1990-2003
بعد أن حقق صدام حسين هدفه في إشغال العراقيين لسنتين أعقبت الحرب الكارثية ضد إيران بمسألة سن الدستور وإطلاق الحريات السياسية للأحزاب في محاولة منه لإمتصاص نقمة الجماهير على نظامه الذي خرج بذلك الحجم الكبير من التضحيات من أجل لا شيء،عاد الى إختلاق سلسلة أخرى من الأزمات مع دول الأقليم والمجتمع الدولي لإشغال الشعب العراقي لفترة أخرى وصرف أنظاره عن وضعه الداخلي الكارثي والمأزوم.فقد إفتعل صدام مشكلة مع الغرب باتهام الصحفي الإيراني الأصل فرزاد بازوفت بالتجسس لصالح المخابرات الغربية، وألصق به تهمة تصوير بعض المنشآت العسكرية الحساسة مع أن العالم رغم علمه بإمتلاك صدام لترسانة كبيرة من أسلحة الدمار الشامل،الكيمياوية التي إستخدمها ضد الأكراد،و الأسلحة الجرثومية التي كانت تنتج في مصانع التصنيع العسكري على قدم وساق، لم يكن العالم مهتما بتلك الأسلحة التدميرية، ولم تكن هناك حاجة لإرسال جاسوس متخف وراء هوية صحفية لتصوير منطقة عسكرية حساسة،لأن طائرات التجسس المتطورة كانت تحوم فوق سماء العراق وترصد كل حركة داخل تلك المنشآت(الحساسة)!.
بعد إنتهاء الضجة الإعلامية حول هذا الموضوع، عاد لإختلاق مشكلة أخرى حول المدفع العملاق وصاعقه، وتبجح وسط الأضواء الإعلامية بقدرة تصنيعه العسكري على صنع ذلك ( الصاعق) الذي كان من إنتاج دولة أوروبية أظهرها أمام الكاميرات زورا وبهتانا. ثم بدأ يثير أزمة حادة مع دول الخليج وتحديدا مع الكويت والإمارات حول أسعار النفط وما اعتبره تآمرا من الكويت على العراق. في هذه القضية نحن لا نملك المعلومات الكافية حول خلفيات تلك الأزمة من مصادر إستخبارية صادقة كما البعض، ولكننا نرى أن التحليلات والتكهنات التي راجت في تلك الفترة حول أسباب الأزمة وتصويرها من قبل بعض المحللين والسياسيين بأنه كانت هناك خطط مسبقة لتوريط صدام في حرب الكويت،نرى أن تلك التحليلات قد ذهبت بعيدا جدا في إرجاع غزو الكويت الى خطط معدة منذ عدة سنوات سبقت الأزمة وإشتعالها بين صدام وبين عدد من حكام الخليج،لأن من يلم بشيء من سايكولوجية صدام يدرك خطل تلك التقديرات والتكهنات،فصدام بتكوينه النفسي مستعد دائما لخوض حروب عنترية لأتفه الأسباب ومن دون أي حساب لحجم الضحايا من العراقيين ما داموا ليسوا من عائلته أو عشيرته أو أركان نظامه الى حد ما،وصدام الذي أقام حكمه الدكتاتوري على أنهار من دماء العراقيين،كانت قراراته السياسية قرارات صدام كانت دائما إنفعالية تخضع لسلوكه الشخصي المنحرف من دون أي إستشارة بأحد،وقد تكون هناك أسباب تافهة جدا لعملية الغزو وجر العراق الى أتوةن حرب مدمرة، ونعتقد أن سلوك صدام في الحكم يتعارض مع تلك التحليلات التي ربطت غزو الكويت بتسهيل سيطرة الولايات المتحدة على دول الخليج،فنحن لا ندري هل كانت أمريكا بحاجة الى تلك العملية لبسط هيمنتها على نفط الخليج التي ترتبط معظم دوله بمعاهدات وإتفاقات سياسية وإقتصادية وعسكرية مع الولايات المتحدة.
