في مجتمعنا فئتان تتجاذبان الناس بمختلف أعمارهم هما : فئة شيخ الدين، وفئة شيخ القبيلة.حيث يتجه المناصرون لفكرة أن تكون القيادة في يد رجل الدين داخل المجتمع القبلي، إلى إضفاء نوع القداسة على كل تصرف يقوم به رجل الدين من أجل البرهنة على أنهم على حق في إتباع رجل الدين حتى وان كان الأمر سياسيا أو اقتصاديا أو معرفيا و خارج عن قدرات واختصاص رجل الدين.ويتجه أتباع شيخ القبيلة إلى الشيخ نفسه كي يقوم بدور القيادة مهما كان شيخ القبيلة أميا و جاهلا، و لا يملك مقومات القيادة. وكل من الأتباع لتلك الفئتين يظلمون شيخ الدين وشيخ القبيلة عندما يحملانهما فوق طاقتهما ويقحمانهما في كل القضايا التي تعتبر من اختصاص أهل العلم والمعرفة والسياسة. لكنه بسبب التقدم الحضاري خلال العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين وكنتيجة لعراك العقود الماضية، فإنه قد حدث الكثير من التطور في تفكير الإنسان المشبع بقيم القبيلة وتقاليد رجال الدين.حيث تم فرز الاختلاط الذي امتزج بين فكر رجل الدين وفكر شيخ القبيلة بعد أن كان الناس يعتقدون أن ما يقوله رجل الدين هو الدين quot;ذاتهquot; في الوقت الذي كان رجل الدين يخلط فكر القبيلة مع ثقافته التي تعتبر حصيلته المعرفية لسنوات علمه ومعرفته وخبرته والتي قد لاتتجاوز حدود معرفة القرية وتقاليد العشيرة وعلوم المدرسة التقليدية التي لاترقى إلى مستوى المدرسة الحديثة بكل تطوراتها العلمية والتكنولوجية. وبعد أن كان شيخ القبيلة يمثل الكاريزما الذي يعتقد فيه أبناء القبيلة كمنقذ لا يشق لها غبار. وكنتيجة لذلك الفرز لما تم اختلاطه بين شيخ الدين وشيخ القبيلة، حدث نوع من الانفصال بين شيخ الدين وشيخ القبيلة أدى إلى انفصام بينهما جعل كل منهما أضعف في نظر الأتباع أكثر من أي وقت مضى، علما أن الأتباع يكونون في معظم الأحيان أتباع لكل من شيخ الدين وشيخ القبيلة في نفس الوقت، خاصة وسط المجتمع القبلي الذي يخشى الإنسان فيه أن يكون بلا قدوة يتبعها أو قائد يسير خلفه. وبسبب ذلك الانفصام بين شيخ القبيلة وشيخ الدين دخل الأتباع بين الفريقين لممارسة تصفية الحسابات القبلية القديمة مما جعل أتباع شيخ الدين ينصبون أنفسهم كمتحدثين رسميين باسم شيخ الدين لمحاربة شيخ القبيلة ومناصريه، فقال أولئك الأتباع مالم يقله شيخ الدين وأفتوا بما لم تفتي به الشريعة، في الوقت الذي انسحب أتباع شيخ القبيلة إلى حصونهم كمدافعين عن شخصيتهم التي بدأت تذوب بفعل التقدم الحضاري وهجوم أتباع شيوخ الدين. وذلك التصادم يعتبر نتيجة حتمية منطقية لعلاقة بنيت على مبدأ المصلحة الضيق وليس بناء على مبادئ أخلاقية محورها مصلحة الإنسان وحريته وكرامته. وكل علاقة سلطوية تنطلق من مبدأ مصلحي ضيق لابد أن تنهار، وكل فريقين متحالفين ضد حقوق الآخر وحريته لا بد أن يتقاسما النزاع والشقاق مثلما كانا يتقاسما السلطة والمال والاستبداد.

هذا التصادم بين شيخ الدين وشيخ القبيلة منح الفرصة لخروج فئة ثالثة تختلف في تفكيرها عن فكر الفئتين اللتين بدأتا تضعفان بفعل الصراع بينهما ونتيجة التغيير في فكر الإنسان الذي بدأ يخرج من فكر القبيلة المتلبس بعباءة الدين وقيم وعادات القبيلة إلى فكر العصر المتعولم المستند إلى الفكر الليبرالي القادم عبر الثورة الفضائية والاتصالات الرقمية، حتى أصبح البدوي لبراليا، والمتشدد الديني ليبراليا، دون أن يدرك أي منهما أنه ليبرالي بلغة بدوية أو بعباءة شيخ الدين المتشدد.

