بدئاً.. رحمك الله يافيصل الأول وأسكنك وأهل بيتك من أحفاد السلالة العلوية المحمدية الهاشمية المطهرة وكل عراقي مخلص كان معك وساهم معك في بناء عراقنا الحبيب فسيح جناته.
أين أنت يافيصل الأول لترى العراق الذي تركته يرتقي بخطى ثابتة سلم الرقي والمدنية والحضارة يتراجع القهقري الى عصور الظلمات وأقبية التخلف على أيدي من جاؤوا بعدك.
أين أنت لترى ذلك الكيان الجميل الذي ولد على يديك الكريميتين والذي بنيته وأسسته ورعيته بكل حب وأخلاص ووضعت بنيانه متماسكاً متلاحماً قوياً حتى بات يضاهي أكبر الأمم يتشظى ويتناثر اليوم الى أجزاء طائفية وإثنية يريد أن يتقاسمها اليوم من فقدوا أي أحساس بالحب لهذا الكيان الكبير.. فكل منهم يبحث ويلهث اليوم وراء كيانه الخاص طائفياً كان أو إثنياً ولايهمهم قيد أنملة كيان إسمه العراق.
أين أنت لترى الشعب الذي أردته أمة عراقية كبرى بشعوب متنوعة يتشظى وفق إنتمائاته الطائفية والإثنية فعراق اليوم ينتخب فيه الشيعي قائمة شيعية والسني قائمة سنية والكردي قائمة كردية والعربي قائمة عربية والتركماني قائمة تركمانية وهكذا دواليك إلا مارحم ربي من العراقيين ممن لايزال العراق الحبيب حياً في ضمائرهم ولازالوا يشعرون ويؤمنون بأن أنتمائهم الأول هو للعراق ولاشيء آخر قبل وغير العراق بعد أن أصبح شعور الأنتماء الى الطائفة والعرق والدين هو الأعلى وشعور الأنتماء الى العراق الكبير هو الأدنى.
أين أنت لترى الأمة العراقية بشعوبها ذات الأعراق والمذاهب والأديان المختلفة التي وحّدتها بسدارتك البغدادية وكنت أباً حنوناً لها بكل شعوبها يحكمها بعدك ساسة وزعماء يقال أنهم لكل العراق يُسّمون أبناء شعبهم في خطاباتهم بالأخوة السنة أو الأخوة الشيعة أو الأخوة الأكراد أو الأخوة العرب أو الأخوة المسيحيين أو الأخوة الصابئة أو الأخوة اليزيديين.
اين أنت لترى العراقي يُسئل في دوائر ومؤسسات وسفارات ( دولته ) عن طائفته وقوميته ودينه قبل الشروع في أنجاز معاملته بشكل أصولي من قبل من عُينوا في تلك الدوائر والمؤسسات والسفارات وفق المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية المقيتة.
أين رجالات زمانك وزمان أبنائك الأنيق الذين كانوا عراقيين فقط وحكموا العراقيين كعراقيين فقط لا كشيعة أو كسنة أو كعرب أو كأكراد أو كتركمان أو كآشوريين أو ككلدان أو كمسلمين أو كمسيحيين أو كيهود أو كصابئة أو كإيزيديين.. أين محمد الصدر إبن سامراء الغالية العراقي الذي ترأس وزارتين عراقيتين ودورتين لمجلس الأعيان ولم يتصرف هو ولم ينظر أليه أي عراقي في يوم من الأيام كسياسي وكرجل دين شيعي رغم إنه كان يرتدي دوماً عمامته وعبائته السوداء بل كعراقي لكل العراقيين.. وأين سعيد القزاز إبن السليمانية الحبيبة العراقي الذي أستؤزر على داخلية العراق وتصرف كعراقي حينما أنقذ بغداد من فيضان كاد أن يقضي عليها وعلى أهلها الذين لم ينظروا أليه ولم يتصرف هو في يوم من الأيام كسياسي كردي بل كعراقي لكل العراقيين.. وأين ساسون حزقيل العراقي الذي أستأزره الراحل فيصل الأول على أول وزارة مالية للعراق والذي كان يدعم خزينة