يشرف جبل (أزمر) على مدينة السليمانية في كردستان العراق،ويتميز هذا الجبل بإختلاف درجة الحرارة على قمته عن مركز المدينة، حيث يشعر المرء بوجود فرقا يتجاوز في بعض المرات حدود خمس درجات في فصل الصيف عن المدينة التي لا تبعد سوى كيلومتيرين عنه،وإعتاد أهل المدينة على صعود قمته في الأماسي لقضاء بعض السويعات عليها والنظر من هناك الى منظر مدينتهم الجميلة بأضوائها المتلألئة..وكنا ثلاثا فوق قمة ذلك الجبل يوم 2 آب نحتسي الشراب ونمتع النظر في منظر السليمانية التي تسحر الألباب، وكان معنا جهاز راديو أدرته على صوت أمريكا للأستماع الى نشرتها المسائية، وإذا بالمذيع يعلن عن غزو العراق للكويت، فقلت لأصحابيquot; إنهضوا الآن لنعد، فقد قامت القيامة؟ zwj;zwj;فتعجبوا من قولي وإستفهموني عن القصد، فقلت لهمquot;إن حربا عالمية ستقع على العراق!. وحدث ما توقعت فقد حشدت 33 دولة جيوشها الجرارة بأسلحتها الفتاكة لمواجهة الغزو.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، هل كان صدام يتوقع أن تجيش دول العالم كل تلك القوات العسكرية لمواجهة الغزو؟. والجواب على من يفهم سيكولوجية صدام مرة أخرى هوquot; لا لم يكن صدام يتوقع ذلك الرد العنيف من المجتمع الدولي،لأن صداما الذي حكم العراق بالحديد والنار عن طريق عصابة مجرمة، لم يكن يستشير أحدا من أعضاء قيادته أو أصدقائه من الحكام العرب،وأشك تماما أن يكون قد إستشار أحدا حتى من قادته العسكريين عندما أمر قواته بالزحف على الكويت،فكان القرار إنفعاليا كالعادة من دون أي حساب للعواقب الوخيمة التي ترتبت على مسح دولة عضو في الأمم المتحدة على الخارطة. لقد كان صدام الذي إعتاد على سكوت العراقيين وهم معروفون بقسوتهم وصلابتهم عن حكمه الدموي كلما ضغط عليهم أكثر، تصور في لحظة غباء سياسي أن مجرد إعلانه عن إمتلاك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل سيخيف دول العالم ويدفعها الى السكوت عن إبتلاع دولة مجاورة. نعم هكذا تصور صدام بخياله المريض، ولكن المجتمع الدولي لم يسكت بل هب لنجدة الكويت وكانت الحرب الثانية التي قضت تماما على البنية التحتية للدولة العراقية.
في تلك الفترة نشأت في العراق طبقة من أثرياء الحرب قوامها ضباط في الجيش العراقي ومسؤولون في أجهزة الأمن والمخابرات، وذلك جراء مشاركتهم في عمليات النهب والسلب التي طاولت دولة الكويت على أوسع نطاق،ويمكن إعتبار تلك العمليات إمتدادا لعمليات الأنفال التي طاولت الأكراد ما بعد منتصف الثمانينات، وأعتقد أن للكويت الحق في المشاركة بالمحاكمة المنتظرة للطاغية صدام وأعوانه عن قضية الأنفال التي أقامها الأكراد ضدهم، لأن آخر صفحة من تلك الحملات الوحشية طاولت الكويت الدولة.
كانت الزمرة الحاكمة في بغداد تنهب كل شيء من الكويت،وتم تحديث جميع أثاث دوائر الدولة من الأثاث المسروق من الكويت،بل أن رئيس لنقابة العمال في مدينة أربيل أراد أن يغير طقم مكتبه وكتب بذلك خطابا رسميا الى مرجعه في بغداد لإستحصال موافقته على شرائها من الأسواق، فتلقى الرد بالذهاب الى الكويت لإختيار الطقم الذي يعجبه من أحدى دوائر الدولة هناك ونقلها لمكتبه في أربيل، وكأن الكويت كانت مخزنا خلفيا لتجهيز الدوائر الحكومية والحزبية في العراق بالأثاث.
إن تفاصيل الهجمات التي شنتها قوات التحالف ضد الجيش العراقي لإخراجه من الكويت وتداعيات الحرب الكارثية الثانية التي إفتعلها صدام معروفة وموثقة في مئات الكتب وآلاف المقالات، لا نرى حاجة للخوض فيها لضيق المساحة.
ولكن مع إنتهاء الحرب بهزيمة منكرة لقوات صدام، إستغل العراقيون تلك الفرصة النادرة، بعد أن دمرت تشكيلات كبيرة للجيش العراقي عن بكرة أبيها،فاشتد غضبهم على النظام المهزوم الذي جر الويلات على العراق، فقاموا بتفجير أحد أهم إنتفاضاتهم الجماهيرية العارمة التي إمتدت بلهيبها لتشمل 15 من 18 محافظة عراقية.وكانت الإنتفاضة تعبيرا واضحا عن رفض العراقيين للسلطة الدكتاتورية فتجاوب الشعب مع المنتفضين، فتحررت جميع تلك المحافظات بفترة قياسية غير متوقعة. ولكن مع النجاح الباهر للإنتفاضة والإلتفاف الجماهيري الواسع حولها،أرتكبت القوى العراقية المعارضة بعض الأخطاء القاتلة برفعها شعارات ثورية أرعبت دول العالم من مغبة السكوت عن الأوضاع الفوضوية التي عمت البلاد، فأتاحت الولايات المتحدة فرصة أخرى لصدام لقمع الإنتفاضة بقوة الحديد والنار، فنفذت قواته مجازر رهيبة في العديد من المدن العراقية التي شهدت إنتهاكات للأعراض والمقدسات وأكملت تلك القوات تدمير ما تبقى منها في حرب الخليج الثانية.
