تصريح اسامة بن لادن وتكريسه لأبو مصعب الزرقاوي raquo; اميرا لبلاد الرافدين laquo; في نهاية العام الماضي2004 لم يكن حدثا عاديا ، عابرا في التاريخ الذي تبغي صنعه منظمة القاعدة. فهو على هواهم فاصلة مهمة و خطوة للأمام و يختصر من وجهة نظر السلفيين الجدد انتصارا raquo; لتاريخهمlaquo; على التاريخ العام للبشرية. وعودة على التاريخ الاول quot; تاريخ السلفquot; الذي يستلهم منه رجل القاعدة الاول واتباعه صياغات للأحداث المعاصرة وفقا لقوالب تاريخية قديمة تستنسخ يوميا. هكذا فأن تاريخ خمسة عشر قرنا في المنطقة المحصورة بين سور بواتيه الفرنسية وسور الصين اصبح بحكم المنتهي بأعتباره تاريخ ضلال ، وان تاريخا جديدا حددت احداث الحادي عشر من سبتمبر2001٢ انطلاقه، انه. تقويم آخر لعالم آخر بدأ منذ القرن الثامن عشر في عملية استنساخية حاولت اعادة صياغة التاريخ الاسلامي الاول من جهة وتطهير العالم من التواريخ الاخرى الخارجة عن منطق السلف من جهة ثانية.. هذا التاريخ الذي تتوخاه القاعدة وتحاول اسطرته هو مزيج من واقع صلب - تعبر عنه احداث العنف المصورة والموثقة - ،صارم ولا عقلاني بشكل مطلق وهو بؤرة القوة التحطيمية الموجهه ضدالتاريخ الآخر raquo; تاريخ الانسانية laquo; الذي اصبح بحكم وجهة نظر السلفيين الجدد غير قابل للعيش جنب التاريخ الجديدraquo; الجهادي laquo; الذي ابتدأ‮ ‬في‮ ‬سبتمبر‮ ‬قبل‮ ‬اربعة‮ ‬اعوام‮. ‬
قوة الغرب وفلسفته العقلانية في التاريخ ، وفاعلية التاريخ العربي - الاسلامي النازع الى الواقعية والانسنة عبر الاسناد والنقل و التمحيص والتأويل والاجتهاد ، ليسا سوى تاريخين من ا لضلال المادي ، معتمدان على العقل الحر، المنفصل عن السماوي ، الذي لايقيم‮ ‬وزنا‮ ‬لجبرية‮ ‬خفية‮ ‬،‮ ‬هي‮ ‬الحجر‮ ‬الاساس‮ ‬في‮ ‬التاريخ‮ ‬الذي‮ ‬يتوخاه‮ ‬معتنقي‮ ‬السلفية‮ - ‬اللادنية‮.‬
في نفس الوقت ، فأن هذا التاريخ الجديد ، بقدر ما هو تخل عن التاريخ الآخر المكتوب والمعاش الذي نعرفه ، فأنه عودة لتاريخ ابعد موغل قرابة الخمسة عشر قرنا في خرافة و غلو في الفتنة التي عصفت بالاسلام لحظات التأسيس الاولى ، و تمثل شخصية عبد الله بن سبأ‮ ‬المعروف‮ ‬بأبن‮ ‬السوداء‮ ‬نموذجه‮ ‬العائد‮ ‬الى‮ ‬الحياة والذي ينبغي حذفه من مشاهد التاريخ الجديد ليصبح نقيا من الرافض والسنة معا ‮، انه تاريخ هجرة جديدة لدعوة جديدة تطمح لأسلام ذو بعد واحد دون فرق اسلامية واجتهادات. دعوة جديدة تجد منطقها وانطلاقها في هجرة مكررة كما في هجرة بن لادن الى قندهار وفي هجرة الزرقاوي واتباعه للعراق. هجرة تجعل من الارض كلها دار حرب بأستثناء المخابئ التي يقطنها جهاديو السلفية الجديدة.‬
منذ ان كشف الاعلام عن رسالة ابو مصعب الزرقاي الموجهه الى اسامة بن لادن ، قبل اكثر من عامين ، واغلبية كبيرة من الرأي العام وبعض المحللين السياسيين ، عراقيا وعربيا وعالميا ، تشكك في الوجود الفعلى للزرقاوي. ولعل اول المشككين كانت الجماعات الجهادية في العراق التي انكرت وجود شخصية مثل الزرقاوي خلف اهم احداث العنف و الارهاب التي دارت وماتزال في العراق. واذا كانت اول عملية انتحارية مهمة اشارت بأصابع الاتهام نحو الزرقاوي في التاسع عشر من آب ٣٠٠٢ مستهدفة مقر بعثة الامم المتحدة كهيئة تاريخية دولية ، فأن عملية النجف بعد عشرة ايام ، وعند بوابة مرقد الاماع علي بن ابي طالب في التاسع والعشرين من الشهر نفسه ، التي ذهب ضحيتها السيد باقر الحكيم كممثل لمذهب ينظر الى التاريخ بطريقة مختلفة عن السلفيين هي خطوة ثانية. ولا يمكن في هكذا توقيت استبعاد فكرة ان عمليات اختطاف الاجانب ، كصانعي لحظة تاريخية سواء في الحرب او في السلم ، تصب في نفس المجرى. حصيلة هذه الرمزية تتوخى انتزاع عملية صنع التاريخ الواقعي من الاطراف التي تصنعه كفعل مشاركة معقد وتبديله بفعل آخر بسيط ، لكنه اكثر حسما على صعيد الزمن من خلال وتيرة العنف غير المسبوق والذي يتحول سريعا الى صانع لردود فعل لدى الاطراف الاخرى.في نفس الوقت فأن هذا الانتزاع ممكن ان يتم عبر عملية تطهير من الاقانيم الثلاثة الرمزية التي تشكل مادة صنع هذا التاريخ اليوم.