الفئة الثالثة : التي تتأهب لدخول حلبة الصراع مع الفئتين هي فئة بلا قدسية دينية أو قبلية تسمى فئة المثقفين، وهي تحمل فكرا معرفيا وثقافيا تتميز به على فكر شيخ الدين المتشدد وعلى فكر شيخ القبيلة المتأخر. كما أنه فكر لا يقفز فوق الثوابت الدينية بقدر ما ينطلق من جوهرها وليس من السطح الذي يعتليه كل متشدد لا يعكس حقيقة الدين بقدر ما يريد السلطة أو المال عن طريق الدين. وفكر المثقفين فكر لا يلغي تاريخ شيخ القبيلة ولا قيم القبيلة الأصيلة، لكنه يتجاوز الدور إلى فكر القيادة الجمعي المنبثق من عقل جمعي ينظر للمستقبل برؤية أبعد من أحادية النظرة عند شيخ الدين وأحادية المصلحة والسيطرة عند شيخ القبيلة.وهذه الفئة المنبثقة من وسط الفئتين، تحمل في جينها الجديد صفة وراثية لكل من جين الفئتين اللتين أفرزتا بفعل التاريخ والحراك الثقافي والحضاري مولودا جديدا يملك جينا مكونا من مواصفات قيم الدين والقبيلة المطورة بفكر الحضارة العالمية الجديدة يستطيع أن يكون كائنا مميزا متى ما نما في جو صحي يدرك أن الدين ليس بالضرورة ما يقوله شيخ الدين، وأن القيم القبلية المتوارثة الجيدة ليست بالضرورة لا تطبق سوى في عهد شيخ القبيلة، وأن الحضارة فرصة تاريخية ينضم الإنسان إلى عالمها كلما بدأ يؤمن في قيمها التي تحل بدل القيم العرفية المتوارثة مع بقاء الجميل من القيم المتوارثة كعنصر من عناصر القيم الحضارية ولكن بشكل أكثر تقنية وأرقى ممارسة وأسرع أداء بما يتناسب ورتم الحضارة الحديثة.

ونجاح الفئة الثالثة سوف يدعمه الانخراط الكبير من قبل الشباب المثقف الذين سوف يجدون من يحتضن فكرهم ويمنحهم الأمان بعد أن كانوا ضائعين بوعيهم المغيب بين سلطتي شيخ الدين وشيخ القبيلة، وسوف يعيدون الوجه الأجمل لقيم الدين وقيم القبيلة التي تم تشويهها بسبب الصراع وحب التسلط، ليكتشفوا أن الدين سلوك وعبادة لله وحد فقط، وان القبيلة لم تكن سوى الدولة العرفية التي احتوت الناس قبل دولة القانون والحضارة، وسوف يدركون أن التعامل مع الحياة بأسلوب عرفي يمنع الإنسان العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص من دخول نادي الحضارة الجديد، وهذا يؤدي إلى الانقراض بسبب التشبث بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل.

وسوف يتخرج لا حقا من مدرسة المثقفين رجل الدين الذي يرتقي بفكره ووعيه حتى ينعكس ذلك على سلوكه وعباداته ولن يبقى بيننا رجل دين يدعي احتكار الحقيقة وامتلاك صكوك الجنة. لأن المثقف الحقيقي يدرك بعقله أن المعرفة بحر واسع، وان ما يملكه رجل الدين السوي ليس إلا جزءا يسيرا من لآلي البحر العميق، ومن يدعي انه قد بلغ أعماق البحر فقد كفر بالبحر وبخالقه.كما انه سوف يتخرج من مدرسة المثقفين ابن شيخ القبيلة الذي يعرف أن العقل قد أصبح شيخ العصر ومن أراد أن يكون شيخا فليكن له عقل يفكر ! لكن ما يهدد نجاح الرؤية الثالثة عند المثقفين في الخليج العربي ذي الصبغة البدوية، أن بعض المثقفين يعتقد أن الدور الجديد للمثقف الخليجي يجب أن يتم تحت قيادة شيخ القبيلة ورؤية رجل الدين، وهذا بحد ذاته خطر يهدد الجميع عندما يتم إقحام شيخ الدين في أمور لا تنتمي إلى عزلة تأمله، ويتم إقحام شيخ القبيلة في عالم لم يعد فيه من ملامح القبيلة سوى بعض عاداتها التي توشك على الانقراض.لكن انقراض عادات القبيلة لا يعني أن المثقف الخليجي قد هجر عاداته الأصيلة، وإنما تعني أنه قد طورها لتتواكب مع جلسة الصوالين الجديدة، وخدمات الهاتف النقال، ومسابح المنازل الخاصة وسط الحدائق التي لا تتناسب وولائم القبيلة القديمة.

