لم يأت إختيار صدام حسين من قبل قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي لتنفيذ عملية إغتيال الزعيم العراقي عبدالكريم قاسم إعتباطا، بل كان ذلك الإختيار موفقا يستند على عدة مواصفات كانت متوفرة لدى صدام في مقدمتها، دمويته وطيشه وإقدامه على المخاطرة مهما كانت نتائجها. ولكل تلك الصفات جذور وأسباب تعود الى نشأته وطفولته المحرومة في ظل عائلة ريفية معدومة ومفككة فاقدة للمكانة الإجتماعية، فمن يقرأ سيرة حياة هذا الرجل يجد أن دمويته تعود الى البيئة الفاسدة التي تربى فيها تحت ظل عم قاس تزوج من أمه التي إنشغلت بزوجها الجديد تاركة صدام خارج أسوار البيت، فجاءت نشأته مشوهة الى حد أنه كما يروى عنه لم يتوان في مقدمة صباه عن تهديد معلم مدرسته بالقتل، بل وعن قتل أحد الأشخاص بدم بارد. ورعونة صدام في طفولته ظلت تلازمه طوال حياته حتى وهو يمثل الآن أمام المحكمة الجنائية العليا عن تهم جرائم ضد البشرية.
ونحن لا نريد الخوض في التاريخ الدموي لهذا الرجل بقدر يحرف هذه الموضوع عن مساره وأهدافه، ولكننا نظن أنه لا ضير في قبس من ضوء على تاريخ نشأته وتشببه على الإجرام بما يخدم الغرض من هذا المقال الذي سيكون ضمن سلسلة من المقالات المتتابعة عن دولة صدام،الهدف منها، كشف بعض الحقائق عن النظام أو الدولة التي أنشأها صدام حسين في العراق، وتعرية بعض السياسات التي مارسها الرجل خلال سنوات حكمه والتي تستند على خلفية مليئة بالإجرام لكي يعلم العالم حجم ما عاناه العراقيون من المآسي تحت سطوة هذا الرجل،وهي المآسي التي بررت الى حد ما قبول العراقيين باسقاط حكمه حتى بالتضحية بالسيادة الوطنية والوقوع تحت براثن الإحتلال الأجنبي بإعتباره أهون الشرين.
وسنحاول قدر الأمكان أن نلتقط في هذا المقال بعضا من سياسات وإجراءات وقوانين البعث التي حولت الحكم في البلد الى حكم دكتاتوري شمولي بالغ القسوة الى حد لم يشهده تاريخ العراق قديمه وحديثه، مع الإعتراف منذ البداية بأننا قد ننسى أو نسهو عن بعض التفاصيل الدقيقة الأخرى عن تلك السياسات، ولكن المهم هو تسليط بعض الضوء على الأحداث الجسام التي مرت بالعراق في محاولة لتحليل تداعياتها وتأثيراتها السلبية على الشخصية العراقية ونشأة جيل يعاني من القسوة الى درجة باتت عنوانا أو صفة لازمة لكل عراقي مهما إختلفت إنتماءاته الفكرية أو السياسية أو الدينية أو المذهبية، لدرجة أن تلك الشخصية المتحولة بفعل تأثيرات التربية السيئة لحزب البعث لجيلين أو أكثر أثرت حتى على أحداث المرحلة الحالية من التحرر الوطني بحيث شوهت من سمعة التجربة العراقية الجديدة التي توصف اليوم بالديمقراطية، ولعل الإنتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان التي شهدها العراق في ظل الحكام الجدد الذين كانوا سابقا من ضحايا النظام الزائل خير دليل وشاهد على بقاء موروثات تلك القسوة وتلك التربية وملازمتها لشخصية الفرد العراقي من جيل الحكام الجدد.
وسنحاول في هذه السلسلة التي نبدأها بالأيام الاولى لتسلط حزب البعث العربي الإشتراكي على الحكم مجددا في العراق اثر إنقلاب 17 تموز عام 1968 وهي الفترة التي عايشناها عن قرب، الربط بين حكمي البكر وصدام بإعتبار الثاني إمتدادا للأول من حيث الإنتماء الحزبي والهوية الفكرية، ولأن صداما الذي حكم العراق فترة أطول من البكر كان في الأساس جزءا من نظام البكر بل والرجل الثاني في سلم القيادة حتى يقال أنه كان الحاكم الفعلي للعراق خاصة في السنوات الأخيرة من حياة البكر، ونجيز لأنفسنا بناء على ذلك إعتبار الفترة من إنقلاب 17 تموز الى سقوط الصنم في 9 نيسان 2003 هي فترة حكم صدام للعراق، لما كان للرجل من دور قيادي بارز في إدارة السلطة في حياة البكر، ثم إستفراده بالحكم بعد قتله البكر بابرة أنسولين زائدة الجرعة.