حتى اليوم تمت الامور على هذا النحو حيث عملية صنع التاريخ في raquo; المصهر السلفى laquo; الجديد تقولب الواقع بعد انذرات ورسائل كما لو كانت وعودا قيامية تؤسس لصب تاريخ وفق القياسات المحددة سلفا. في هذه القياسات تزاح كل العناصر الواقعية والمنطقية والعقلانية الانسانية خصوصا ، لتعوض بمبهمات تاريخية قابلة لتأويلات سهلة رمزيا ، اقلها الغيبية التي تحذو الى استقبال مطلقين : مطلق الاستشهاد في الحياة الدنيا كوسيلة اكيدة و وحيدة لكسب الجنة وترك عالم الاثم الراهن ، ومطلق الخراب المحتم للعالم دون سلطة السلفيين الجدد ، التي بين حين وآخر يعبر عنها كحتمية نهائية وخلاص‮ ‬وحيد لامناص عنه ‮.‬
في هذه الرمزية التي تستخدم تقنيات تحرمها السلفية الجديدة raquo; اللادنية laquo; على الاخرين يمكن النظر الى الى مشهدية تلخص التتابع الذي يطمح السلفيون الى عرضه في مسرح جديد للتاريخ.. فلحظة انهيار نظام طالبان وهزيمة اللادنية في شهر ديسمبر 2002٢ نشرت وكالات الانباء صورة غامضة لحشد من المجاهدين الذين تراجعوا حتى عاصمتهم قندهار. ربما كانت تلك الصورة الفوتغرافية الوحيدة التي مثلت رسالة ضمن سياق عملية صنع التاريخ الجديد. فبعد الانتصار الباهر raquo; للفئة القليلة laquo; في الحادي عشر من سبتمبر والذي يذكر بمعركة حدثت قبل خمسة عشر قرنا ، تأتي هذه الصورة لتذكر بهزيمة اخرى حدثت في نفس طيات ذلك التاريخ البعيد. هزيمة مؤقتة ، قبل الانتصار الساحق الذي سيأتي كقدر مسطور ، لامفر عنه في جبرية التاريخ raquo; المكتوب laquo;. الحقيقة ان الصورة التي ربما تكون الوحيدة التي نشرتها القاعدة عن قصد ، تمثل حشدا من مقاتلي القاعدة وطلبان بلباسهم التقليدي وعلى سطح دار طينية ثمة رجل تظللهquot; بردة quot; يخطب بينهم.والصورة بكل المقاييس الشكلية لاتنتمي الى عصرنا قدر ماتنتمي الى قرن ذهبي بعيد ، عليه ترتكز ذاكرة وهوية اكثر من مليار من البشر..!
