إن الحملات الانتخابية التي تشهدها الساحة السياسية الفلسطينية تمهيداً للانتخابات التشريعية القادمة تبرز إلى حد كبير طبيعة العقلية والنهج الممارس من قبل الفصائل الفلسطينية المشاركة إضافة إلى الشخصيات التي تشارك سواء تحت سقف قوائم انتخابية quot;غير فصائليةquot; أو بشكل مستقل. وهي تشير إلى أن هذه الفصائل أو الشخصيات لم تشكل في أغلبها عناصر قيادية إبداعية للنهوض بالمجتمع بالقدر الذي تعبر عن انقياد كامل للعقلية المجتمعية السائدة بسلبياتها. فهي تؤكد احتكامها للصورة النمطية القائمة وتثبت أنها وخلال مسيرتها لم تستطع أن تحلق بالمجتمع بفكره وممارسته السياسية وحياته اليومية إلى أفاق جديدة. وسوف نورد هنا قراءة أولية لما هي عليه الحملات الانتخابية الجارية:-

- إن الخطابات الرنانة التي تُسمع من قبل المرشحين هنا وهناك والوعود المبالغ فيها تثبت بما لا يدع مجالاً للشك الصورة النمطية للشخصية القيادية العربية بأنها ليس سوى ظاهرة صوتية فقط بمعنى أن كل ما يقال لا يشكل سوى كلام فارغ لدى الكثير من المواطنين، حيث تسمع غالباً من المستمعين عبارات quot;كله حكي بحكيquot;، quot; زهقنا أو شبعنا حكيquot;، quot; لا نأخذ منهم سوى الكلامquot;، quot;كلام الليل مدهون بزبدة إذا طلع عليه النهار ساحquot;، quot;هينا بنسمع شو عليناquot;. وهذا يبرز بوضوح فقدان الثقة بين الناخب والمرشح الذي فقد المصداقية نتيجة عدم تطابق أفعاله مع أقواله. فإذا تحدث أحد المرشحين عن محاربة الفساد فهو بالطبع يكون رأس الفساد في البلد، وألا من أين الأموال الضخمة التي ينفقها على حملته الانتخابية والتي تفوق التصور. وإذا تحدث نائب سابق عن الإصلاح فهو بلا شك جزء من الأزمة وليس جزء من الحل، وأنه قضى السنوات العشرة السابقة وهو يشكل عائقاً للإصلاح وليس أداة له. وأن كل ما أنجزه لم يزد عن توظيف زوجته وأخوته وأقاربه وأصدقائه مدراء بأصناف مختلفة، ولم يشكل منزله طيلة السنوات السابقة سوى مزاراً للمنافقين والانتهازيين. وإذا تحدث مرشح عن ضرورة استتباب الأمن فهو بالتأكيد أحد أسباب الفلتان الأمني لأنه خلال وقوفه على رأس جهاز أمني في السنوات السابقة كان أول من تجاوز القانون وداس عليه. وأخضع سلوكه للشللية والعائلية وقام برعاية المتجاوزين للقانون داخل جهازه.

- أن الزيارات التي يقوم بها المرشحون هي في الأغلب للدواوين العائلية والعشائرية بالرغم من تضمن برامجهم الانتخابية عبارات quot;تعزيز إقامة المجتمع المدنيquot;. وهم بهذا السلوك الممارس إنما يكرسون العشائرية، ويحتكمون لها. والكل بات يعرف أن تكريس العشائرية يكون على حساب سلطة الدولة وسيادة القانون. فالقوائم الانتخابية قد احتكمت في اختيار العديد من مرشحيها للعائلية والعشائرية. فهذا ابن عائلة كبيرة وذاك ابن عشيرة كبيرة وهكذا دوليك. وبالطبع يسود الحديث داخل الدواوين بين المرشحين ومستقبليهم ليس عن برنامج انتخابي وإنما عن وعود مستقبلية بتوظيف عدد من أبناء العائلة وهكذا. وبالتالي تبدأ عملية الرشوة والمحسوبية والتي تشكل عنصراً رئيساً من عناصر الفساد منذ اللحظة الأولى للحملة الانتخابية. وهي بالتالي عملية ابتزازية يخضع لها المرشح قبل وصوله إلى المنصب. وبالتالي أصبحت الحملات الانتخابية تشكل ميداناً للمنفعة المشتركة والمصالح الشخصية المتبادلة على حساب قضايا الوطن والصالح العام.