والحل الأمثل : أن يدرك المثقف الخليجي، أن لتاريخ شيخ القبيلة مقاما يجب أن يحترم، بشرط أن يظل ذلك المقام يمارس دوره القديم مع ما تبقى من هموم القبيلة دون أن يتم إقحامه في أدوار أكبر من حجمه وأبعد مسافة من ميدانه القديم الذي لا يتعدى مساحة القبيلة. مثلما يجب أن يكون لشيخ الدين احترامه عندما يكون ذلك الرجل التقي الذي لا يطمح للوصول إلى كرسي السلطة ولا إلى أرصدة المال المغرية.

ومن رحم رؤية المثقف تنبثق الرؤى لرجل السياسة، ويولد القادة الذين يسيرون بالشعوب على دروب المستقبل برؤى واضحة وقدرات فاعلة ووعي أقدر على سبر أغوار الطرق وكسر الحواجز وقفز الموانع دون النظر إلى الخلف أو الخوف من المستقبل.

في العالم العربي يجب أن يعلم الناس انه انتهى زمن القائد الواحد وبدأ عصر القيادة الجماعية، علما أن ذلك العصر قد بدأ عند الشعوب المتحضرة منذ عدة قرون.وبنهاية عصر الحاكم الفرد وشيخ القبيلة وسلطوية رجل الدين، يكون عصر الاستبداد قد انتهى ولم يعد هناك مجال لعصر ( السيد.. و.. الطاغية ).وعلى الذين لا تزال دماؤهم ملوثة بفيروس عبودية الاستبداد وخنوع الذل أن يذهبوا إلى أقرب شعب حر، كي يتعلموا كيفية الاعتزاز بحرية الفكر والنفس والقرار، وسط مجتمع ليس فيه مكان لمستبد أيا كان ذلك المستبد، أبا، أو أستاذا، أو شيخ دين أوشيخ قبيلة، أو حاكم أوحد، ليتطهروا من رجس العبودية ويلبسوا ثياب الأحرار في زمن يتسابق فيه الشرفاء للفوز بهويته التي تميز الحر عن العبد والشريف عن الحقير دون ميزة لأحد سوى بما يملك من عزة وكرامة تجعله في صف الإنسان المتجرد من بغضاءه وعنصريته وخنوعه.

وليعلم المثقف الخليجي أنه حان الوقت وابتسم العصر لبروز فئة المثقفين الذين يتسلحون بسلاح العلم والمعرفة لبناء إنسان خليجي حر ومتحضر ولبناء أوطان متطورة مستغلين تلك الطفرات المالية الهائلة التي تنعم بها بلدانهم نتيجة الثروات المخزونة في أرضهم بفضل الله الذي منحهم الثروات وبفضل العالم الحر المتمدن الذي اكتشف لهم تلك الثروات وطورها واشتراها منهم. وليتقدم المثقف الخليجي الصفوف ليقود الشعوب الخليجية نحو التفاعل مع الحضارات ومع الشعوب المتحضرة وليكن المثقف عونا لدولته يحثها على بذل المزيد من الاستثمار في الإنسان والمكان ولبناء المزيد من الجامعات والمستشفيات والطرق داخل الأوطان الخليجية التي تحتاج إلى كل دولار واحد يجب أن يتم إنفاقه لدعم رفاهية الشعوب الخليجية، ويجب أن يتم محاسبة كل من يحاول تبديد ذلك المال في غير محله، لأن الزمن لن يرحمنا حين نخفق متعمدين، والفرص التاريخية لا تتكرر، وتكرار الأخطاء جريمة لا تغتفر، حيث لامجال لإنفاق المال لدعم مدرسة في باكستان أو أفغانستان لتخريج المزيد من الكارهين للحياة بدلا من إنفاق ذلك المال على مدرسة متطورة تقوم بتخريج العلماء والمبدعين الذين يعشقون العلم والحضارة. وليتم توجيه الإنسان الخليجي لمراقبة واقعه ومنجزاته والمسئولين على شئونه، والتفكير قي مستقبل أبناءه، بدلا من إشغاله بهموم القبيلة وخرافات الاختلافات، وخزعبلات الوصوليين الذين يقومون بأدوار متبادلة كي يشغلونه عن الاهتمامات والاستحقاقات الحقيقية، لتظل الساحة خالية للذين لا يشبعون من مال أو من سلطة حتى وان كان المال حراما والسلطة جائرة !

هذا هو عصر المثقف الخليجي.. وعليه أن ينطلق بثوابته التي تعترف بقيمة الإنسان وحقوقه وحريته وتحترم كرامة الآدمي أيا كان نوعه أو جنسه أو دينه، لأن الثوابت التي لا تحترم حق الانسان في العيش بكرامة وحرية هي ثوابت لا تستحق الاحترام ولن يكتب لها البقاء في حضارة القرن الواحد والعشرين التي تتميز عن كل الحضارات بعولمتها لحقوق الانسان وجغرافيته في أعظم ثورة انسانية يشهدها التاريخ البشري. ولنبدأ باسم الله وعلى دربه نسير إلى صروح النور والعلم والحضارة !!

سالم اليامي

[email protected]