في هذه الصورة النمطيةraquo; وتاريخها الذي يوحي بما هو اقدم laquo; اضافة لمشهد العقاب السماوي في الحادي عشر من سبتمبر raquo; ايلولlaquo; تكمن سطور النظرية الجديدة لنهاية التاريخ وفقا للقاعدة وزعيمها بن لادن، حيث الاحالات الى الانتصارات والهزائم الاولى للأسلام. كما لو ان السلفية الجديدة تكرار لوقائعه حرفيا. احداث الفلوجة في نيسان raquo; ابريل laquo; الماضي حاولت اضافة بعد جديد، ليس على صعيد الجغرافية حسب حيث القتال يدور في raquo; بلاد الرافدين laquo; وعند شاطئ الفرات تحديدا - كنهر من انهار الجنة - ، انما على صعيد غيبي ، يطمح ببعد روحاني من نوع خاص. فقد كانت المعركة انتصارا رمزيا ينقصه الخندق الذي لم يحفره المجاهدون حول المدينة وعوضوه بخندق من الانتحاريين. رغم ان المعركة كانت نصف هزيمة للمجاهدين دون ان يعني ذلك انها كانت نصف انتصار فأن تصريحاتهم كانت تعني انتصارا من طراز نادر لفكرة لم يجرو احد من الخلفاء او قادة الفتح في التاريخ الاسلامي بعد وفاة الرسول على الاقتراب منها. اذ صرح اكثر من مجاهد وعلى رأسهم الشيخ السلفي العراقي عبد الله الجنابيraquo; كما ورد في حوا ر معه نشرته الاسبوعية الفرنسية Nouvelle Obs raquo; في هذه المعركة المقدسة نزلت الملائكة على خيول بيضاء للمشاركة في القتال وكانت المدافع تطلق نيرانا لساعات دون ان يلقمها احد والعناكب نثرت خيوطها على عيون الجنود الامريكان ، خصوصا اولئك الذين كانوا ينظرون لنسائنا عبر مناظيرهم وكانت جثث الشهداء المجاهدين تطلق بخورا طيب اجواء المدينة المجاهدة... laquo; في هذا الانتصار الذي لم يشارك به الزرقاوي ، اذ نفى الجميع وجوده في المدينة بل حتى وجوده بالكامل على ارض الرافدين ، كانت نظرية نهاية التاريخ raquo; القديمlaquo; قد اكتملت اذ انها اجتازت الخمسة عشر قرنا من التاريخ الحقيقي ، لترتبط بالتاريخ الآخر البعيد quot; تاريخ السلف الاول quot; الذي تدعي السلفية الجديدة حمل لوائه دون غيرها من فرق الاسلام.
في معركة الفلوجة الثانية في تشرين الثاني raquo; نوفمبر laquo; الماضي لم يجد الجنود الامريكان ولا قوات الحرس الوطني العراقي اي اثر للزرقاوي و رجاله في المدينة ، رغم مئا ت القتلى ومئات الاسرى وعمليات التمشيط بيتا بيتا. ولبرهة ايقن الكثيرون ان الزرقاوي بدعة امريكية‮ ‬محضة‮ ‬لا‮ ‬اثر‮ ‬لها‮ ‬في‮ ‬الواقع‮ ‬،‮ ‬وليس‮ ‬هو‮ ‬بالنسبة‮ ‬للبعض‮ ‬الاخر‮ ‬غير‮ ‬كناية‮ ‬عن‮ ‬الرعب‮ ‬القائم‮ ‬في‮ ‬العراق‮ ‬وبربرية‮ ‬المقاوم‮ ‬العراقي‮ ‬بمواجهة‮ ‬جنود‮ ‬الاحتلال‮ ‬الامريكي‮ ‬ورموز‮ ‬السلطة‮ ‬العراقية‮ ‬الجديدة‮. ‬
في هذه اللحظة المحددة وعقب هزيمة عسكرية باهضة في المدينة العراقية التي ، اصبحت رمزا للسلفية الجديدة وسرة للجسد السلفي ، الذي يمثله بن لادن والزرقاوي واتباعهم فحسب ، مثلها مثل قندهار التي هجرها المجاهدون الى مغاور الجبال وكهوفها، يأتي تصريح اسامة بن لادن في فرض الاسطورة كواقع يكاد يكون منزلا بأمر. فالرجل الذي انكرت وجوده الاغلبية ، سواء بين مجاهدي السلفية او الرأي العام وبعض الوقائع ، اصبح بتصريح من بن لادن الامير الذي على جميع المجاهدين raquo; ان يسمعوا له ويطيعوه بالمعروف laquo; فهو منذ هذا التصريح اصبح بمعجزة صوت بن لادن فحسب الامير المطلق ، الذي له الوجود المطلق في حدود العراق وماعد ذلك لايدخل في‮ ‬سياق‮ ‬التاريخ‮ ‬الجديد‮ ‬للسلفية‮ ‬اللادنية‮. ‬