- إن كثرة المرشحين المستقلين ليس دليل عافية وصحة التعددية السياسية الفلسطينية كما يبدو للوهلة الأولى بل هي في الواقع دليل على مرض مجتمعي تسيطر علية نرجسية العائلة وتنافسها مع عائلات أخرى. فالكثير من المرشحين تم فرزهم نتيجة تنافسات شخصية داخل عائلتهم أو عشيرتهم. أو انشقوا عن فصيلهم وتمردوا على قراراته نتيجة انعدام الحوار الديمقراطي، وتفكك الهيكل التنظيمي داخله. وبالتالي تم نقل الأحقاد والصراع الشخصي والعائلي أو التنظيمي الفصائلي الداخلي إلى مستوى أكبر. حيث يبدو للوهلة الأولى أن العديد من المرشحين لا يمتلك أدنى المقومات والكفاءات المطلوبة لنائب المجلس التشريعي. ولكن كيف ترشح العائلة الفلانية في المدينة أحد أبنائها والعائلة الأخرى لا ترشح مقابل له وهكذا دوليك. وكل ذلك يوضح بشكل جلي سيطرة الأنا الشخصية والعائلية على حساب المصلحة الوطنية.

- إن ما يمارس من قبل بعض الفصائل من تقديم رشاوى مادية أو عينية أو وظائف... الخ هو بحد ذاته سلب لإرادة الناخب. حيث يتم استغلال الأوضاع الاقتصادية للمواطنين في عملية محمومة لشراء ذمتهم. ويلعب هنا مقاولو الأصوات دوراً وسيطاً في ذلك. وهذا يعد تعزيزاً للثقافة النفعية والميكيافلية في المجتمع. كما أن توظيف بعض الفصائل أو المرشحين للخطاب الديني في دعايتهم الانتخابية يشكل سلب لعقل الناخبين. وسلب الإرادة أو العقل يشكل انتهاكاً صارخاً للعملية الديمقراطية السليمة.

- إن حجم الإنفاق في الحملات الانتخابية يبدو كبيراً مقارنة بالأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة في الأراضي المحتلة، وهذا يضع علامات استفهام كبيرة عن مصدر هذه الأموال أولاً، وعن كيفية الإدارة المالية داخل الفصائل ولحساب من.

- يبدو من السجال الإعلامي للفصائل في دعايتها الانتخابية أن المجلس القادم سيكون منبراً إعلامياً للفصائل وساحة للمزايدات والخطب الرنانة. وقد يرى البعض في ذلك حرية للتعبير وإبداء الرأي ولكن الإسهاب في طرح المواقف والاطراد والسرد الممارس على أرض الواقع سيشكل في المستقبل عائقاً وسيحول جلسات المجلس التشريعي إلى ظاهرة صوتية ليس إلا.

- إن التصريحات الصادرة عن بعض المرشحين في القوائم تبرز تناقض في الخطاب الإعلامي والسياسي داخل الفصيل. فهذا يصرح بالرفض المطلق للتفاوض مع العدو، وذاك يصرح بقبول التفاوض معه. وهذا يصرح بالمشاركة في تشكيل الحكومة في حالة الفوز فيما يصر الآخر على رفض المشاركة وثالث يصرح أن هذا الموضوع لم يبحث بعد. ويبرز هذا التناقض ضبابية البرنامج السياسي للفصيل وعدم وجود رؤية واضحة له بالرغم من أن لحظة الوصول للمجلس قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى. وهذا السلوك ربما سيصيب المجلس التشريعي القادم بالشلل نظراً لعدم التجانس الكبير داخل المجلس. وعدم وجود أرضية من الحد الأدنى للتفاهم بين السلطة التشريعية والتنفيذية.

د. خالد محمد صافي

كاتب وأكاديمي مقيم في غزة، فلسطين