدى قوة أو ضعف هذه العلاقة. أما كلمة "كُفر"، فلم يكن معناها الأول فى القرآن "عدم الإيمان"، إنما "التنكُر لنعمة الله وجحدها."
ومن الآيات القرآنية التي تؤكد على هذه المعاني، نذكر: "إن الذين آمنوا والذين هادوا، والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم ولا هم يجزنون" (المائدة – 69).
والسؤال الذى يجب أن يسأله المسلمون لأنفسهم، فى ضوء هذه الآيات هو: إذا كان هذا هو رأى القرآن الكريم فى المسيحيين واليهود والصابئين وغيرهم، فلماذا تمنع بلاد إسلامية عديدة إقامة الكنائس والمعابد، أو تعرقل إقامتها، بينما يتمتع المسلمون بالحرية الكاملة فى إقامة المساجد فى قلب العالم الغربي لتُعد بالآلاف، بالإضافة إلى المؤسسات التعليمية الإسلامية؟
ألم يحن الوقت بعد للتعامل مع الآخر بالمثل Reciprocity حتى نثبت حقاً إيماننا بالحرية والعدالة والمساواة والتعايش، بدلا من ممارسة القهر والظلم والتعصب والإرهاب، على أسس يأباها الدين والخلق الطيب، والسياسة الحكيمة؟ وفى هذا الإطار، مثلاً، لماذا لا تسمح بعض دول الخليج ببناء دور عبادة لغير المسلمين على أراضيها؟
أننى هنا أشير – من جانب ما - إلى موضوع الحوار والتعايش بين الأديان والدائر الحديث حوله بين بعض الرموز الدينية، ولكن يكاد يتسم بالسجال الساخر.
من هذه النقطة، نصل إلى الفصل الأخير، من كتاب الدكتور/ فريد إساق المشار إليه، وتحت عنوان "التضامن بين الأديان من أجل العدالة" يبيّن الباحث كيف تم هذا التضامن على أرض الواقع، وقت الفصل العنصرى في جنوب إفريقيا، من أجل التخلص من ظلم حكم الأقلية البيضاء العنصري. ويذكر أن حادثة تضامن مسيحي الحبشة مع أول المسلمين اللاجئين إليها فى صحبة نبي الإسلام (فى القرن السابع الميلادي) كان من ضمن الأحداث التاريخية التى إعتمد عليها المسلمون الأفارقة للتضامن مع الأغلبية السوداء ( مسيحية وغير مسيحية) من أجل تحرير الجميع!
هذه مجرد بعض أمثلة لقضايا وموضوعات هامة تناولها العديد من دارسي العلوم الإسلامية والمثقفين، مسلمين ومسيحيين، على مدى يقرب من العقدين، لإعادة قراءة التراث الإسلامي، قراءة متحررة من نوازع السياسة وظروف الزمن، وصولا إلى إكتشاف روح النص المتفقة مع الفطرة الإنسانية والمنفتحة على الإنسان، كونه إنسانا بغض النظر عن جنسه ولونه وعقيدته.
إنها رؤى تستحق الإهتمام الرسمي والشعبي على أوسع نطاق داخل البلاد العربية والإسلامية، ليس فقط على المستوى الفكرى النظرى، بل بالأحرى على المستوى العملى المعاش، حتى تأتي بالنتائج المرجوة،، وأهمها نشر التسامح والسلام، حجر الزاوية فى عملية التنمية البشرية الشـاملة على المستويات السياسـية والإقتصادية والإجتماعية، إعمارا للأوطان وتقدما لها، ومشاركة مع بقية الأسرة الإنسانية فى بناء عالم أفضل يسوده السلام، وإلا فلن يكون إمام العالم إلا مواجهة موجات متتالية من الإرهاب الإسلامي، وما ينتج عنها من مزيد من الحزن والخراب.
___
(*) رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان، حاصل على درجة الماجستير فى الدراسات الإسلامية والدينية من جامعة ماكجيل بكندا..
(1) زكي الميلاد، الفكر الإسلامي: قراءات ومراجعات (مؤسسة الإنتشار العربي، 1999)، ص 26 – 27
(2) Richard K. Khuri، "Toward Greater Freedom in the Contemporary Arab Muslim World،" in Freedom، Modernity، and Islam، (Syracuse University Press، 1998)، pp. 277-279.
(3) Farid Esack، Qura'an، Liberation amp; Pluralism، (One World Publications، 1997)