العراق الخاوية آنذاك من ماله الخاص بل كان ينفق من جيبه على مشاريع أعمار العراق ولم ينظر أليه العراقيون ولم يتصرف هو في يوم من الأيام كسياسي يهودي بل كعراقي لكل العراقيين.. وأين خليل كنة إبن الرمادي العزيزة العراقي الذي إستؤزر لوزارة المعارف لعدة مرات وساهم مع محمد مهدي كبة أبن مدينة أمير المؤمنين (ع ) المقدسة النجف في تأسيس حزب الأستقلال العراقي ولم يعرف عنه يوماً بأنه كان متعصباً لطائفته ولم ينظر اليه أي عراقي ولم يتصرف هو في يوم من الأيام كسياسي سنّي بل كعراقي لكل العراقيين.. وأين وأين ؟
يروي الأستاذ الكاتب خالد القشطيني في أحدى مقالاته في جريدة الشرق الأوسط وبعنوان quot; عملاقان من أيام خلت quot; حادثة طريفة حدثت أيام العهد الملكي بين عملاق السياسة العراقية الراحل الباشا نوري السعيد والشيخ والسياسي الراحل محمد رضا الشبيبي اللذين وكما يروي الأستاذ القشطيني كانا مثل الحية والبطنج لأختلاف آرائهم وتوجهاتهم السياسية ولكن رغم ذلك كان يكن كل منهما أحتراماً وأجلالاً كبيراً للآخر على عادة أهل تلك الأيام الخوالي حتى يروى بأن نوري السعيد ماكان يلتقي بالشبيبي في أي مكان حتى يبادر الى تقبيله من كتفيه دلالة على شديد أحترامه وتقديره له ويضيف الكاتب ( حدث ذات مرة أن ألتقى الرجلان في دائرة من دوائر الدولة وكان نوري السعيد في طريقه للخروج ومحمد رضا الشبيبي في طريقه للدخول الى تلك الدائرة وكانت هنالك مرآة كبيرة ورائهما حيث ألتقيا.. بادر أبو صباح فوراً الى تقبيل الشيخ على نحو ماذكرنا ثم راح يداعبه ويعاتبه على غيابه عنه إذ لم يره منذ مدة طويلة فقال له quot; ليش ياشيخنا تاركنا ومطلقنا هالشكل ؟ quot; فأجابه الشيخ ساخراً quot; ماأريد أشوف وجوهكم.. لاأرى القرد ولا القرد يراني quot; فسارع أبو صباح الى جره من عبايته الى المرآة وقال له quot; شوف.. شوف شيخنا.. منو بينا القرد ؟ آني لو إنتة ؟ quot; وكانت تلك مزحة من المزح الظريفة التي جعلتهما يضحكان معاً ).. وبمقارنة بسيطة وسريعة بين هذه الحادثة وبين مانراه ونسمعه اليوم من أتهامات ومهاترات ومشادات كلامية تحمل في طياتها الكثير من معاني الكره والتسقيط بين سياسيي هذا الزمان الذن كانوا حتى الأمس القريب حلفاء حميمين في أيام المعارضة وأصبحوا بين ليلة وضحاها أعداء لدودين بعد أن بات الحكم قاب قوسين منهم أو أدنى نرى الفرق الكبير والواضح بين التركيبة النفسية والأجتماعية لسياسيي ونخب ذلك الزمان الراقي وبين سياسيي ونخب هذا الزمان القاسي.
أين تلك النخبة الرائعة من السياسيين والكتاب والشعراء والفنانين الذين أتحفنا بهم زمانكم الراقي.. أين أنت وأين ولدك وأين حفيدك.. أين الوصي وأين الباشا.. أين صالح جبر وخليل كنة ومحمد الصدر وعبد الهادي الجلبي وعبد المهدي المنتفكي ومحمد رضا الشبيبي وعبد الكريم الآزري وتوفيق السويدي ورستم حيدر.. أين الجواهري وعلي الشرقي والرصافي والزهاوي.. أين ناظم الغزالي وعزيز علي وسليمة باشا وعفيفة أسكندر وزهور حسين.. أين وأين وأين هذه القمم التي جاد بها الزمان علينا في لحظات يبدوا أنها ضاعت منا الى الأبد.
