هنالك معادلة فكرية وأجتماعية خاطئة سمعنا بها منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه أقدامنا أرض المنافي البعيدة أيام النظام السابق ثم عادت لتطرق مسامعنا بأيقاعها النشاز في الآونة الأخيرة من على لسان بعض الساسة العراقيين ومن خلال صفحات بعض الجرائد وشاشات بعض الفضائيات العراقية وهي المعادلة التي تقول أن ترتيب الأولويات عند المواطن العراقي يجب أن يكون بالشكل التالي:
الطائفة أو الدين........ثم........القومية........ثم........الوطن
أي أن يفكر العراقي بطريقة:
أنا( شيعي أو سني أو مسلم أو مسيحي أو صابئي أو إيزيدي ) ثم أنا ( عربي أو كردي أو تركماني أو آشوري أو كلداني ) ثم أخيراً وفي الختام ( أنا عراقي ).
أو القومية........ثم........الطائفة أو الدين........ثم........الوطن
أي أن يفكر العراقي بطريقة:
أنا( عربي أو كردي أو تركماني أو آشوري أو كلداني ) ثم أنا ( شيعي أو سني أو مسلم أو مسيحي أو صابئي أو إيزيدي ) ثم أخيراً وفي الختام ( أنا عراقي ).
أي أن الوطن حسب هاتين المعادلتين ضيقتي الأفق يأتي في جميع الأحوال في الختام وفي المؤخرة في حين أن العقل والمنطق وكل المفاهيم الأنسانية الحديثة تقول إن مكان وترتيب الوطن بالنسبة لأولويات مواطنيه يجب أن يكون الأول وفي المقدمة ومتقدماً على جميع الأولويات الأخرى مع ضرورة وحتمية إستمرار تمسّكه وأعتزازه بدينه ومذهبه وقوميته لأن الوطن هو كيان موجود على أرض الواقع وليس كياناً إفتراضياً وهو مايَجمع المواطن بكل من يعيش معهم في هذه البقعة التي إسمها الوطن وهو هنا العراق بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم أو عرقهم أما القومية أو الدين أو المذهب فهي خصوصيات تجمعه بنسبة معينة من أبناء هذا الوطن وإذا تمسّك بها على حساب الوطن فأنها ستجعله أنساناً إنطوائياً إنعزالياً غير منفتح على الآخرين قادم من كهوف العصر الحجري أو أقبية القرون الوسطى التي كانت فيها مصطلحات الدين والمذهب والقومية هي الطاغية على تفكير الشعوب وعلى أساسها تأسست في ذلك الحين الدول القومية والدينية في أوروبا.. فتجربة الدولة القومية والدولة الدينية عاشها الغرب قبل قرون ثم أكتشف فشلها ليؤسس قبل قرن أو قرنين من الزمان دول المواطنة التي نراها اليوم في الغرب والتي يعيش فيها الجميع دون أن يفرقهم لون أو جنس أو دين أوطائفة.
بعد سقوط النظام الصدامي المقبور الذي كان أول من زرع بذرة الفرقة والشقاق بين أبناء الشعب العراقي بأستهدافه لأبناء هذه القومية على أساس إنتمائهم القومي ولأبناء هذه الطائفة على أساس إنتمائهم الطائفي عادت بعض الأحزاب لتستغل هذه البذرة بل وعملت بجد على تغذيتها وتنميتها في داخل المجتمع العراقي لتنفيذ سياساتها ومخططاتها الغامضة ولتحقيق مصالحها الضيقة وخصوصاً بعد تولي بعضها للسلطة وسيطرتها على مقاليد الأمور في العراق الجديد.. إذ أصبحت المعادلتين اللتين ذكرناهما في بداية المقال أكثر وضوحاً ورواجاً بين عراقيي الداخل بعد أن نجحت تلك الأحزاب في تعميقها وسط بعض عراقيي الخارج بل يراد لهاتان المعادلتان أن تكونان بديلاً لمفهوم المواطنة خصوصاً وأنها تتردد اليوم على لسان مسؤولين كبار في الدولة العراقية لم ينسوا ولايزالوا يعيشون حتى هذه اللحظة بعقلية رئيس هذا الحزب القومي أو ذاك الحزب الطائفي المعارض وخصوصاً وأن بعض هذه الأحزاب لاتزال متمسكة بأسمائها الطناّنة القديمة والتي لاتتلائم مع الوضع الجديد للعراق.. فهل هي هفوة أم فعل مقصود؟
لقد فاتنا في الماضي ونحن في فورة معارضتنا لنظام الطاغية المقبور أن ننتبه ونحلل ومن ثم نفهم بأن أغلب ( وليس كل) هذه القوى والأحزاب قد تأسست أصلاً على هذا الأساس أي بمعنى آخر إما على أساس طائفي أو على أساس قومي وليس على أساس برنامج وطني يتضمن حلول إجتماعية وإقتصادية وسياسية واضحة ذات نفع لكل المجتمع العراقي لذا فأن وجودها وبقائها وديمومة تواصل الناس معها مرهون بأستمرار الترويج لهذا الفكر وجعله ثقافة عامة و وعياً جمعياً لدى الفئات العرقية والمذهبية في الشعب العراقي وبالتالي تفتيتها وتشضيتها وتحويلها الى مجاميع بشرية صغيرة يتحكم بها هذا الحزب أو ذاك ومن ثم التأسيس لدول الطوائف والقوميات على أنقاض دولة إسمها العراق ضاربة بعروقها في أعماق التأريخ البشري.
إن المفاهيم التي يراد اليوم ترويجها وجعلها سنن ثابتة في العراق هي أنك إن كنت ترى نفسك عراقياً فحسب ولكن معتزاً بقوميتك وليس قومجياً فأنك شوفيني بنظر قومجيوا هذه القومية أو تلك.. وإن كان شعورك وطنياً فحسب ولكنك في نفس الوقت معتزاً بدينك وطائفتك وليس طائفياً فأنك طائفي بنظر الطائفيون من هذه الطائفة أو تلك.. كما يراد اليوم طرح وتعميم معنى جديد للديموقراطية وحقوق الأنسان في العراق الجديد وهو أن تعمل كديموقراطي وداعية لحقوق الأنسان على نبذ وتفتيت وتهشيم مفهوم المواطنة كونه حسب رأي البعض ينافي ويتعارض مع حقوق الفئات الطائفية والأثنية في تقرير مصيرها وأن تدعوا وتتحدث بدلاً عنه بمفاهيم جديدة هي مفهوم دول الطوائف والأثنيات وإلا فأنك ستوضع في خانة أعداء الديموقراطية وحقوق الأنسان ولاغرابة في ذلك فهذا هو ديدن شعوبنا في العودة بالمفاهيم الفكرية الى الوراء بدلاً من السير بها الى الأمام.
أن على منظمات المجتمع المدني ودعاته اليوم مهمة عسيرة وتأريخية في توضيح مايحاك ويخطط للعراق من قبل البعض وكشفه أمام المواطن العراقي المسكين المبتلى دوماً وأبداً بما يجري في وطنه الذي أصبح ساحة مكشوفة لكل من هب ودب من الأخوة الأعداء.
مصطفى القرة داغي
[email protected]
التعليقات