إن الانسان هو أسمى المخلوقات على الارض، وقد خُلِقَ و ولِد حرا، ولم يكتسب قيمته الانسانية العليا هذه، الا من خلال حريته وارادته المستقلة وممارسته اليومية لتلك الحرية. وانه لا يتخلى عن هذه السمة السامية مالم تنتزع منه عنوة أو بالقوة. ان الطغاة من البشر المنحرفين فكريا ينكرون عن الاخرين هذه القيمة العليا وهذا الحق المشروع، لان بدواخلهم تكمن القسوة و العتمة وحب الانتقام والشعور بالنقص. أمثال هؤلاء الممسوخين من البشر المصابين بداء جنون العظمة، يحاولون سلب حرية الاخرين وتسخيرهم لرغباتهم المريضة والطائشة، وذلك من خلال الاستيلاء على الحكم والاستئثار، بالسلطة، ارضاء للرغبات المريضة والمنحرفة التي تسكن في ذواتهم العفنة المتسوسة روحيا، وتكون الطامة الكبرى عندما تقاد الشعوب الكريمة والرعية الطيبة، من قبل هؤلاء الطغاة، اذ نجدهم يمعنون باذلالها و ظلمها ويُذيقونها الامرين. وهذا ماعاناه الشعب العراقي وعلى مدى قرون، وعلى أيدي الانظمة المتعاقبة وحكامها المستبدين، اذ وصل الظلم والاذلال ذروته على يد النظام البائد وطاغيته، اذ ليس هناك ما هو امرعلى الانسان الابي الحر من سلب ومصادرة حريته وارادته دون ذنب يقترفه او خطأ يرتكبه، ان الحرية سمة متأصلة في الانسان العراقي وتمتد جذورها عميقا في حضارته المشرقة وتاريخه العريق، وعندما يُظلم أو يذل مثل هذا الشعب الكريم على ايدي الحثالة من الطغاة، لا يستكين ولايستسلم لقدره، لذلك قدم ومازال يقدم قوافل من الشهداء و القرابين على مذبح الحرية. اليوم وبعد سقوط النظام البائد الدكتاتوري، يمارس العراقي حق الانتخاب بوعي وسلوك راق يستحق الثناء والتقدير، إذ نهض هذا المارد من بين خرائب الزمن وأنقاض النكبات والويلات التي لحقت به، ليقول كلمته في مستقبله ونوابه بشجاعة واصرار قل نظيرهما. مما ادهش الاعداء قبل الاصدقاء، كيف تعلم هذا الشعب المسحوق هذا الدرس الحضاري المعاصر بهذه العفوية والكفاءة بعد قرون من القهر والاستلاب؟ كيف سقطت ومازالت تسقط امام ارادته كل المؤامرات الخبيثة للنيل من مستقبله الجديد وتجربته الديمقراطية الفتية؟
قبل ايام وتحديدا في 15/12/2005، توجه العراقيون هذه المرة بكافة أطيافهم وحدة متماسكة الى صناديق الاقتراع، لا مغيبين فيهم ولا مهمشين وفي ظل دستور شرعي دائم، وظروف أمنية أكثر تحسنا من قبل، الى صناديق الاقتراع واصطفوا منذ الصباح الباكر امام مراكز الاقتراع افواجاً و جماعات كادت تضيق الدنيا لحماستهم وشجاعتهم واصرارهم لينتخبوا نوابهم وحكومتهم الدائمة القادمة، وان يمضوا قدما الى الامام في مشوار الديمقراطية و الحرية، ان هذا التدفق الجماهيري و العفوي لا يعبر الا عن الحد الاقصى من الوعى الوطني والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن ومستقبله، لانه شعب يعشق الحرية عبر التاريخ ومجبول كغيره من الشعوب بالكرامة والصبر والاصرار. الا ان هذا لا يجعله غافلا عن الامه و تطلعاته ومعرفة واجباته وحقوقه و زلات نوابه وحكامه المنتخبين، ان هذا الشعب المهدد بلقمة عيشه و أمنه، والذي نجح في خوض معركة الانتخابات مرتين في غضون أقل من ثلاث سنوات وحشد اعلى نسبة من المشاركة في الانتخابات، تفوق نسبة المشاركة في أرقى الدول الديمقراطية، و نجح في درء الفتن الطائفية ونجح في معركة الدستور وصنع دستوره الدائم وصمد بوجه الارهاب وعنفوانه، بهذا يكون قد سجل امام الشعوب الحرة في العالم درسا حضاريا جديدا في الممارسة الواعية للحرية، يستحق كل الاحترام والتقدير والاخلاص والتفاني في خدمته من قبل حكومته ونوابه المنتخبين.

روند بولص
العراق / عنكاوا
[email protected]