يظن كثرة الأعراب* أن الديمقراطية تبدأ وتنتهى بصندوق الإنتخابات. ويقع الكثير من الليبراليين فى الفخ عندما يقولون أنه يجب إحترام ما قررته الغالبية من الشعب، وهم يعنون الغالبية ممن صوتوا لصالح حزب ما أو قرار ما، بغض النظر عن النتائج طالما أن الغالبية حسب صندوق الإنتخابات هى التى إنتخبت أو قررت، وحتى لو قرر صاحب الأغلبية المنتخب ثقب السفينة التى تحمل الجميع. ويأخذ العمى الحيثى بعض الليبراليين إلى نقد التجربة الجزائرية فى إلغاء الإنتخابات التى كادت تفرز أصحاب أيديولوجية شوفينية لتولى الحكم فى الجزائر، ويلقون بمسؤلية مائة وخمسين ألف ذبيح جزائرى على عاتق من ألغى الإنتخابات ولا يلقونها على عاتق من ذبح فعلا ويعلم الله كم كان عدد المذبوحين لو لم تلغ تلك الإنتخابات.
أيضا يظن الأعراب أن حق صاحب الأغلبية مطلق فى إتخاذ أى قرار وبدون أى إعتبار للاقلية. بل أن أحد الكتاب المشهورين المحسوبين على تيار الجماعة المصرية التى يقال أنها محظورة رأى أن من حق الأغلبية تهميش أقلية دينية وإلزامهم بشريعة تلك الإغلبية وأن ذلك التهميش من الأكثرية للأقلية هو ديمقراطية. وحتى لو كانت الإنتخابات مستوفية للمعايير العالمية التى تجعل نتائجها تعبيرا عن غالبية المصوتين فهناك حدود لسلطة صاحب القرار المنتخب.
مضطر للتمثيل بالنموذج الأمريكى، وسبب الإضطرار أنه رغم معرفتى بكراهية الأعراب لكل ما يأتى من بلاد العم سام إلا أننى مقيد بمعارفى، وعزائى أن مصطلح ديمقراطية هو مصطلح غربى فى الأساس، ويجب علينا عندما نستعمله أو نمارسه أن نضبطه كما ضبطه الذين أوجدوه واستعملوه وطوروا مفهومه.
الذى يضبط مفهوم الديمقراطية فى المجتمع الأمريكى هو الدستور الفيدرالى والمحكمة الأمريكية العليا. والدستور الأمريكى قانون مستقر منذ عام 1789، وتعديل الدستور له إجراءات معقدة جدا تشترط نسبة تصويت خاصة من البرلمان الأمريكى ثم نسبة تصويت خاصة من الشعب الأمريكى مع نسبة حضور خاصة أيضا من الأصوات الإنتخابية، فلا عجب أن ناله ثلاثة تعديلات جذرية فقط لا غير منذ ذلك التاريخ الذى نفذ فيه. أما المحكمة الأمريكية العليا فهى دائرة واحدة من تسعة قضاة تتمتع بإستقلال حقيقى، وأعضاؤها معينون لمدة حياتهم أو إستقالتهم طوعا.
وفى أمريكا فصل حقيقى بين السلطة التنفيذية التى يمثلها ويمارسها الرئيس وبين السلطة التشريعية وهى أعضاء البرلمان وهاتين السلطتين منتخبتين، وبينهما وبين السلطة القضائية المعينة كما أوضحنا وهى المختصة بتفسير ومراقبة القوانين والقرارات التى تصدرها السلطات الأخرى. وقد إستنت المحكمة العليا منهاجا تراقب من خلاله القوانين والقرارات ومن ضمنها تلك التى تمس الأقليات بوجه خاص.
ترى المحكمة الأمريكية العليا أن أى قرار أو قانون ينبغى أولا وبداهة أن يكون من صلاحيات من أصدره حسب الدستور، ثم إن إستوفى ذلك الشرط فإنه يخضع لثلاثة معايير للمراقبة. المعيار الأول هو القرار أو القانون العام الذى يسرى على الكافة فيجب أن يكون ذو صلة وله فائدة فى معالجة المشكلة التى يحكمها. والمعيار الثانى إن كان ماسا بحقوق عامة الشعب فيجب أن يكون ضرورى وتكون صياغته على قدر الفائدة المرجوة من إصداره. أما المعيار الثالث فيطبق إن كان القرار أو القانون ماسا بالأقليات وهو ما يهمنا فى هذه العجالة، فتعتبر المحكمة العليا أى قرار أو قانون ماس بالأقليات مشتبه به. وتتعامل المحكمة مع قرار أو قانون كهذا بمنتهى الشك والحذر فتشترط عندئذ أن يكون القانون ضرورى جدا ومصاغ صياغة دقيقة وضيقة جدا حتى لا يطبق إلا فى أضيق الحدود.
وتدق أحيانا التفرقة بين القوانين والقرارات فيما إذا كانت عامة أم ماسة بحقوق الأقليات، ويكفى مثالا على هذا أن منظمة تعنى بشؤون السود قد تشكت من قانون ينظم إمتحانات الإلتحاق بجهاز الشرطة فى العاصمة واشنطن، ليس لعيب فى القانون ذاته ولكن لأن تطبيقه أسفر عن قلة نسبة رجال الشرطة السود عن البيض! لم تأخذ المحكمة العليا بهذا النظر إذ تبين لها أن إختبارات القبول عامة مجردة، كما وأن درجات نجاح السود أقل من الدرجات المفروضة على البيض، ومن ثم فالتمييز هنا إيجابى لصالح السود، وان إحصائيات عدد رجال الشرطة لا تصلح وحدها لوصم قانون على أنه تمييزى.
يوجد أيضا معيار أهم للحفاظ على حقوق الأقليات فى المجتمع الأمريكى. ذلك المعيار هو رقى ضمير الشعب الأمريكى ذاته. ذلك الضمير الذى أدى بجورج واشنطن بطل التحرير وأحد الأباء المؤسسين للجمهورية الأمريكية إلى تقبل تجديد رئاسته فترة ثانية على مضض حقيقى، وفقط نزولا على تصويت جماعى حقيقى من المجمع الإنتخابى. ذلك الضمير الذى أدى إلى أن نشطاء محاربة التمييز ضد السود كانوا فى أكثرهم من البيض. ذلك الضمير الذى إستن قانونا خاصا لمحاربة الكراهية حماية للمسلمين شيوخهم ومحجباتهم ومساجدهم من بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر. ذلك الضمير الذى أدى بطلاب الجامعات إلى حماية زملائهم المسلمين أثناء صلاتهم علانية فى الجامعات الأمريكية مباشرة بعد تلك الأحداث.

عادل حزين
نيويورك
[email protected]