على هذا المنوال فأن عملية صنع للتاريخ العام، وليس لتاريخ منظمة القاعدة فقط ، تتم في مراحل تراكمية تمهيدا لفرضه بضربة واحدة كتاريخ موحد raquo;Unique laquo; ذو بعد واحد ، على الاقل لمن يعيشونه يوميا.ليس الاعتراف بوجود الزرقاوي وتنصيبه raquo; اميرا laquo; للعراق ،عبر رسالة صوتية ، حلقة اخيرة في عملية صنع التاريخ الجديد الذي تجهد السلفية في تعويض التاريخ الحقيقي به ، والذي اصبح من وجهة نظر السلفية الجديدة بحكم المنتهي بل وباطلا. انما غياب صورة اسامة بن لادن منذ اربع سنوات وانطلاق صوته او اخيرا صوت صاحبه الضواهري ، بين حين وآخر ، في تصريحات ذات شأن كبير يوحي بأن غيبته او انمحاء صورته هو الحلقة شبه الاخيرة في عملية التأسيس الرمزي لهذا التاريخ. اذ ان عودته كصورة حية ، بلحم ودم ، ستبدو كلحظة كبرى ، فاصلة في اعلانraquo; فتح laquo; التاريخ الجديد.هذا التاريخ الذي سيكون في فتح بغداد وتنصيب الزرقاوي خليفة للمسلمين في العراق وزيارة بن لادن لها لتحطيم‮ ‬آخر‮ ‬تماثيل‮ ‬التاريخ‮ ‬القديم‮ ، المقسم على الفرق الاسلامية ، ‬واعلان‮ ‬بداية‮ ‬لعالم‮ ‬جديد‮ ‬يعلن‮ ‬انتصار‮ ‬الخرافة‮ ‬وانهزام‮ ‬الواقع‮.‬
دو جهد كبير فأن نظرة تفصيلية ، على الاقل للتاريخ العربي الاسلامي ، وعلى فكرة استنساخ التاريخ الاسلامي التي دشنت قبل قرنين تجعلنا نضع اصابعنا على الخلل والتبسيطية والانتقائية التكرارية التي يتخبط بها صناع هذا التاريخ والداعين الى مسح تاريخ الوقائع الحقيقية من الذاكرة الاسلامية الخصبة بالاحداث.تاريخ من هذا الطراز ليس الا تصفية حساب على حساب وقائع اخرى اكثر تعقيدا واكثر نفاذا واكثر رمزية في الذاكرة الانسانيةـ الاسلامية. لكن في الحالة العراقية لاتمثل محاولة الاستبدال هذه الا مواصلة او تكرارا لعملية صنع التاريخ التي شرع بها اكثر من تيار متطرف عبر التاريخ سواء في بلاد الاسلام او غيرها. أن الصدى الرمزي لهكذا عملية اقحام وصنع تبدو مقبولة للبسطاء من الذين يبحثون عن فرصة للخروج من المأزق التاريخي وهيمنة فكرة الهزيمة التاريخية امام الغرب. فرصة مؤقتة لهم وخيالية معا ، دون شك، لتصفية الحساب مع واقع شائك لايمكن‮ ‬تدجينه‮ ‬او‮ ‬استيعابه‮ ‬في‮ ‬ظل‮ ‬انفلات‮ ‬العولمة‮ ‬وهيمنة‮ ‬نظام‮ ‬عالمي‮ ‬واحد‮ ‬مازال الغموض يكتنف ‬ ‬مشروعه‮ ‬التاريخي‮ ‬‮.. في المنطقة والعالم. ‬
منذ قرنين شرعت الثورة الفرنسية في عملية فصل التاريخ عن الاسطورة ، وجعلت من الاخيرة رسوما لتزيين جدران وقباب القصور ، تاركة للتاريخ لعبته الدامية في التنقل على رقعة الشطرنج. ومنذ اكثر من عشرة قرون انشغل العرب والمسلمون عامة في عملية تدوين جدية للتاريخ وعقلنته ، في متواليات اجتماعية صاعدة او نازلة ،تاركين للأحفاد مهمة كبيرة تتمثل في حل الشفرات التي تفصل بين البداوة والتحضر، بين الامة والعصبية ، بين الدين والقومية ، بين الواقع المسند والخرافة الموروثة لفظا.. لم تنجح جهود المتنورين في القرن العشرين من نمط طه حسين وعلي عبد الرازق والكواكبي والرصافي وجواد علي والعقاد وخالد محمد خالد وعائشة عبد الرحمن وآخرين في عقلنة كلية للتاريخ المحلي. رغم ذلك فأن التاريخ الاكثر ثباتا في المتخيل البشري هو ماتستله الذاكرة الانسانية بعد الازمات. وفي الحالة العربية - الاسلامية فأن تاريخ الطبري وابن اسحق والبلاذري وابن خلدون وغيرهم هو المهيمن على متخيل اليوم. دون شك لا احد من البشر يجرؤ مسبقا على كتابة سطور قليلة من التاريخ فما حاول كتابته اهل الأولمب لم يكن غير اساطير.وما يحاول اليوم بن لادن ان يكتبه ليس غير اساطير مستعجلة تفتقد عمق الاسطورة وهي تذكر بخرافة عبد الله بن سبأ الذي سماه طه حسين يوما بكناية بلاغية ‮ ‬بأبليس‮ ‬الجماعة‮.

جبار ياسين‬