مع مطلع العام الجديد إطلعتُ على مقالة للأستاذ عزيز الحاج نشرها تحت عنوان ( تداعيات عام ).. وهو يتحدث فيها عن المحطات المهمة التي وقفت البشرية عندها داهشة حائرة في عام 2005 بدْءا ب ( تسونامي ) التي حصدت أكثر من 230 ألف نفس ومرورا بما حدث في كاترينا الأمريكية وفشل الدستور الأوروبي وإغتيال الحريري ( ولم يذكر للأسف إغتيال العلامة معشوق الخزنوي الذي هو من بني جلدته في كوردستان سوريا !)، وإنتهاءً بالإرهاب والقتل والذبح في العراق ومن ثم الإنتخابات وما رافقها من تفجيرات وضحايا وكذلك حوادث أخرى.. والذي جلب إنتباهي هو قول من أقواله في السلبيات التي رافقت الوضع، والذي يذكر فيه :
quot;فوق كل هذا وذاك، يراد تقسيم العراق إلى إمارات وولايات باسم الفيدرالية وكأننا عدنا لعهود الولايات العراقية زمن العثمانيين. إن الدستور يعطي حتى للمحافظات صلاحيات تنتهك دور الحكومة المركزية، ويسمح للفيدراليات بتأسيس مكاتبها الدبلوماسية الخاصة بجوار مؤسسات الحكومة الاتحادية. هذا ما كررناه وكرره غيرنا عشرات المرات وسنكرره برغم ترسانة الاتهامات الجاهزة المقرونة بشتائم البعض من العاجزين عن مناقشة الحجج والوقائع.
إن كل انتخابات تجري على الهويات المذهبية والعرقية لا يمكن أن تكون خطوة للأمام في المسيرة الطويلة المعقدة نحو هدف النظام الديمقراطي ونحو قيام الفيدرالية المدنية وليس الفيدراليات المذهبية والعرقية الخالصة. قد يرى الكثيرون نظرتي قاتمة جدا وغير واقعية وإنني طبعا أحترم كل الآراء المخالفةquot;
لكون الإستاذ عزيز الحاج يحترم الرأي المخالف وهو مشكور عليه، فأنا أستميحه عذرا لو قلت أنه لشئ عجاب أن يصدر ما سبق من الكلام عن أستاذ يعيش في أوروبا منذ أكثر من عقدين من الزمان على الأقل وتعامل مع العديد من المحافل والمؤسسات الفيدرالية لسنوات، في وقت كان المفروض أن تكون قراءته وملاحظاته عما يجري من تطورات وأحداث في بلادنا، مختلفة عن الآخرين من جنسنا الذين أهلكهم الوضع الإجتماعي هنا في أوروبا وأخذت الأعمال الجسدية الشاقة من طاقتهم الفكرية إلى درجة يمكن أن نشبههم بالذي يدخل إلى نفق وهو شاب ويخرج من الطرف الآخر وهو إما متقاعد أو مستهلَك أو متوفي لا سامح الله.. لا جديد له إلا القديم، وبدلا من القرآن يقرا العهد القديم.
يحار المرء من إنتقاده للفيدراليات تعميما وربطها بالعصور البائدة العثمانية، في حين أن أرقى الأنظمة الحالية في أوروبا والعالم هي صاحبة النظام الفيدرالي الذي يقلص من سلطات المركز ويقص جناح الدكتاتورية التي تدعو إلى الشمولية، وبالتالي يخلق حالة تناغم بين المركز والأقاليم أو الدول التي تنضوي تحتها.. فهذه سويسرا التي تحوي كانتونات وأنصاف كانتونات مستقلة، وألمانيا التي تتشكل من 16 ولاية، والنمسا التي تتكون من 9 دول فيدرالية، وبلجيكا ذات 3 أقاليم ( فرنسية، هولندية وألمانية )، وكندا صاحبة 10 أقاليم مستقلة ومتحدة، وأستراليا ذات 6 مقاطعات أو دول، والولايات المتحدة الأمريكية ذات 50 ولاية.. ناهيكم عن الهند ومكسيك.. حتى البلدان التي تبدو أن المركز فيها يتميز بشئ من القوة من حيث الصلاحيات كايطاليا وفرنسا وأسبانيا وإنكلترا، بدأت ترخي الزمام للأقاليم والمناطق.. والدول الأسكندنافية برغم عدم إشتهار أنظمتها بالفيدرالية، ولكن من الناحية العملية والواقع التطبيقي هي مزيج فريد من الأنظمة التي تتوق إلى أن تتحقق العدالة بين الناس بالمليم، وذلك بعد أن غادر أهلها ونظامهم محطة ( قد افلح اليوم من إستعلى ) في الحياة الدنيا.
لا شك أن تشكيل بلد أتحادي حتى في المناطق الأكثر تقدما من منطقتنا مر بمراحل صعبة ومعقدة ودخل في صلبه حالات أو ظواهر بدت شاذة وغريبة، بل وسمجة وخارجة عن العقل أو المنطق والموروث والمزاج والقبول في الوهلة الأولى، وإحتاج جيل لفهمها وآخر لتثبيت أسسها، ولا محالة من ذلك.. ولكن بمرور الوقت وبالإتفاق والعمل المشترك والعقود والعهود ومراعاتها ومزجها بالديمقراطية والحرية، قطفت ثمرة ناضجة في المطاف الأخير، كما نشاهد.. وأظن أن كل الدول مرت بهذه الأطوار، ولم تبن أي دولة في العالم على مستحضرات مثالية جاهزة ومن دون مخاض وبجرة قلم.. فدولة سويسرا الفيدرالية بنيت على أنقاض الحرب الأهلية بين البروتستانت والكاثوليك، وهي اليوم تتشكل من 40 كانتونا وأنصاف كانتون و تكاد تكون العدالة بينها بالمثقال.. ولله الحمد لم يحدث عندنا هذا الوضع، والموجود هو الإرهاب الموجه للجميع.
