الدور التركي في المسيرة الأردنية عبر التاريخ لا يقل عن الدور البريطاني في مرحلة ما، و يجب أن يفهم و يحلل و يدار على أسس تتعدى الدبلوماسية و يحفظ للأردن دورها الريادي و ديمومتها التي تواجه اعباءا ضخمة في تأمين مصادر المياه، مما يشكل تهديدا مستقبليا للاستقرار الزراعي الذي ينعكس على الحياة اليومية، دبلوماسية المهندسين هي المطلب في تلك المرحلة الهامة من المشاريع المائية السياسة.

ونعود إلى العلاقة الأردنية التركية في العصر الحديث حيث البداية في العلاقة هي النسب تاريخيا بين الملك طلال نجل الملك عبد الله الأول مؤسس المملكة الذي تزوج من الملكة الراحلة زين والدة الملك الحسين، و التي تعود في جذورها إلى الدماء التركية، و ما رافق ذلك من تداخل و تشابك و علاقات قوية في حينها بين البلدين، تماما مثل كل الزيجات السياسية في التاريخ.
وكانت العلاقة بين القصر و تركيا تزداد قوة و توثق عبر تلك الزيجات و من أهمها المرحومة فخر النساء والدة الأمير رعد بن زيد. و هي مشابهه لزيجات سياسية مختلفة في المنطقة.

و كان العديد من عالية القوم في الأردن يتحدثون التركية بطلاقه و يذهبون إلي الدراسة في تركيا بل و خدم العديد من الأردنيين في الجيش التركي تماما مثلما خدموا في الجيش البريطاني.

و كان لتركيا دورا هاما في الخمسينيات في استضافة الملك طلال و إدخاله إلى مستشفى الأمراض العصبية، و تحت الإقامة الجبرية و حراسة مكثفة من السلطات التركية و لمدة ست سنوات، كان خلالها صبحي طوقان الرفيق الوحيد له في وحدته باعتباره صديقا له و مرافقه الشخصي و الأكثر ولاء له في زمن تنكر له الأقرب إليه و انقلبوا عليه حتى تم إقصائه عن الحكم إلى أن توفى في المنفى التركي الإجباري. إنها مرحلة تاريخية هامة بحاجة إلى إعادة قرأة لإنصاف الملك طلال الذي وضع الدستور في عهده.

و في اللجان الأردنية التي وضعت الميثاق كان هنالك نقاشا كبيرا حول الدور التركي و الفرق بين تركيا العلمانية والتو رانية و الدولة العثمانية. و اعتبر بعض أعضاء لجان واضعي الميثاق الأردني أن التو رانية عبارة عن نظام عنصري اضطهد الأتراك قبل اضطهاد العرب، و في مذكرات و أحاديث عبد الله التل ما يشير إلى أن جذور التو رانية يهودية و أن quot;يهود الدوما quot; لعبوا دورا من خلال حزب تركيا الفتاة ضد العرب و لأجل مصالح الصهيونية.

و لذلك يجب التفرقة بين تركيا العلمانية والتورانية والعثمانية التي سقطت.

و يأتي الدور التركي في العصر الحديث في مشاريع المياه، و التي الأردن و إسرائيل معا بأمس الحاجة إليها، و ذلك من خلال العجز الذي يواجهانه معا في المياه، ليخلق تناغما كبيرا في العلاقة القادمة بين الدول الثلاث. و لعل معاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية فتحت الباب أمام التعاون المائي التي بها يحفظ للأردن دور مستقبلي لتامين الحياة لكليهما و هو ما سيأتي في تعاون بشكل أو أخر بين الدولتين الإسرائيلية و الأردنية في الخمسين عاما القادمة بمظلة تركية أمريكية.