أين الصالات الثقافية والفنية والسياسية وأين الحفلات الغنائية والمهرجانات الثقافية وحفلات أختيار ملكات جمال بغداد والعراق وأين أجواء المحبة والتآلف والسلام وأين ليالي دجلة البغدادية التي كان يزخر بها عهدك وعهد سلالتك الجميل.
على الرغم مما قيل ويقال وسيقال عن زمانكم وعلى الرغم مما كتب ويكتب وسيكتب عن زمانكم فأن زمانكم زمان الرقي والتقدم والحضارة والجمال كان زماناً أنيقاً بسياسييه وبشخوصه وبفعالياته في حين أن زماننا هذا زمان التخلف والجاهلية والظلمات زمان مخيف بسياسييه وبشخوصه وبفعالياته.. كما إن عهدكم ( البائد) كما لايزال يسميه بعض المساكين كان ( ذهبياً ) مع سبق الأصرار مقارنة بالعهود المقفرة المغبرة التي تلته.. لذا فأننا بحاجة مصيرية في هذه المرحلة التأريخية الحرجة والخطيرة من تأريخ أمتنا الى نموذج مثلك أنت فقط وبمواصفاتك أنت فقط يامليكنا الراحل لكي يعيد الينا توازننا ويجمع شتاتنا ويوحدنا حول كلمة واحدة وفكر واحد وكيان واحد إسمه العراق.. ورغم صعوبة هذه الأمنية الغالية إلا أنني أعتقد بأن مثل هذا النموذج من الممكن أيجاده في قلة قليلة من ساسة العراق اليوم.. لكن الداء أصل الداء هو في الشخصية العراقية التي شوّهتها مراهقة وشوفينية وديكتاتورية الجمهوريات ( التقدمية ! ) وحولتها الى شخصية طائفية عنصرية غير مستقرة بعيدة عن روح التسامح والتآلف التي أمتازت بها الشخصية العراقية أبان عهودكم الملكية ( الرجعية ! ).
ليتني أمتلك الان آلة للزمن لأعود بها الى زمانكم الجميل وأقضي ماتبقى لي من العمر في أجوائه الراقية الحالمة البريئة وأترك هذا الزمن الرديء بأجوائه المتخلفة الكئيبة المخيفة المقفرة.
لقد كنت يامليكنا الراحل علوياً وهاشمياً إسماً على مسمى وخير خلف لخير سلف وقد جسّدت إنتمائك الأصيل الطاهر هذا باقوالك وأفعالك وأنجازاتك العظيمة التي سيذكرها التأريخ الى أبد الآبدين.. والله والله.. مهما قالوا ومهما فعلوا.. مهما زوقوا الكلام ومهما إدعوا من ألقاب وبطولات.. فأنهم لن يصلوا الى ماكنت عليه من حكمة ونقاء وأخلاص للعراق الذي أسسته وبنيته والذي سيبقى بأذن الله مادام في قلوب من آمنوا بفكرتك وبمشروعك الحضاري قلب ينبض.
عذراً ياسيدي ومليكي الراحل ويامؤسس موطني وبلادي وأمتي ألف مرة إن لم أوفيك حقك في هذا المقال ولن أستطيع مهما كتبت ومهما قلت ولن يستطيع غيري أبداً.. فالعظماء من أمثالك ممن لاتجود بهم الأمم إلا نادراً لاتوفيهم مقالات متواضعة كمقالتي هذه ولاحتى كتب أو مجلدات أو موسوعات حقهم التأريخي والأنساني.. لهذا تراني وكثيرون غيري نقف اليوم على أطلال عراقك الأنيق الجميل الذي يكاد يصبح الآن مجرد ذكريات تجول في خواطرنا ونصيح بملىء صوتنا مرددين قول الشاعر الكبير الراحل أبراهيم ناجي وكوكب الشرق الراحلة أم كلثوم في قصيدة الأطلال quot; أين منا يافيصل الأول عراق أنت به.. فتنة تمت سناءً وسنى quot;.

مصطفى القرة داغي
[email protected]