لا يعرف برودة رحم الأرض من العراقيين غير الذين رحلوا قبل أكثر من ثلاثين عاما وهم لايزالون في المنافي. فقبور المنافي باردة وموحشة أيها السادة العراقيون (المفترقون).
وإذا كان ثمة مئات ماتوا خارج وطنهم من دون دمعة أم ولا نواح حبيب ولا ترنيمة قوالة طوال أكثر من ثلاثين عاما هي عمر الفاشية في بلاد الرافدين، فإن الملايين من الذين يعيشون على أرض العراق مؤهلون أن يرحلوا أيضا بحثا عن قبور مثيلة لا ترحم.. مؤهلون أن تجر أحصنة البلديات جثامينهم محمولة على عربات وسط أشجار السرو يسير خلفها بضع عشرات من الأهل والأصدقاء (لا أله إلا الله.. محمد يا رسول الله) ويضحك المارون من ذوي القبعات السود والعيون الزرق على فولكلور عربي إسلامي لا يفهمون معانيه.
لماذا أيها العراقيون الأفاضل؟!
لماذا تتميزون بطول اللسان ولا تتميزون بطول البال والخاطر؟
لماذا تتميزون بطول السواعد تمتد عبر الحدود والمحيطات تستجدي مسدسا أو دولارا ولا تتميزون بالسواعد الإنسانية التي تمتد نحو التربة الطيبة لتزرع قمحا تسدون به رمقكم؟
تحدثوا معي بصراحة الإنسان المكتمل العاقل الوقور.. عن أي قبور تبحثون.. قبور باردة ونعش محدودب يجره حصان البلديات لتدفنوا في قبور تدفعون ثمنها من مخصصات اللجوء التي تشحدونها. ألا تكفيكم تجربة كل سنوات تلك الحقب العجاف؟ ألا تشعرون بثقلها؟
كم عدد الذين استثمروا تلك الحقبة السوداء وانتفعوا منها دون أن (تهتز شعرة واحدة في رؤوسهم) من سيل دم جرى بريئا ودمع سال حارقا على خدود الأمهات؟!
هل تطمحون أن يعود ذلك الجرذ القابع في قفص الاتهام مرة ثانية إلى السلطة؟!.. ذلك محض خبل وجنون، فالناس لم يعودوا يقاومون الدكتاتوريات لو أتت بالبنادق.. بل شاهدتم المشهد الفذ كيف قاوم الفقراء الدكتاتور الثاني بأحذية باب القبلة.
أين كل أولئك الذين كانوا ينفذون الجريمة في غرف مغلقة أطلق عليها المجتمع الدولي بيوت الأشباح؟ هؤلاء هم أنفسهم اليوم يمارسون الجريمة ذاتها في الهواء الطلق بعد أن تهدمت غرف بيوت الأشباح دون أن يرمش لهم جفن! هؤلاء الذين هم بحاجة إلى مستشفيات نفسية وسجون فيها أراض شاسعة يتعلمون فيها الزراعة حتى يشعروا معنى العلاقة بين الأرض والإنسان. لا يصح أن تستخدمونهم أدوات تساعدكم في كتابة شروط المشاركة في الوطن.. فهذا وطنكم بدون شروط، سيما إذا كان الشرط فوهة البندقية وبارود الصواريخ الآتية من خلف الحدود ومن مخلفات شروط الدكتاتورية في حكم العراق!
هل تريدون الديمقراطية حقا؟! إقبلوا بشروطها إذا، وحتى بلعبتها إن إقتضى الأمر!؟
وعندما يفوز طرف ما فإننا نتمنى ونعمل أن يفوز بحب الوطن لا أن يفوز بإستثماره!
ونعمل سوية على أن نحقق هذه المعادلة.
عندما جاء الدكتاتور إلى الحكم فإنه وبعد أن أصبح حاكما فرض شروط ديمقراطيته أن ينتخبوه بنعم أو لا.. ومن يا ترى كان يستطيع أن يقول لا للدكتاتور؟!
الآن قد فاز الأكثرية بالأكثرية وعليهم أن يخوضوا التجربة ونتمنى لهم أن ينجحوا.. فازوا بالحق بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام من التهميش والقتل والتهجير!