خصوصا إذا ما عرف أن تركيا تتجه إلى تطوير جنوب شرق تركيا من خلال اكبر مشروع مائي يهدف إلى بناء 22 سدا و تسعة عشر محطة هيدرورلكية و أنفاق لنقل المياه لتؤمن 27 بليون كيلووات من الكهرباء و ري لأراض زراعية قرابة مليوني هكتار و الحصول على سبعة ألاف و خمسمائة ميجاوات من الطاقة لتركيا. و هو ما يشكل 22 بالمائة من طاقة تركيا و احتياجاتها المستقبلية التوسعية.

كل هذا على أهم ممرات مائية في العالم و هما نهر الفرات (2700 كيلومتر )و دجلة (1840 كيلومتر ) اللذان ينبعان من تركيا و يمران في العراق و سوريا، و بالتالي فأن هذا المشروع على الأراضي التركية يخلق حالة استياء في الجانب السوري و العراقي معا و تتفرع منه إلى لبنان، و يشكل حالة متوقعة للحرب القادمة في الشرق الأوسط بسبب المياه أو الاستقرار إذا ما تم التوصل إلى حلول و اتفاقيات و محاصة تماثل الاتفاق الموقع بين تركيا و الاتحاد السوفيتي سابقا و اليونان في عام 1927 حول تقاسم المياه.

و من الجانب الأمني فأن تركيا الحليف القوي للولايات المتحدة الأمريكية، و التي يتم إجراء المناورات و التدريبات العسكرية الأمريكية بمشاركة إسرائيلية و وتواجد أردني من خلال ضابط ارتباط بصفة مراقب، و في العادة من سلاح البحرية، يكمل عناصر اللقاء و القوة التي تربط العلاقة التركية الأردنية و تصقلها كحليف مشترك في المنطقة و يعضد من مثلث التعاون.

و إذا ما أضيف لكل ما سبق، خلفية معروف البخيت الذي يرأس الحكومة الأردنية واللواء الأسبق في الاستخبارات العسكرية و مستشار المخابرات الأردنية، و من ثم السفير الأردني في إسرائيل و السفير الأردني في تركيا، و عضو لجان التفاوض، فان هذا يجعل من زيارته إلى تركيا يوم الاثنين 16 يناير و لقاؤه مع رئيس وزرائها quot;اردوغان quot;، ورقة سياسية قوية في منطقة الشرق الأوسط و دورا كبيرا و هاما للأردن في المرحلة القادمة، لم يكن ليحدث لولا معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية.

و بالتالي فأن اختيار البخيت لرئاسة الوزراء الأردنية يندرج في الإعداد لتلك المهمة و منذ سنوات، و أن كانت التفجيرات في العاصمة الأردنية أظهرته للساحة الأمامية، و لكن الفكر خلف اختياره يتعدى سطحية الواقع الأمني فقط، و هو ما يحسب للملك عبد الله الثاني في الاختيار و التوقيت من وجهة نظر أردنية بحتة.

و أود القول هنا، أن الزيارة إلي تركيا ستتكرر و لن يستغرب احد حينها أن ضم الوفد وزير المياه و الأشغال و الخارجية، و لعل وزارة الخارجية تدرس أن يكون سفير الأردن في استانبول مهندسا و سياسيا يحمل في جعبته مفاتيح الآستانة و يضمن تنسيق معقول و عملي و منصف لاستخدام الأوراق الأردنية التركية لصالح مستقبل أمن للأردن في إطار المشروع المائي و السياسي الكبير التي تقوم به تركيا.

العلاقات الثنائية في الأصل هي ثلاثية، وسبل دفعها في المجالات المختلفة و البحث في قضايا المنطقة خاصة ما يتعلق بالأوضاع في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان بإضافة القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك تعنى مشاريع المياه تحديدا و الأمن تخصيصا. و هذا منطقي و مقبول.

فلم يعد بالا مكان الإبقاء على الأحواض السياسية بلا ماء في زمن الجفاف الشرق أوسطي.

د.عبد الفتاح طوقان

[email protected]