شاركت مع رفاقي من البعثيين العراقيين في المؤتمر القومي الثالث عشر للحزب الذي أنعقد بدمشق في شهر آب/أغسطس/1980، ونظرا للظروف الصعبة التي كنا نعيشها نحن البعثيين العراقيين المعارضين للنظام الحاكم ببغداد وخصوصا تعرضنا لمطاردات نظام صدام حسين وأجهزته القمعية ،فقد أرتأت القيادة الحزبية في سوريا بأن لا نكشف عن شخصياتنا الكاملة وذلك بأن نعمد الى لبس الكوفية والعقال والنظارات السميكة أثناء أيام المؤتمر ، وكنت وقتها قد قدمت الى المؤتمر من أبوظبي حيث أعيش وأعمل هناك وقد عملت لحية صغيرة يسمونها محليا (السكزوزه) مما أضاف شكلا متغيرا لي ،ومضت أيام المؤتمر على هذه الشاكلة وكان التحفظ أكثر خصوصا على العراقيين المتسللين من العراق لحضور المؤتمر أو القادمين من المقيمين خارج العراق من أمثالي،ولم تكن هناك مشكلة أمنية كبيرة بالنسبة للبعثيين العراقيين المشاركين من المقيمين في سوريا ،لذلك كانوا أكثر (تحررا) من عندنا نحن (الملثمين) حيث جرت العادة على تسميتنا أيام ذلك المؤتمر ..
وحينما شكلت القيادة القومية للحزب قيادة قطرية للتنظيم العراقي في سوريا،جرت تسميتي عضوا في تلك القيادة مع بقائي خارج سوريا وكان ذلك العام 1982ونظرا للأزمات التي مررنا بها في التنظيم العراقي وخصوصا إنعكاسات الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها فقد جرى حل تلك القيادة في صيف العام 1986 ،وتشكلت لجنة حزبية قومية لبحث أزمة التنظيم العراقي وكانت اللجنة مؤلفة من مسؤولها السيد عبدالله الأحمر الأمين العام المساعد للحزب وعضوا القيادة القومية السيدين عبد الحليم خدام وسامي عطاري ..
في تلك الفترة ،كنت قد غادرت أبوظبي وبدأت ترتيب أوضاعي للإستقرار في لندن ،وتسلمت دعوة حزبية من القيادة القومية في سوريا تطلبني لمقابلة اللجنة القومية المذكورة للإستماع الى وجهة نظري فيما هو مطروح بخصوص التنظيم العراقي وفعلا وصلت الى دمشق وفهمت بأن اللجنة قد أجرت مقابلات مع العديد من البعثيين العراقيين خصوصا من المقيمين في سوريا وكذلك استدعت من هم خارج سوريا من أمثالي، وقد فهمت بأن أغلب تلك المقابلات كان يجريها السيدان الأحمر وعطاري وغياب عبد الحليم خدام نظرا لظروف إنشغاله بأمور السلطة الى جانب الرئيس المرحوم حافظ الأسد وبالنسبة لي فقد أخبرني السيد الأحمر بأن السيد عبد الحليم يرغب بأن يحضر جلسة الإستماع معي أي أن اللجنة بأعضائها الثلاثة ستكون موجودة ،وفعلا عقد الإجتماع وكان ذلك في بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر/1986 بمبنى القيادة القومية وتأخر عن حضوره لفترة قصيرة من الوقت السيد خدام ،وحينما دخل قدمنا لبعض السيد الأحمر معرفا وهنا بادر خدام وبلهجة فيها من التهكم والإستعلاء السلطوي الواضح واصفا العراقيين الذين حضروا المؤتمر القومي المذكور بأنهم كانوا (مموهين وملثمين) مما جعلني أبادر في الرد على تلك الملاحظة الخشنة فقلت موجها كلامي له بشكل مباشر بأن( للضرورة أحكام يا رفيق أبو جمال، ونحن مناضلون ومن دون سلطة!!) وخيم جو من الوجوم تداركه الرفيق أبو جهاد (عبد الله الأحمر) ،وبعدها جرت وقائع الإجتماع بجو متوتر غير مريح على الرغم من الجهود التي بذلها الرفيق عبد الله الأحمر لترطيب الأجواء بيننا.. وصارت بعد ذلك وخلال سنوات الثمانيات أثناء وجودي في دمشق على رأس مهامي الحزبية عدة لقاءآت مع السيد خدام كانت تتناول الشأن الحزبي العراقي ولم أتعامل معه من خلال موقعه في السلطة وإنما من خلال موقعينا في الحزب الذي كنا نعمل في صفوفه سوية..
