لكل شىء تاريخ صلاحية. الدول والهيئات والأحزاب والشعوب والضحايا أيضا لهم تاريخ صلاحية. حتى الإجرام له تاريخ صلاحية من بعده تسقط الدعاوى بالتقادم. تاريخ الصلاحية هذا ليس قدرا محتوما ولكنه بيان يحدده الضحايا أو أولياء دمهم يتمتع بالقبول العام. مثلا ضحايا المحرقة النازية بعضهم لم يفقد تاريخ صلاحيته كما اليهود ولكن بعضهم الآخر فقد تاريخ صلاحيتهم كضحايا كما الغجر والمعوقين الألمان ذاتهم وقد كانوا قتلوا جميعا صحبة. الفارق أن اليهود قاموا بتحديد ممتد لتاريخ صلاحية ضحاياهم ولا زالوا يمددون لذلك التاريخ بين الفينة والأخرى، بينما غيرهم يبدو وأن المسألة لم تعد تهمه فسقطت بالتقادم.
الضحايا الفلسطينيون فقدوا أيضا تاريخ صلاحيتهم كضحايا لعدة أسباب. أول تلك الأسباب هو شيوع دمهم وتفرقه بين ndash; القبائل-، فلا يعرف للفلسطينى الضحية ظالما بعينه على سبيل الحصر. هل ظلمة الفلسطينيين هم الإسرائيليون فقط، أم يشترك معهم حكام العرب الذين شجعوهم على الهجرة لدول عربية بعينها وليس حتى لغزة والضفة الغربية. وهل ظلم لفلسطينيون لأنهم تعربوا ومن ثم فالقول بأنهم خارج وطنهم فلسطين هو قول فيه نظر طالما أنهم عرب ومحاطون ومقيمون بدول عربية! أم لعل ظلمة الفلسطينيين هم قادة الفلسطينيين أنفسهم الذين دائما ما يلهثون غدا وراء ما يرفضون اليوم.
لقد رفض الفلسطينيون قرار الأمم المتحدة بالتقسيم ثم طالبوا به. كانت أراضى غزة والضفة الغربية بكاملها بين أيديهم ومن ضمنها القدس لكنها لم ترضهم فلم يقيموا دولتهم بتلك الأراضى التى صارت الآن منتهى آمالهم. آخر القرص الكبرى كانت إتفاقيات كامب ديفيد التى رفض عرفات فيها عرض إيهود باراك بالإنسحاب من غزة والقسم الأكبر من الضفة مع تعويض الفاقد من الأرض فلم يرض ذلك الشعب الفلسطينى الذى إستقبل عرفات من بعد عودته ورفضه ذلك العرض إستقبال الأبطال. فهل يصح القول بأن الفلسطينيين هم أيضا وعلى وجه ما قد ظلموا أنفسهم؟
دعاية الفلسطينيين أيضا لضحاياهم مسألة فيها نظر. يصر الفلسطينيون أيضا أنهم هجروا من أراضيهم قسرا، بينما تظهرهم الوثائق والمشاهد الموثقة وهم يعبرون بالآلاف جسر الأردن تطوعا من بعد حرب الأيام الستة. كذلك يلصق الفلسطينيون وصف مذبحة وإن لم يكن سلوك الإسرائيليين يتسم فعلا بذلك الوصف. مثال ذلك ما يطلق عليه مذبحة جنين وهو الغزو الإسرائيلى لمخيم جنين والذى أسفر عن مقتل إثنين وخمسون فلسطينيا بينهم أربعة وثلاثين مقاتلا من الجهاد وحماس، ووصف ذلك بالمذبحة هو وصف مبالغ فيه لم يبتلعه المجتمع الدولى. فلم تلجأ إسرائيل لقصف مخيم جنين بالطائرات أو بالمدفعية بل تكبدت أكثر من عشرة قتلى من جنودها فى قتال أرضى مع المسلحين. وبالطبع لا نغفل أيضا ما إرتكبته حماس فى إحدى مظاهراتها المسلحة العام الماضى عندما إنفجرت عربة بها قنابل فقتلت عشرين فلسطينيا وحاولت حماس الكذب بإدعاء أن إسرائيل قد أطلقت صاروخا تسبب فى تلك المأساة مما نال من مصداقية الفلسطينيين فى أى حديث عن مسؤلية إسرائيل حتى لو كان صحيحا.
أيضا الحكام العرب لهم إصبع فاعل فى مأساة الفلسطينيين. لقد شجع حكام العرب الفلسطينيين على رفع سقف آمالهم وتوقعاتهم الغير مستندة الى أى معطيات. لم يبخل الحكام العرب على الفلسطينيين بالخطب الحماسية وبمساعدات مالية بالكاد تبقيهم على قيد الحياة فلا تفنى الغنم ولا يموت الذئب، وتظل القضية أساس شرعية إنقلاباتهم وبقائهم على سدة الحكم فى بلادهم وتوريثه حتى ولو لم يكن بين إسرائيل وبين دولهم أى حدود أو إتصال. إن القول بأن قضية فلسطين هى قضية عربية قد أضر بالفلسطينيين أشد الأضرار، ووصفها الحالى بأنها قضية إسلامية يرشح لوأدها نهائيا، فهم عندئذ لن يكونوا شعب بلا أرض، فإن كانوا عرب فأرض العرب واسعة وإن كانوا مسلمين فأرض الإسلام أوسع وأعرض.
الضحايا الفلسطينيون ليسوا هم من يعيش داخل غزة والضفة، ولا هم من يعيشون فى الشتات فى بلاد الغرب. الضحايا الحقيقيون هم من يعيشون كالموتى فى بلاد العرب. هم من يعيشون فى لبنان وسوريا بالذات، فليس لهم حقوق البشر، ولا هم فى مجتمع يتقبلهم حتى كلاجئين لهم حق العمل والتملك. وبالتالى ليس لدى أى منهم أى أمل فى حياة أفضل. وهؤلاء الضحايا هم من لا بواكى لهم، فلم نسمع عنهم وعن مآسيهم بقدر ما نسمع عن مشاحنات السلطة وحماس، والإنتخابات التشريعية الفلسطينية، وزعرنة المسلحين داخل غزة والضفة، والعمليات الإنتحارية وعمليات الإنتقام الإسرائيلى. أما هؤلاء الصحايا الحقيقيين فيبدو أن تاريخ صلاحيتهم هم أيضا فى سبيله الى الإنقضاء، ليعيشوا كالمهمشين- أو البدون بمعنى أصح- فى الدول العربية... وهؤلاء هم مصدر الخطر الإرهابى القادم فاستعدوا...


عادل حزين
نيويورك
adel.hazeen @gmail.com