يقولون وبعد أن فازوا بالإنتخاب والحق أنهم لا يريدون الإنفراد بالسلطة، وهذه بداية ممتازة، فلماذا وأنتم الأقلية، وهذا ليس عيبا، لا تمدون يدا ليد تريد أن تصافحكم؟
أنتم تضعون الآن شرط خروج الإحتلال، وتباركون المقاومة.. دعوني أسألكم بالله، عندما دخلت قوات التحالف مدينة البصرة.. من الذي قاومها في الفاو عند ثغر المدينة.. ألم يكن فقراء العراق هم الذين شعروا بالمهانة وقاوموا وهم الذين أذلهم وآذاهم الدكتاتور؟! وعندما وصلت قوات التحالف إلى ثغر مدينة تكريت ألم ينزل مراسل السي أن أن من دبابته في المعسكر فوجده خاليا ليس فيه فرد واحد يدافع عن المدينة؟ لم يسمع المراسل ولم نسمع نحن صوت إطلاقة واحدة من مدينة جعلها الدكتاتور تحيا بترف طوال سنوات حكمه المرة وأفقر مدن الجنوب ومدن الخير، ومع ذلك فمن يا ترى قاوم الاحتلال؟ وهل قتل أطفال العراق اليوم في كربلاء وفي الحلة وفي بغداد هو مقاومة للاحتلال؟.. لقد شاهدت بأم عيني نشامى الجيش العراقي أصحاب الرتب العالية يخلعون قمصانهم المتوجة بالانتصارات الزائفة والشارات الذهبية في الشوارع يركضون بالملابس الداخلية وشاهدت أبناء الجنوب من الجنود المعدمين الذين كان يستخدمهم الدكتاتور وقودا، يسيرون مشيا من الموصل إلى البصرة بدون أحذية. فمن يقاوم الإحتلال يا ترى، أليسوا هم فقراء العراق وجنوده، أم هم قادة الجيش الذين هربوا بالملابس الداخلية وعادوا اليوم يضعون السدائر السود واليشامغ الحمر رمزا زائفا مدعيا للعراق وللعروبة؟.. وها هم الفائزون بالإنتخابات أول من يطالب بالحكمة برحيل قوات الاحتلال. وأصارحكم أيضا سوف لن يبقي الاحتلال سواكم.
كنت كتبت لكم ولكل العراقيين رسالة أدعوهم فيها لتشكيل مجلس الحكماء، وهو غير الحكومة، تشكلونه وتوقعون على ميثاق شرف عراقي وطني تكتبون فيه كل ما يسهم في عملية البناء وتجاوز صغائر الأمور ومنفعة الذات التي لا تقود سوى إلى الخواء. ولم تستمعوا لنداء العقل.
لو افترضنا العناد لا سمح الله، فهل تدرون ماذا سيحل بالعراق؟!
سيعلن الجنوب والوسط إقليمه ويصبح لقمة سهلة البلع لدولة مجاورة.
الشمال الذي أعلن إقليمه سيكون ممرا لدبابات الدول المجاورة.
أهالي المنطقة الغربية سيتحولون إلى بدو رحل لعدم وجود بترول في إقليمهم ولا يوجد منفذ لهم على البحر.
بغداد تبقى يتيمة ممزقة!
فهل تودون أن تعيدوأ تمثيل الفيلم فيصبح المظلومون في مركز السلطة وحدهم ويعود الظالمون لاجئين في المنافي تجر جثامينهم عربات البلديات في مدن الثلج.. لا إله إلا الله.. محمد يا رسول الله. ويضحك أصحاب القبعات السود والعيون الزرق من هذا الفولكلور الذي لن يفهموا معناه.
أنتم سادتي أصحاب السدائر السود واليشامغ الحمر ستجعلون الوطن ريشة في مهب الريح.. وستجنون على أطفالكم والوطن على حد سواء.. وستبقون بدون وطن.. غجر بين بوادي العراق وبوادي الشام وبدو رحل بين بوادي العراق وبوادي الأردن.. ستبقون ونبقى في وطن ممزق ضائع في مهب الريح..
(وأبي قال لي مرة
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح)!!

قاسم حول

سينمائي عراقي مقيم في هولندا
[email protected]