وأكاد أقول أن الحالة الحاضرة في الدولة التي اتفق على تشكيلها بين كوردستان والعراق، يكون أقل وطأة وثقلا من حال كثير من الدول الأخرى، وذلك بسبب عدم التداخل الاثني والمذهبي بشكل يصعب فك أواصره.. سوى مشاكل التعريب الموروثة بالذات في مناطق كوردستان في العهد البائد، والتي إذا صفت النوايا واحترم الدستور وسادت الديمقراطية، يمكن حل إشكالياتها وصعوباتها بأقل الخسائر، ويبدو ان هناك رغبة أوعدم ممانعة من لدن غالبية العرب الذين أتى بهم الصنم لتلكم المناطق بالعودة إلى أماكنهم الأصلية مقابل تعويض. ولو طبقت نفس الحالة الدستورية الفيدرالية على الاقليم السني أو الشيعي في العراق، لاعطت الكثير من الإيجابيات والفوائد لكافة الأطياف والأعراق.
وإذا كانت دولة الإمارات العربية المتحدة التي لا تتجاوز نفوسها عن مليونين ونصف إنسان، وشكلت لنفسها دولة من سبع إمارات مستقرة تنتمي الى نفس الارومة ونفس اللغة وكل إمارة لها عاصمتها وميزانيتها وأميرها وعلمها الخاص، فهل هناك إشكال في تشكيل دولة إتحادية بين كوردستان والعراق لاسيما بوجود إرادة قوية من أكثر من طرف وتوفر ظروف موضوعية تستدعي ذلك، وهي موجودة بالفعل وخاصة من لدن الطرف الكوردي ؟..
هذا ناهيكم عن الخصوصية الخاصة التي تتميز بها كوردستان - كأرض وشعب وتأريخ - والتي كتب الاستاذ الحاج كتابا عن متاعبها وكذلك مقالات.. هذه المعضلة التي أفرزت الكثير من المشاكل والعقد والتداعيات الشائكة على طول التأريخ، وذلك بعد أن جُزِئَ هذا الشعب وحرم حتى من الحقوق التي منحت لشعوب دول مثل ( دومنيكا 78000 ) و ( سيشيل 80000) و (جزر القمر 747000 ) و (جزر بهاما 310000 ) و ( جيبوتي 693000 ) و ( ساموا 176000 ) و ( سورينام ـ432000 ) و( موناكو ـ43000 ) التي لا تتجاوز نفوس جميعها إلا قليلا عن نصف نفوس جنوب كوردستان فقط والتي تقدر بخمسة ملايين نسمة.. في حال يستكثر الاستاذ عزيز الحاج - وهو كوردي فيلي - على الكورد - بتعميم أطروحته - أن يكون لهم مكتبهم الدبلوماسي الخاص بجانب مؤسسات الحكومة الاتحادية في الخارج ويعتبره تصغيرا لشأن المركز، بعد قرن من التضحيات والقرابين ولا نتحدث عن الأنفال وحلبجة وما حاق بهم من حملات التهجير والتطهير العرقي في كركوك وأخواتها.. ثم هل هناك خاصية للشعوب غير الدين واللغة والمذهب تميز بعضها عن بعض وتضفي بالتالي جمال التعددية على المجتمع البشري إذا فقهوا؟
أنا وفي هذه العجالة أكتفي بهذا القدر من الملاحظات من دون الدخول في تفاصيلها، فالأمثلة كثيرة حتى في الدول التي لا تحمل إسم الفيدرالية ولكنها تطبقها.. ويكفي أن أقول بأن وجود كيان كوردستاني ضمان على الأقل لأهله وأهلنا الكورد الفيليين لاستعادة حقوقهم التي ضاعت في خضم الحكم المركزي الشمولي الدموي الذي رعى حاكمه البلاد والعباد كقطعان الماشية بل أسوأ.. وأعوذ بالله من هذا التشبيه الذي نرجو ان يكون آخر التشبيهات في عصر زوال الدكتاتوريات المركزية.
وإن كان القيام بهذا الأمر بالنسبة للدولة المتقدمة والعاقلة التي لا تهمها الأسماء بقدر ما يهمها توفير العدالة والمساواة من باب فرض كفاية، فانه لشعوبنا التي تعَوّد حُكامها ان يحملوا معهم دائما ( مقامع من حديد ) في وجه من لا يؤمن بنظرية ( أنا ربكم الأعلى ) وquot; تحجيم العقل بالعقال quot; من باب فرض عين.. وإلا فانفصال الأجزاء أوجب وأضمن لتجنيب المآسي والكوارث التي تقضي على الدنيا والدين، وأفضل من إلصاقٍ والتحام ظاهرهُ وحدة وباطنهُ إنفصام وخصام مبين.
( فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ).!
مع تقديري للأستاذ عزيز الحاج.

عزيز الحاج: تداعيات عام

محسن جوامير
كاتب كوردستاني
[email protected]