لم يكن حزب البعث وقادته السياسيين والعسكرين الذين سيطروا على الحكم بعد إنقلاب 17 تموز عام1968 بغريبين على العراقيين، لأن الكثير من القيادات المذكورة في مقدمتهم أحمد حسن البكر الذي عين على رأس السلطة الجديدة كانوا من رجال الحكم أثناء إنقلابهم الأول في 8 شباط 1963، حيث كان البكر في تلك الفترة رئيسا للوزراء.أما صدام الذي لمع نجمه في الإنقلاب الثاني فقد كان في تلك السنة أحد عناصر البعث النشطة في مجال قتل وتصفية خصوم حزب البعث، وكان يترأس مجموعة من أفراد العصابات كانت متخصصة في ملاحقة وقتل المناوئين للبعث في إطار تنظيم عرف بجهاز (حنين) المتخصص بتلك المهمات، ولكن صداما ظهر للكادر الحزبي كرجل قيادي للتنظيم داخل سجنه في ما بعد منتصف الستينات.المهم أن صداما ظهر في أول صورة لإذاعة البيان رقم واحد وهو يحمل رشاشا ويقف خلف الرئيس أحمد حسن البكر الذي تلا بيان الإنقلاب الثاني، من دون أن ينتبه اليه أحد ما عدا بعض أفراد أسرته وعشيرته وأصدقائه المقربين في الحزب.ولكن بعد أن قام صدام بتصفية الحزب من المعارضين الجدد من المتطلعين الى المواقع المتقدمة في الدولة مثل عبدالرزاق النايف وعبدالرحمن الداوود وعدد آخر من أنصارهما، خلا الجو لصدام بعد أن شعر البكر بالحاجة الى شخص دموي مثله يحميه من غدر الرفاق أو من الخصوم السياسيين فعينه نائبا له في مجلس قيادة الثورة الذي كان يعتبر أعلى سلطة في العراق تخضع لقراراته جميع مؤسسات ومرافق الدولة.
في الشهور الأولى لسيطرته على الحكم ركز حزب البعث على المؤسسة العسكرية ومحاولة إستقطاب وكسب قادة الجيش العراقي الى جانب الحكم الجديد بعدة طرق، من بينها إحالة عدد كبير من قادة وكبار ضباط الجيش على التقاعد، وطرد عدد آخر من الجيش، والسعي الى ترغيب البعض الأخر بالأموال والمناصب خاصة أولئك الذين لم يكن بالإمكان الإستغناء عن خبراتهم وكفاءاتهم داخل الجيش.
وهكذا بدأ الحزب يتغلغل رويدا رويدا داخل هذه المؤسسة من خلال تعيين عدد من العناصر البعثية التي كانت في معظمها من الموالين للحزب سواء من أفراد العشيرة أو الطائفة أو المنطقة التي ينحدر منها الحكام الجدد في مفارز عرفت داخل الجيش بمفارز الإستخبارات التي تحولت فيما بعد الى قسم التوجيه السياسي في كل وحدة عسكرية في منتصف السبعينات. وكان لعناصر تلك المفارز صلاحيات واسعة و كبيرة تفوق في كثير من الأحيان صلاحيات آمر الوحدة العسكرية التي يعمل بها أحد أعضاء هذا الفريق الاستخباري خاصة في المجال الإداري حتى وإن كانت رتبته متدنية كعريف أو رئيس العرفاء، وكان معظم هؤلاء من الطلاب الفاشلين في دراساتهم أو من العناصر التي لها سوابق إجرامية كان الهدف من تعيينهم وإعطائهم كل تلك الصلاحيات هو الإستهانة بالضباط والآمرين من جهة، وتخويفهم من جهة أخرى، فأصبح القادة العسكريين الكبار تحت رحمة التقارير التي يرفعها هؤلاء الى قيادة الحزب أو القيادة العامة وقد ذهب كثيرين منهم ضحايا لوشايات من هؤلاء عند الإصطدام بإراداتهم داخل الوحدات العسكرية.
مع مرور بضعة سنوات قليلة من حكم البعث تحول الجيش العراقي الى جيش بعثي خالص أكثر قادته من الضباط المنحدرين من مناطق ومدن معينة معروفة بولائها للسلطة الجديدة مثل تكريت أو أبناء العشائر الموالية للحكم الجديد خاصة عشائرمدينة الموصل التي أحتل أبنائها معظم مرافق المؤسسة العسكرية،ومعروف عن محافظة الموصل أنها كانت وماتزال واقعة تحت تأثير تلك المشاعر القومية التي كان البعث يغذيها خلال سنوات حكمه الثاني، فأصبحت هذه المؤسسة الوطنية خاضعة تماما لإرادة الحزب، وكان هذا التغلغل يكفي لتبعيث الجيش بكافة مرافقه ومفاصله لأن بقية المراتب التي كانت تدخل الى الجيش والتي تكون القاعدة الأساسية له هم من الجنود المكلفين بالخدمة الإلزامية، يخدمون سنتين ثم يتسرحون حسب القانون العسكري،ولم يكن مهما كسب هؤلاء بقدر ما كان المهم بالنسبة لعملية التبعيث تلك، كسب القادة والضباط وتحويلهم الى عناصر بعثية موالية للسلطة الجديدة، وكان هذا كافيا لتمكين هذا الحزب من بسط سيطرته الكاملة على هذه المؤسسة وتحقيق هدفين أساسيين له، الأول هو تفويت الفرصة على المناوئين أو المعارضين لحكم البعث من تدبير إنقلاب عسكري بواسطة الجيش، والثاني إستخدام هذا الجيش العقائدي في تنفيذ جزء أو معظم سياسات النظام الحاكم على الصعيدين الداخلي والخارجي، وزجه بالكامل في خدمة أهداف النظام كما سنفصل ذلك في المقالات القادمة.

شيرزاد شيخاني

[email protected]