وفي كردستان تشرد أكثر من مليوني مواطن كردي الى الحدود الدولية مع كل من إيران وتركيا فوقعت كارثة إنسانية دفعت بالولايات المتحدة الى إقامة مناطق آمنة باقتراح من بريطانيا لإعادة الشعب الهائم على وجهه في الجبال الكردستانية، و صدر قرار من مجلس الأمن الدولي برقم 688 يدعو الى وقف تلك المجازر والدخول في مفاوضات مع القيادات الكرية لحل المشكلة الكردية.فدخل الأكراد في مفاوضات جديدة مع صدام، ولكنم كالعادة لم يتعضوا من تجاربهم السابقة كع صدام ونظامه الدكتاتوري،فقد ماطل صدام كالعادة ريثما يستعيد قوته،وتنصل كالعادة من إلتزاماته تجاه الحركة الكردية، وكالعادة إنتشلت القيادة الكردية نظام صدام من أزمة خانقة كادت أن تودي به لولا دخولها الى مفاوضات سياسية معه، وإنخدع الأكراد مرة أخرى بوعود صدام وخرجوا من تلك المفاوضات بخفي حنين،فكرر التاريخ نفسه للمرة الألف بين الأكراد ودولة صدام حسين.
بعد إعلان فشل المفاوضات في التوصل الى حلول للقضية الكردية سحب صدام أجهزة الدولة الرسمية من كردستان التي كانت محرمة على قواته الإقتراب منها تحت ضغط دولي لعدم إثارة مشكلة إنسانية أخرى مع الأكراد،لكنه فرض حصارا اقتصاديا مزدوجا على المنطقة،فالى جانب الحصار الدولي،فرض صدام حصارا داخليا شديد القسوة وصل الى حد إيقاف صرف رواتب الموظفين الحكوميين في المنطقة وحرمانها من كافة مواردها، فعاش الأكراد أحد أحلك أيامهم في ظل حصارين ظالمين جوعا الشعب الكردي الى الحدود القصوى للتجويع. وشدد صدام إجراءته القاسية على الحدود مع أقليم كردستان،وسجلت السيطرات الحكومية التي أقيمت على مداخل المدن الكردية الكثير من المشاهد المأساوية من جراء فرض ذلك الحصار الداخلي الظالم، حيث منعت الأجهزة الأمنية في تلك السطرات دخول أية مواد غذائية أو محروقات الى المنطقة رغم الحاجة الشديدة اليها. وروى أحد الأشخاص مشهدا مأساويا لإمرأة كانت ذهبت الى مدينة الموصل القريبة من أربيل لجلب عشرين لترا من النفط الأبيض للتدفئة في أحد فصول الشتاء القارص في كردستان، فأخذ ضابط الأمن النفط منها وسكبها على جسدها ثم أشعل الكبريت لتحترق المرأة أمام أنظار ركاب السيارة التي كانت تستقلها.
لمواجهة الوضع المأساوي الذي حل بالمنطقة الكردية جراء خروج أجحهزة الدولة منها، أقدمت القيادة الكردية على الشروع باجراء انتخابات برلمانية وتشكيل حكومة أقليمية لأدارة شؤون المنطقة.فجرت أول انتخابات برلمانية في تاريخ الشعب الكردي بالمنطقة إنبثقت عنها أول حكومة كردية في عام 1992بعيدا عن سلطة صدام، فتحولت كردستان الى دولة داخل دولة، فيما كانت بقية المناطق العراقية ترزح مجددا تحت ظل الحكم الدكتاتوري لصدام حسين الذي أعاد تشكيل مؤسساته الأمنية والمخابراتية ليعيد بها قبضته الحديدية على ما تبقى من العراق..