تلك قصة من الماضي العتيق صار لها حوالي العشرين سنة وكانت في مكان ما من الذاكرة المنسية لولا ما فاجأ به السيد خدام العالم من تقولات وانتقادات حادة ومذهلة لنظام عاصره وخدمه لأكثر من ثلاث وأربعين سنة متصلة أي منذ حركة الثامن من آذار 1963 ،وكان من أقرب المقربين للرئيس الراحل حافظ الأسد حيث عمل معه بهمة وحماس بعد ما سمي بالحركة التصحيحية في 16/11/1970 وبقي لسنوات عدة وزيرا للخارجية السورية قبل أن يقربه الأسد أكثرويمنحه منصب نائب رئيس للجمهورية العربية السورية ..مما دفعني أن أختار عنوان (الملثم الكبير ) لهذه الكتابة ،وقتها نحن العراقيين لم نكن ملثمين إلا لحاجتنا في العمل على استمرار حياتنا لهدف تجسيد ما كنا نؤمن به ونعتقد فيه، أما السيد خدام فقد بقي (ملثما ومموها )طيلة عقود الى أن حانت ما تصوره اللحظة المناسبة لإماطة الثام والكشف عن معدنه الزائف الردئ.
ويخطئ خدام إذا ماتصور أن الأمور يمكن أن تخدم ما بقي لديه من طموح غير مشروع خصوصا بما تمر به سوريا من ظروف دولية معادية تحاول تغيير النظام السوري في سيناريو قد لا يطابق ما حدث في العراق ولكنه يصب في النتيجة لذات الأهداف التي دمرت العراق تحت شعارات (ملثمة) شتئ بدأت بأسلحة الدمار الشامل وتحولت للتخلص من نظام صدام الديكتاتوري وتستمر في إغراق العراق في فوضى القتل والتدمير للشعب والدولة العراقية خدمة للإحتلال الأجنبي واستمراره وخدمة للصهيونية وأهدافها التاريخية المعادية للأمة العربية ..
ما لفت نظري قبل يومين هو التصريح الجديد للسيد خدام أثناء اللقاء التي أجرته معه القناة الفرنسية الثالثة فقد ذكر بأن على بشار الأسد (يقصد الرئيس السوري الحالي) بأن يغادر السلطة إما الى بيته أو الى السجن ، ولم أعثر على مفردة تناسب هذا القول أقل من مفردة (وقاحة) ،إن خدام كان أحد الموافقين والباصمين على تولي الدكتور بشار الأسد وراثة أبيه في السلطة ،وقد يذهب بشار الأسد الى بيته يوما ما بعد أن ينهي مسؤولياته ويسلم الأمانة ولكنه أن يذهب للسجن فلا أجد لهذا القول من السيد خدام جانب ما يدعمه من شرف وحقيقة ،وأرجو أن لايفهم القارئ الكريم بأني أدافع عن النظام الحاكم في سوريا أو عن تصرفاته غير الصائبة أو التستر عما يمكن لأجهزته وعناصرها من القيام به من عمليات إجرامية سواء بحق السوريين أو غيرهم ،ولقد كنت على وشك أكون أحد هؤلاء الضحايا حينما حضرت الى مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في بيروت مابين 11-13/3/1991 ، وكنت مقيما في لندن وحضرت الى دمشق ومنها الى بيروت ،وعند رجوعنا الى دمشق للرجوع الى لندن بطائرة سعودية خاصة علمت بأن العميد حسن خليل نائب رئيس المخابرات السورية التي كان يرأسها اللواء علي دوبا آنذاك كان يخطط لإعتقالي وعدم السماح لي بمغادرة سوريا لولا تدخل بعض المعارضين العراقيين الذين أصروا على أن أستقل الطائرة معهم راجعا الى لندن، وهؤلاء الأشخاص معروفون ولا يزالوا أحياء يرزقون..ومنذ ذلك التاريخ لم يخطر ببالي الذهاب الى دمشق العزيزة والتي لا تقل محبتها في نفسي عن بغداد الحبيبة..
إن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين يحاكم الآن في بغداد على جريمة لم يرتكبها هو ولم يكن أحد منفذيها المباشرين ،وحسبي من الذاكرة أيضا بأن السيد خدام يجب أن يحاكم على جرائم القتل التي حدثت في مدينة (حماه) السورية حينما كان هو لا غيره محافظا لتلك المدينة التي شهدت مذبحتين الأولى كانت أيام الفريق أمين الحافظ رئيس الجمهورية آنذاك والمحافظ عبد الحليم خدام والثانية العام 1982 أيام حكم الرئيس حافظ الأسد ونائبه عبد الحليم خدام!!.
لاأريد أن تبقى كتابتي هذه وتفسر كرد فعل على تصرف شائن اتخذه عبد الحليم خدام وهو في خريف عمره تجاه وطنه وبلده سوريا الصامدة ،وإنما أوجه كلامي هذا وبكل وضوح وصراحة الى الرئيس الدكتور بشار الأسد مناشدا إياه بأن يحفظ الأمانة ويسير بالسفينة السورية الى شاطئ الأمان فيما بقي لديه من مدة دستورية في الرئاسة كي يكون إنتقال السلطة أو استمرارها سلسا مبنيا على الشفافية والديمقراطية وفق أجواء الإنفتاح السياسي على الآخر والتعددية الحزبية والسياسية الحقيقية وكي تصان سوريا ووحدتها شعبا وأرضا.. وقد يرتأي الرئيس الأسد عدم ترشيح نفسه لرئاسة ثانية أو أن يترشح عن حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا الى جانب مرشحين آخرين للرئاسة السورية العتيدة..