يحكى أنه كان هناك نخلة تثمر كل عام كميات كبيرة من التمر والرطب وكان صاحب الحديقة يحبها حبأ شديدأ ويتولاها بالرعاية والإهتمام، وفجأة وبدون سابق إنذار قالت النخلة لنفسها لماذا أرهق نفسى وأثمر هذا الرطب ولا أحصل شيئأ من هؤلاء البشر غير الرمى بالحجارة وقررت عدم الإثمار وجاء موسم التمر والرطب وهى واقفة كالوتد لاخير فيها ولاثمر فقد بخلت بما حباها الله به من نعم على عباد الله فضاق صاحب البستان ذرعأ بها وقرر إجتثاثها والإنتفاع بخشبها فى التدفئة فى برد الشتاء ولقد كتب الشاعر العبقرى إيليا ابو ماضى فى ذلك قائلأ :--
وظلت النخلة الحمقاء عارية كأنها وتد فى الأرض أو حجر فلم يطق صاحب البستان رؤيتها فاجتثها فهوت فى النار تستعر من ليس يسخو بما تسخو الحياة بهفإنه أحمق بالحرص ينتحر.

البخل هو المرادف الذميم للأنانية والنرجسية وحب الذات وسيطرة المصالح الشخصية على كل حواس صاحبها مما يجعله يبيع الدنيا وما فيها ومن عليها من أجل تحقيق ذاته وأنانياته والوصول إلى مآربه مهما كانت دنيئة وتحقيق أطماعه مهما كانت بشعة فهو فى الواقعmdash;البخيلmdash;يعبد نفسه وليس له إله سوى هواه يتحكم فى مبتغاه ومرتجاه ويوجهه كيفما شاء وحسبما رغب:


( أرأيت من أتخذ إلهه هواه)
فقد عاش البخيل حليفأ أعمى للشيطان الرجيم لأن نفس البخيل شريرة بطبعها تكره العطاء والبذل والتضحية وتحقد على كل كريم سخى ذى يد طولى فى أعمال الخير والعطاء فى أى بقعة من يقاع هذا العالم0
كان البخل وسيظل وصمة عار فى جبين صاحبه وصورة سيئة للأنانية القبيحة وعبادة النفس والهوى ونظرة دنيا للحياة والإنسانية وهروب من كل معانى الرجولة والعقل والكمال والصدق والنخوة والكرم والعطاء والبذل لكل محتاج أو مقهور أو مغلوب من بنى البشر أو حتى من غير بنى البشر بمعنى أن الكريم يكرم حتى الحيوانات التى يكون مسئولأ عنها ولا يقتصر كرمه على بنى البشر فهو يضحى بما يملك فى سبيل تحقيق العدالة الربانية فيما يملكه الإنسان من مال الله وفى هذا يقول الله تعالى:
( وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)
أى أن ما لدى الإنسان من أموال هو فى الواقع ملك الله لأن الله مالك الملك ولأن المال ملك الله تعالى فقد قال جل وعلا:
( وآتوهم من مال الله الذى آتاكم)
ولا يرغم الله تعالى الإنسان الفقير على الإنفاق فمن أين له بالإنفاق ؟ وهو لا يملك قوت يومه ولكن الله فرض الكرم والصدقة والزكاة على القادرين من أصحاب المال وقال عن الفقراء:
( لا يكلف الله نفسأ إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرأ)
( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)
ولقد قرن الله تعالى البخل بالكفر فى قوله تعالى :
(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابأ مهينأ )
ويحكى القرآن عن بعض الناس ممن عاهدوا الله تعالى لئن أغناهم من فضله ليصدقن على الفقراء ويتحولوا إلى كرماء لا يبخلون على أحد فلما استجاب الله لهم وهو أعلم بهم بخلوا بهذا المال وغلبت عليهم أنانيتهم وأحقادهم وغلبت عليهم شقوتهم فمنعوا مال الله عن عباده وحرموهم وأذلوهم وتكبروا عليهم فاستحقوا عن جدارة غضب الله ولعنته يقول تعالى :
(ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقأ فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) وتنطبق هذه الآية الكريمة على كل حاكم طاغ ينهب ثروات بلاده لمصلحته الخاصة ويسيطر على الأموال ومعه فئة قليلة من العتاة الخونة الذين يأكلون التراث أكلأ لمأ ويحبون المال حبأ جمأ ويعبدون المناصب عبادة ويحرمون الملايين من المكافحين والساهرين من أجل لقمة العيش يحرموهم من أقل حقوقهم فى حياة حرة كريمة ومرتب يكفيهم ومنصب يلأئم خبرتهم وجهدهم فهؤلاء الحكام الآكلون حقوق شعوبهم قد حق عليهم قول الله فى الآية الكريمة السابقة ولسوف يأتى عليهم يوم يندمون ويقول كل منهم:
( يا ليتنى قدمت لحياتى)وعنئذ لن ينفعهم بكاء ولا إستجداء فلا تحزن يا مظلوم فوعد الله تعالى أقرب إليك من حبل الوريد فهم يرونه بعيدا والله يراه قريبأ فمهل الكافرين أمهلهم رويدا.
ومن عظمة تعاليم الله تعالى أن هذه الصدقات والأموال يجب أن تعطى لكل إنسان ولأى إنسان بغض النظر عن دينه أو فكره أو رأيه أو عقيدته أو لونه أو جنسه أو كنهه فقد يظن بعض الناس لجهل بهم أن الله فرض الصدقات والزكاة وإنفاق الأموال على المسلم فقط وهذا خطأ فظيع لأن أموال الله تنفق على عباده المحتاجين والمكروبين فى كل زمان ومكان فى كل بقاع الأرض دون نظر فى الدين أو العقيدة أو الجنس او اللون وإقرا معى التوجيه الربانى العظيم:
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئأ وبالوالدين إحسانأ وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم إن الله لا يحب من كان مختالأ فخورأ *الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابأ مهينأ )
وكان البخل ولا زال صفة مذمومة عند العرب وكان البخيل كالمرض المعدى فى المجتمع ينبذه الجميع ويكرهه ويحذر الإقتراب منه ولقد اشتهر العرب القدامى بالكرم الشديد خصوصا مع ضيوفهم وزائريهم ولقد تناول الكتاب موضوع البخل على مر الزمان زكان على رأسهم الجاحظ الذى كتب مؤلفه الرائع(البخلاء)
ومن الأشعار العربية القديمة الجميلة التى صيغت فى وصف البخل والبخلاء فقال أحدهم يصف بخيلأ:
لا يخرج الزئيق من كفه ولو ثقبناها بمسمار
يحاسب الديك على نقده ويطرد الهر من الدار
يكتب فى كل رغيف له يحرسك الله من الفار
وقال شاعر آخر يصف بخيلأ إسمه ماسك:
يقتر ماسك على نفسه وليس بحى ولا خالد
ولو يستطيع بتقتيره
تنفس من منخر واحد
فما أقبح البخل من صفة ذميمة تجلب على صاحبها غضب الرب سبحانه وكراهية الناس ومقتهم وحقدهم ولا تزيد صاحبها غير عبادة لنفسه وهواه وضلالأ بعيدا.
ولو كان العالم بخيلأ لما وجدنا من يقف إلى جوار المنكوبين فى الزلازل والبراكين والأعاصير والعمليات الإرهابيه ولكن الحمد لله رب العالمين فالعالم يعج بالكرم والكرماء ونرى تسابق الدول بختلف مواقعها وأعرافها وعقائدها نرى الكل يسارع ويساهم فى إنقاذ المصاب مهما بعدت الدول ومهما كانت التضحيات فالكل يبذل ما فى وسعه من أجل إنقاذ الموقف وإحتواء الكارثة وإنقاذ المكروبين والوقوف إلى جانبهم فى محنتهم وهذه أرقى وأعظم أنواع الكرم الإنسانى الذى يتجلى فى مثل هذه المواقف ومن هنا من هذا المنبر الحر فإننى أدعو نفسى وأدعو كل قادر إلى مزيد من الكرم قى سبيل سعادة البشرية وهيا جميعأ نحارب صفة البخل ومن يشعر فى داخله أن فيه مثقال حبة من خردل من بخل فليسارع فى هجرها والنأى عنها فما أسوأ البخل من صفة تجعل من صاحبها أنانيا منبوذأ فى كل مكان.

حسن احمد عمر