أخذت التجربة الكردية طريقها للنمو بدعم دولي كبير وتمت إعادة أعمار الكثير من مناطق كردستان بجهود منظمات إغاثية وإنسانية متعددة الأطراف، وعاش الشعب الكردي في أمان وإستقرار خلال السنوات التي أعقبت حرب الكويت الى حين سقوط نظام صدام حسين، فيما عاش العراقيون في بقية مناطق العراق تحت حكمه الذي تحول في السنوات الأخيرة الى ما يشبه الحكما الثيوقراطي،بعد أن أعلن صدام حملته الإيمانية هذه المرة ليدخل المجتمع العراقي في أتون تجربة غير معتادة.
شهدت فترة التسعينات عدة أزمات بين نظام صدام حسين والمجتمع الدولي، تمحورت حول أسلحة الدمار الشامل التي كان صدام يمتلكها، فبرغم تدمير جزء كبير من تلك الأسلحة الكيمياوية والجرثومية، إلا أن صدام أخفى كميات كبيرة منها عن أنظار فرق التفتيش الدولية بغية الإبقاء على جانب من قوته التدميرية، ونعتقد أن تلك الأسلحة قد تم نقلها الى دولة مجاورة لإخفائها، وقد تكون ما تزال هناك لحد الآن رغم سقوط النظام.
كانت دولة صدام حسين تدنو شيئا فشيئا من الزوال بفعل الأزمات المتعددة التي تعاني منها في الداخل والخارج، فعلى الصعيد الداخلي كان هناك تصاعد كبير في النقمة الشعبية على النظام، يرافقه تحرك سياسي مكثف من قوى المعارضة العراقية بالتعاون مع الولايات المتحدة والعديد من الدول الأقليمية بهدف إسقاط دولة صدام حسين وإقامة البديل الديمقراطي والتعددي مكانها،وتزامنت هذه وتلك مع الضغوطات الدولية المكثفة التي كان العديد من دول العالم والمنطقة تمارسها لتسليم صدام الى الإرادة الدولية،ولكن شاء ربك أن يركب صدام رأسه ويتعامل بعنجهيته المعروفة مع تلك الضغوطات الداخلية والخارجية،فأدى سقوط تمثاله في ساحة الفردوس ببغداد في التاسع من نيسان 2003 الى إنهاء حكمه الدكتاتوري الذي طال لأكثر من 35 سنة، فانتهت بذلك دولة صدام حسين ليبدأ العراق يفتح صفحة جديدة في تاريخه السياسي المعاصر.
الى هنا نكمل هذه السلسلة من المقالات عن دولة صدام حسين.وينبغي أن نوضح الهدف الأساسي من الحديث المكرر عن هذه الدولة.فقد سمعنا في السنتين اللتين أعقبت سقوط نظام هذا الطاغية الكثير والكثير من التصريحات والتحليلات التي يطلقها بعض القومجيين العرب ومن لف لفهم من أصحاب الكوبونات النفطية الذي ملئوا فضائيات الدنيا زعيقا وصراخا حسرة على سقوط هذا النظام الدموي، وتصوير سقوطه المشين بكونه لا يستند على أسس القانون الدولي، فأردنا من خلال هذا السرد لتاريخ النظام أن نكشف الوجه الحقيقي لهذا النظام الدموي،خاصة وأننا عايشنا فترة حكم الطاغية بطولها وعرضها،لعلنا نبرر بذلك أسباب كراهية ومقت العراقيين لذلك النظام والإستماتة من أجل عدم عودة من هو على شاكلته الى حكم العراق،ونبين بالتالي أسباب تلك الرغبة الملحة للعراقيين في إسقاطه حيث كان الترحيب الشعبي لسقوط النظام كبيرا ولافتا رغم محاولة بعض الفضائيات المأجورة تصويرعكس ذلك أمام الرأي العام العالمي والعربي، مما ساعد هذا الموقف المخجل من الإعلام العربي من التغيير الهائل الذي حصل في العراق القوى الإرهابية في مقدمتها الفلول المهزومة لنظام البعث للعودة الى الساحة العراقية وتعكير أجواء الحرية والديمقراطية التي خيمت على العراق بفضل سقوط دولة صدام حسين، وهي فلول سبق أن هربت من المواجهة عندما كان نظام بغداد ينتظر من يدافع عنه ضد القوات الحليفة التي دخلت العاصمة بدبابتين فقط لتسقط بغداد بيد الإحتلال الأمريكي كتفاحة ناضجة.
إذن الهدف من هذه السلسلة هو بالأساس لكشف الوجه البشع لنظام صدام الذي أسس حكمه على جماجم ودكاء الملايين من العراقيين، لكي لا يبقى أمام من ما زالوا يدافعون عنه لحد اليوم أي حجة في التحسر على أحد أكثر الأنظمة دموية في التاريخين العربي القديم والحديث.
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

دولة صدام حسين 6

شيرزاد شيخاني

[email protected]